دمجُ المؤسساتِ الحكوميّةِ غَيرِ الوزاريّةِ خُطوةٌ بالاتّجاهِ الصحيحِ نَحوَ ترشيقِ العملِ الإداريّ وترشيدِ النفقاتِ

بقلم: مؤيد عفانة

مؤيد عفانة
  • بقلم: مؤيد عفانة
  • باحث في قضايا الموازنة العامة

   أصدرَ مجلسُ الوزراء الفلسطينيّ في جلستِه رقم (84) بتاريخ 23/11/2020م، قراراً بـ (دراسة الوضع القانوني لـ 63 مؤسسةً حكوميّةً غيرَ وِزاريّةٍ، وإمكانيّةِ دمجِها ضمِها أو إلغائها)، وفي جلستِه الأخيرةِ رقم (89) بتاريخ 28/12/2020م، صادقَ مجلسُ الوزراء على (دمجِ وإلحاق وإلغاء أكثر من 25 مؤسسةً رسميّةً غيرَ وزاريّهٍ؛ لتحسينِ الخِدماتِ ورفعِ مستوى التنسيقِ ومنعِ الازدواجيّةِ وترشيدِ النفقات).

ولعلَ العبارةَ الأخيرةَ في قرارِ مجلس الوزراء هي العنصرُ الحاكم في الموضوع؛ حيثُ وردَ فيها جملةُ قضايا إداريّة وماليّة تمثلتْ في: تحسينِ الخِدمات، رفعِ مستوى التنسيق، منع الازدواجيّة، والنقطةُ الأهمُّ هي ترشيدُ النفقات، فكلُّ ما سبقَ يؤشرُ، وبشكل جليّ، إلى أنّ قرارَ الدمج والالحاق والإلغاء هو قرارٌ إداريّ سليم، فمن أسس الإدارة العامّة الكفؤة: ترشيق العمل الاداريّ، إضافة الى الضرورة المالية الملحّة لترشيد النفقات، في ظلّ الأزمة الماليّة البنيويّة التي تعاني منها الموازنةُ العامّة، وانفاذاً لمتطلبات الحوكمة في فلسطين، وإنّ تأخرَ هذا القرار، بسبب استنزاف تلك المؤسسات الحكوميّة غير الوزاريّة لملايين الشواكل من الموازنة العامّة، التي تعاني من عجز ماليّ غير مسبوق، بسبب تراجع الدعم الخارجيّ، وارتفاع تكلفة النفقات العامّة، إلا أن قرار مجلس الوزراء من أيام قصيرة خلت بدمج والحاق وإلغاء 25 من تلك المؤسسات خطوة بالاتجاه الصحيح، وقرار حكيم، ولزاما الحاق هذا القرار بخطواتٍ أخرى لدراسة الوضع القانوني والفائدة المتأتيّة من بقية تلك المؤسسات.

وتكمنُ أهميةُ هذا القرار في كون الموازنة العامّة في فلسطين لم يعد باستطاعتها المواءمة ما بين الإيرادات والنفقات، فمنذ سنوات عدّة، يتم إقرار الموازنة العامّة بفجوة تمويليّة، بعد كل مصادر التمويل الأخرى، من إيرادات ومنح ومساعدات وقروض بنكية، وبلغت تلك الفجوة في موازنة العامة 2020م حوالي 5 مليار شيكل، من أصل حوالي 17.8 مليار شيكل إجمالي الموازنة العامّة، أي أن الفجوة الماليّة تشكّل (28%) من إجمالي الموازنة، وهذا الحد الأدنى من العجز بافتراض أن أموال المنح والمساعدات المقدرة ستصل، وأن الإيرادات المتحققة ستكون تبعا للمقدرة، وأن إسرائيل لن تحتجز أو "تقرصن" أموال المقاصّة.

