- د. سنية الحسيني
جاء مرسوم الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) في الخامس عشر من الشهر الجاري، والداعي لاجراء انتخابات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في اطار تحولات محلية وإقليمية ودولية، لا تنفصل بأي حال من الأحوال عن هذا التطور السياسي الهام. ولا تعتبر الدعوة لاجراء انتخابات في الأراضي المحتلة حدثاً جديداً، اذ تم الإتفاق بين الفصائل الفلسطينية أكثر من مرة، خلال العقد الأخير من عهد سنوات الانقسام، على اجراء تلك الانتخابات فيها لكن دون سبيل. ويعكس اصدار مرسوم رئاسي رسمي هذه المرة جدية هذه الخطوة وإمكانية تحقيقها.
وتأتي هذه الانتخابات متتابعة أي تبدأ بالانتخابات التشريعية في مرحلتها الأولى، الأمر الذي قد يعطل وصولها إلى المراحل التالية. كما أنها تأتي فقط في نطاق الأراضي الفلسطينية المحتلة، الأمر الذي يعني أنها تخضع لمعطيات وقواعد اتفاقيات أوسلو. هذا بالإضافة إلى أن هذه الانتخابات تأتي تحت سلطة الاحتلال الذي يتحكم فعلياً بمفاصل الحياة الفلسطينية، ويرفض صراحة اجراء تلك الانتخابات في القدس، انطلاقاً من اعتبارات سياسية.
ورغم تلك المعطيات الهامة، والتي تعد جميعها قضايا مصيرية في صميم القضية الفلسطينية، خصوصاً فيما يتعلق بضرورة اجراء انتخابات لدولة فلسطينية تحت الاحتلال تمثل الكل الفلسطيني في الداخل بما فيها مدينة القدس وفي الشتات، الا أن هذه الخطوة تعد مقدمة لا يمكن الاستغناء عنها في طريق تحقيق الأهداف الوطنية التي تم الإعلان عنها في اجتماع الأمناء العامين في شهر أيلول من العام الماضي. ستساهم الانتخابات إن نجح الفلسطينيون في الوصول إلى المرحلة الأولى منها في تحقيق أمرين؛ الأول يتعلق باستعادة المظهر الديمقراطي والقانوني في الأراضي المحتلة، وهي قضية هامة تعكس حالة الشرعية الفلسطينية سواء على المستوى الدولى الذي يؤمن بالتمثيل الديمقراطي أو على مستوى الوطني الذي سيجسد مظاهر الحياة الديمقراطية وعلى رأسها وجود سلطات ثلاث تتمايز وظائفها وتتكامل؛ والأمر الثاني والذي لا يقل أهمية عن الأول يتعلق بالوحدة والمصالحة الفلسطينية، والتي لم ينجح الفلسطينيون في تحقيقها طوال تلك السنوات الماضية. وتعد هاتان الخطوتان أساسيتين لاستعادة الثقة الشعبية الفلسطينية التي تأثرت كثيراً بعد سنوات طوال من الانقسام، تلك الثقة اللازمة لبدء أي خطوات للانطلاق نحو المرحلة التالية في مواجهة سياسات الاحتلال وبناء الدولة الفلسطينية التي يتطلع اليها الفلسطينيون.
كان هناك العديد من التحولات الدولية والإقليمية الهامة التي تأثر بها الفلسطينون مؤخراً، فجاء نجاح جو بايدن في الانتخابات الأميركية الأخيرة لينهي مرحلة من الجمود في العلاقات الأميركية الفلسطينية ومقدمة لمرحلة جديدة تحمل الأمل في تجدد العملية السلمية لتسوية القضية الفلسطينية. جاء ذلك التحول في اطار دعوات دولية وغربية تدعو الفلسطينيين لاجراء انتخابات تنهي الانقسام وتجدد الشرعية وتحقق الديمقراطية في الأراضي المحتلة. وعلى المستوى الإقليمي العربي، شهدت الحقبة الأخيرة حدثين ساهما بشكل كبير في إعادة بلورة الرؤية الفلسطينية؛ الأول يتعلق باتفاقيات التطبيع بين أربع دول عربية وإسرائيل، منها دولتين خليجيتين، في تمرد صريح على مبادرة السلام العربية؛ والثاني يتعلق بالمصالحة الخليجية الخليجية، والتي يفترض أن يكون لها دور في تدعيم معادلة العلاقات العربية الإسرائيلية، في ظل معطيات الصراع الإقليمي الإيراني الإسرائيلي العربي.
جاء المرسوم الرئاسي بعقد الانتخابات، بعد أن قام الرئيس أبو مازن باجراء تعديلات جوهرية على قانون الانتخابات، تبعها ارسال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس رسالة يوافق من خلالها على اجراء الانتخابات بشكل متتابع. ويعكس ذلك التسلسل ما بين التعديلات على قانون الانتخابات ورسالة هنية بالموافقة على اجراء الانتخابات وصدور المرسوم الرئاسي لاجرائها توافقاً بين حركتي حماس وفتح لم يحصل من قبل طوال عهد الانقسام. هذا التوافق بين الحركتين قد جاء على الرغم من عدم الوصول لتفاهمات حول القضايا الجوهرية المختلف عليها فيما بينهما. وحسب نص المرسوم ستجري الانتخابات البرلمانية القادمة في الثاني والعشرين من شهر أيار القادم، بينما ستجري الانتخابات الرئاسية في الوحد الثلاثين من شهر تموز القادم، على أن يستكمل تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني حتى نهاية شهر أب القادم. ويبدو من تلك المواعيد التي تم اعتمادها للانتخابات بان انتخاب المجلس الوطني لم يكن لها الأولوية عندما جرى هذا التوافق بين حركتي فتح وحماس.
وافقت حركة حماس بالتخلي عن شرطها باجراء انتخابات رئاسية وتشريعية بالتزامن. وقام الرئيس أبو مازن بالتعديل على قانون الانتخابات بحيث بات لا يشترط على أعضاء التشريعي الاقرار بأن منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وعلى الرغم من أن هذا التعديل قد طال المادة الخاصة بأعضاء التشريعي لكنه لم يشمل المادة الخاصة بالرئيس، اذ بقي على الرئيس الاقرار بذلك. وسواء ما ورد عن التزام حركة حماس بعدم نيتها خوض الانتخابات الرئاسية كان صحيحاً أو غير صحيح، الا أن ذلك التعديل في قانون الانتخابات الذي طال أعضاء التشريعي دون الرئيس، يعد مؤشرا على أن التوافق بين الطرفين قد جرى على أساس أن التنافس بين الطرفين سيجرى على عدد مقاعد المجلس التشريعي فقط. بل إن مجرد موافقة حركة حماس على اجراء الانتخابات التشريعية قبل الرئاسية، يعطي مؤشراً واضح لحركة فتح على نتائج الانتخابات الرئاسية. الا أن الحديث عن خوض الانتخابات التشريعية في اطار قائمة وطنية مشتركة موحدة، والتي جرى الإشارة اليها من قبل قيادات في حركتي فتح وحماس، ترجح أن الاتفاق بين الحركتين قد جاء في اطار التوافق لا التنافس بينهما. إن ذلك يجعل هذه الانتخابات استفتاء على شرعية القيادة الفلسطينية أكثر من كونها انتخابات حقيقية، الا أنها كافية لتحقيق مآرب الطرفين.
ولا يوجد ضمان لاجراء هذه الانتخابات رغم صدور مرسوم رئاسي يدعو لذلك. لم توافق إسرائيل حتى الان على اجراء الانتخابات في القدس، ذلك الرفض الاسرائيلي قد شكل الذريعة لتأجيلها عام ٢٠١٩، الا أنه لا يكفي هذه المرة لمنع اجرائها، على الاقل حتى الان. كما أن استمرار تفاقم أزمة فايروس كورونا قد يشكل عائقاً أمام عقد هذه الانتخابات، الا أنه لا يكفي لمنع عقدها أيضاً، إذا استمر التوافق السياسي بالمضي قدماً لاجرائها. الا أن العائق الحقيقي الذي قد يحول دون عقد الانتخابات هو انفجار الخلافات المركزية بين الحركتين، والتي تم التغاضي عنها لتحقيق هذا التوافق حول اجراء الانتخابات. ويعد اللقاء المتوقع مطلع الشهر القادم في القاهرة للتحاور حول تفاصيل اجراء الانتخابات وضمان نجاحها مؤشر مهم على مدي إمكانية استمرار ذلك التوافق.
في جميع الاحوال من شأن الانتخابات التوافقية إن حدثت، انقاذ المشهد الفلسطيني من حالة الجمود والترهل والانشقاق الذي يعيشه منذ سنوات، فالتوافق بين حركتي حماس وفتح قد ينهي الانقسام ولو شكلياً، ويجدد شرعية القيادة الفلسطينية، ويقوى أركانها للتصدي للتحديات القادمة. وتمهد هذه الانتخابات الطريق أمام الدخول في عملية سلمية تفاوضية من المتوقع أن يدعو اليها الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن لحل القضية الفلسطينية. كما أنها ستبطل الحجة التي طالما استخدمتها الحكومة الاسرائيلية، بعدم وجود شريك فلسطيني يمثل جميع الفلسطينيين، للتنصل من التزاماتها معهم في اطار العملية السلمية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت