أصدر مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات ورقة علمية بعنوان: "أزمة إيرادات المقاصّة للسلطة الفلسطينية في سياقها السياسي وتداعياتها الاقتصادية" وهي من إعداد الباحث في الشأن الاقتصادي رائد محمد حلّس، الذي اعتبر أن جوهر مشكلة الاقتصاد الفلسطيني يكمن في تبعيته للاقتصاد الإسرائيلي، واعتبر ذلك نتيجة للسياسات التي بلورتها سلطات الاحتلال لتشكيل وتوجيه الاقتصاد الفلسطيني بما يخدم مصالحها، وبما يحول دون تحقيق تطوّر حقيقي يخدم قيام دولة فلسطينية. ورأى أن التبعية الاقتصادية حرمت الاقتصاد الفلسطيني من تطوير مؤسساته وصياغة علاقاته الاقتصادية وفقاً لأهدافه وتطلعاته، ووضع السياسات الاقتصادية الملائمة لمصالحه، واتخاذ القرارات اللازمة، بالإضافة إلى السيطرة على الموارد المتاحة.
ورأى أنَّ هذا الوضع قد أثَّرعلى الاقتصاد الفلسطيني تأثيراً سلبياً واسعاً، حتى بعد قدوم السلطة الفلسطينية سنة 1994، نتيجة لأن السلطة الوطنية الفلسطينية لم تتمكن، بعد تأسيسها، من صياغة رؤية واضحة وتنفيذها، للتخلص من التبعية الاقتصادية للاقتصاد الإسرائيلي، وذلك بسبب عدم قدرتها على تغيير هذا الواقع من جهة، وفقدانها السيطرة على أدوات السياسات الاقتصادية (المالية، والنقدية، والتجارية)، وعلى معابرها ومواردها الطبيعية من جهة أخرى. وبالتالي بقيت معظم أدوات السياسات الاقتصادية الرئيسية في أيدي الإسرائيليين، أهمها إيرادات المقاصّة التي استخدمتها "إسرائيل" في أحداث سياسية وأمنية مختلفة، للضغط على السلطة الفلسطينية، لابتزازها مالياً وسياسياً، ما يدفع الحكومة الفلسطينية لتدارك هذا الوضع ومحاولة تعزيز استقلاليتها السياسية، وكذلك استقلالية مواردها المالية حتى لا تقع تحت الابتزاز المالي لـ"إسرائيل".
في ضوء ذلك، تناولت الورقة نشأة إيرادات المقاصّة وتطورها، وبحثت في ثناياها جوهر الأزمة المتكررة من خلال تحليل سياقها السياسي ومناقشة أبعادها الاقتصادية، سواء من جهة إجراءات الاحتلال الإسرائيلي، أم من جهة الخطوات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة الفلسطينية في مواجهة هذه الأزمة، وقدّمت مقاربة اقتصادية جديدة لبناء اقتصاد وطني وتعزيز مقوماته، والحفاظ على عدم تراجعه، أو التخفيف من حدة الاختلالات الهيكلية والتشوهات فيه.
وخلص حلس إلى أن التوجه نحو تطبيق هذه المقاربة الاقتصادية يرتكز بشكل أساسي على خيار "اقتصاد الصمود" لتعزيز ودعم صمود الشعب في مواجهة الاحتلال في إطار الانفكاك الاقتصادي، على الرغم من وجود الاحتلال، ووجود إطار مقيّد ومعيق لهذا الاقتصاد، يتمثل في بروتوكول باريس الاقتصادي. ورغم أن تطبيق انفكاك التبعية الاقتصادية مع اقتصاد الاحتلال قد لا يكون سهلاً، ولكنه في الوقت ذاته ليس مستحيلاً، وبالتالي هناك خطوات وإجراءات تستطيع الحكومة الفلسطينية تطبيقها، من شأنها إحداث تغيير جوهري في العلاقات الاقتصادية القائمة، خصوصاً لجهة إحداث إصلاح جوهري للتشوهات والاختلالات التي سببها الاحتلال من خلال السيطرة على الأرض والموارد والحدود والمعابر والسياسات، وذلك باتباع توجهات استراتيجية بديلة تحل محل الزواج الأبدي مع الاقتصاد الإسرائيلي، والأسواق الإسرائيلية، والوسطاء الإسرائيليين للحدّ من التبعية الاقتصادية وإضعاف هيمنة الاقتصاد الإسرائيلي على النشاط التجاري الفلسطيني، وهذا يمكن تطبيقه بتعزيز القدرات الذاتية للاقتصاد الفلسطيني، وتقليص الارتهان المعيشي الفلسطيني لـ"إسرائيل"، وتنويع العلاقات الاقتصادية مع الدول العربية ودول العالم الخارجي، وكذلك تقليص قدرة "إسرائيل" على استغلال الاعتماد المفرط عليها لتمرير سياسة التعايش مع الإملاءات الاقتصادية والأمنية والسياسية والإسرائيلية والتأقلم معها، عبر التوصل إلى ترتيبات اقتصادية وتجارية بين الاقتصاد الفلسطيني والدول المجاورة ودول العالم الخارجي، بما فيها "إسرائيل"، ولكن على أسس جديدة وخارج إطار بروتوكول باريس الاقتصادي، وذلك لتفكيك علاقة التبعية مع اقتصاد الاحتلال والحد من استخدام مثلث الأمن والسياسة والاقتصاد في التعامل مع الأراضي الفلسطينية، والانتقال بالاقتصاد الفلسطيني من اقتصاد صغير وضعيف وتابع، إلى اقتصاد قوي ومستقل ذي قاعدة إنتاجية قادرة على إيجاد فرص عمل وتوفير منتجات وطنية محلية ذات جودة عالية وقادرة على المنافسة، وتحل محل المنتج المستورد، وخصوصاً المنتج الإسرائيلي.