    

 ولا تلوحُ في الأفق أيّة مؤشراتٍ علميةٍ واقعية على "انفراجة" حقيقيّة في الوضع المالي للسلطة الوطنية الفلسطينية، فعلى سبيل المثال لا الحصر، بلغ التمويل والدعم الخارجيّ حوالي 50% من الموازنة العامّة في العام  2010، في حين تراجع الى 12.5% فقط في موازنة 2020، ومن المتوقع استمرار هذا التراجع، أو على الأقل عدم ارتفاع الدعم الخارجيّ، وحتى الدعم العربيّ تراجع بشكل كبير وحادّ، ولا توجد مظلةُ أمان عربية، كما أن هامش المناورة لوزارة الماليّة في إدارة المال العام سيبقى محدوداً ما لم يتمُّ اتخاذ إجراءات ثوريّة، ومثال عليها إلغاء ودمج المؤسسات الحكومية غير الوزاريّة، خاصّة وأنه بمراجعة بسيطة لتلك المؤسسات الحكومية غير الوزارية الـ (63) يُلاحظ كمُّ التداخل فيما بينها، وازدواجيّة العمل والصلاحيات، والتي يمكن أن تُعيقَ الإدارة العامة في فلسطين، ولا يشكّل أيةَ قيمة مضافة وجودُ بعضها، و"ترفية" وجود بعضها الآخر، فنحن لم نصل بعد للدولة المستقلة كاملة السيادة والتي تحقق فائضاً في الموازنات من أجل استحداث هيئات ومؤسسات "ترفية" تبعا للمرحلة الحاليّة، والتي ما زالت في مرحلة معركة التحرر وبناء الدولة، والانعتاق من نيرِ الاحتلال الجاثم على أنفاسنا، والمُلتهم لأراضينا، والمغتصب لحقوقنا الوطنية، في ظل تواطؤ دولي وخذلان عربيّ.

 

لذا يجبُ أن تلحق هذه الخطوة الجيدة بإلغاء ودمج المؤسسات الحكومية غير الوزاريّة إجراءاتٌ أخرى أكثرُ عمقاً في ذات السياق الثوريّ، من أجل معالجة الخلل الهيكليّ في الموازنة العامّة، وتصويب الإدارة العامّة في فلسطين، خاصة وأن العديد من رؤساء تلك الهيئات يحمل رتبة "وزير"، بالإضافة إلى وجود الفئات العليا من الموظفين العموميين، وما يتبع ذلك من كلفة مرتفعة للرواتب والأجور والمساهمات الاجتماعيّة الحكوميّة لصندوق التقاعد والمعاشات لتلك الفئات، عدا تكاليفها التشغيليّة والرأسماليّة والتحويليّة والتطويريّة الكبيرة، وهذه المرحلة تُوجِب على الحكومة تبني نهج "ثوري" لمعالجة عجز الموازنة العامّة، ويجب اتخاذُ المزيد من الإجراءات "الدراماتيكية" في سبيل ذلك، خاصة مع المؤشرات كافة التي تشير إلى تعمّق الأزمة الماليّة، والانكماش الاقتصادي، فتبعا لتقارير الجهاز المركزيّ للإحصاء الفلسطينيّ، فقد شهدَ العام 2020 تراجعاً في الناتج المحليّ الإجماليّ بنسبة 12% مقارنةُ مع عام 2019، وشهدت معظمُ الأنشطة الاقتصاديّة تراجعاً في القيمة المضافة؛ مما أدى لانخفاض ملحوظ في نصيب الفرد من الناتج المحليّ الإجماليّ، وتزايد في عدد العاطلين عن العمل لتدخل فئات جديدة إلى دائرة الفقر، وليتراجع بذلك مستوى الطلب العام لمؤشريّ الاستهلاك والاستثمار الكلي. كل ذلك سيلقي بظلال قاتمة على الموازنة العامّة في فلسطين، تبعا لانكماش الدورة الاقتصاديّة وتراجع الإيرادات العامة المتمثلة بالضرائب بأشكالها كافة، خاصة وأن العمود الفقري للموازنة العامّة هو الإيراداتُ الضريبيّة المحليّة أو من خلال المقاصّة.

وفي ضَوءِ ما تقدّم، فان الإجراءات "الفنيّة" للحكومة ووزارة الماليّة لن تستطيع الصمود طويلاً أمام تعمّق الأزمة الماليّة في الموازنة العامّة، واتساع فجوة العجز فيها مع عنصر الزمن، وتكلفة الحلول الثورية، وأن كانت صعبة او غير متقبلة من بعض الفئات التي تتعارض مصالحها مع الإجراءات الحكومية التصحيحية، الّا أن تكلفة الأزمة المالية الراهنة واتساعها ستكون أكثر صعوبة وقسوة على الفئات الفقيرة والمهمشة، وبكل الأحوال فإن الحلول الحالية ستكون أفضلُ منها بعد زمن، خاصّة مع نشوء مصطلح "الأحداث اللاحقة"، والتي تجعل من الحلول المستقبليّة امراً شائكاً ومعقداً.

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت