- *نهى نعيم الطوباسي
عند الإطلاع على واقع العشوائيات المنتشرة في العالم، نجد أن فلسطين لا تخلو منها أيضا، الفارق أنها لم تنشأ هنا نتيجة الثورة الصناعية، أو بسبب الهجرة من الريف للمدينة، بل نتيجة سياسة الاحتلال الإسرائيلي الهادفة إلى تهويد مدينة القدس، والتطهير العرقي للوجود الفلسطيني، بالهدم ومصادرة الأراضي، وبناء جدار الفصل العنصري.
سياسات الإسكان الإسرائيلية العنصرية ضد الفلسطينيين في القدس الشرقية، لم تخصص للمنشآت الفلسطينية سوى 12% فقط، بالمقابل خصصت 35% من أراضي القدس الشرقية لبناء المستعمرات الإسرائيلية، بالإضافة إلى وضع العراقيل أمام إصدار تصاريح البناء للمقدسيين، مما يضطرهم للهجرة خارج الأحياء المركزية في القدس الشرقية، بسبب زيادة الكثافة السكانية. وحسب تصنيـف النظـام المتكامـل الفلسـطيني المـادي، هنـاك 44 تجمعا فلسطينيا فـي محافظـة القـدس، مقسـمة إلـى 38 منطقـة إداريـة، منهـا 10 تجمعـات تقـع ضمـن المناطق التي ضمتها إسرائيل بصورة غير شرعية وهي المناطق المعروفة ب(J1)، بينمـا تقـع بقيـة التجمعـات وهـي 28 تجمعا فـي مناطـق الضفـة الغربيـة (J2).
أشار مكتب تنسيق المساعدات التابع للامم المتحدة (اوتشا)، في تقريره لعام 2020 إلى أنه ورغم جائحة كورونا شهد عام 2020 أكبر عملية هدم منذ عام 2016، حيث تم هدم 689 مبنى في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، مما تسبب بتشريد وتهجير 869 مواطنا فلسطينيا، وتقدر منظمة مراقبة حقوق الإنسان أن هناك نحو 90 ألف فلسطيني في القدس الشرقية يعيشون حالياً في مباني مهددة بالهدم. وهذا ما يثير القلق حول مستقبل الوجود الفلسطيني في القدس.
وعلى الرغم من المعاناة الإنسانية والتنموية الصعبة في تلك التجمعات، تعتبر قصة صمود العشوائيات في القدس وضواحيها، قصة استثنائية وفريدة من نوعها وليس لها مثيل في العالم، هناك حكاية عن الصبر الذي لا ينفذ، وأياد قابضة على الجمر، والقصة لا تنتهي عند هدم البيت والتهجير، بل هناك فصل آخر من المعاناة ممزوجة بالتحدي والنضال، لذلك ارتبط وجود تلك التجمعات بالصمود والهوية الوطنية، كالمخيمات الفلسطينية، والتجمعات البدوية وغيرها. ولا بد من تسليط الضوء على التحديات التي تواجه تعزيز الصمود في تلك المناطق، أولها حالة العزلة التي تعيشها تلك التجمعات عن سائر المدن الفلسطينية، وعزلتها عن المجتمع الفلسطيني، ومن جهة أخرى نجد غياب الانسجام بين تلك التجمعات وباقي أحياء المدن الفلسطينية، مثلما تبدو الصورة عند الخروج من مدينة رام الله مرورا بكفر عقب ثم مخيم قلنديا، فهذا التباين العمراني والمادي، والاكتظاظ وغياب التنظيم، وصعوبة الحصول على الخدمات، وضعف البنية التحتية، ومشاكل الكهرباء والمواصلات والمياه النظيفة، في تلك التجمعات مقارنة بالمدن الأخرى، قد تساهم في توليد مشاعر الكراهية بين أبناء المجتمع الواحد. إن غياب سيادة القانون أسفر عن انتشار الفوضى والجريمة والأعمال غير المشروعة، وغيرها من الآفات الاجتماعية، مما أدى إلى غياب الأمن المجتمعي.
كيف لجيل كامل أن ينشأ في بيئة يغيب عنها القانون وتسودها الفوضى بكل مناحي الحياة؟ العالم النرويجي يوهان غالتونغ، وهو من أبرز المنظرين لعلم دراسات السلام والصراع، يعتبر أن الصراع هو عملية تفاعلية، تقوم على ثلاثة عناصر هي الاتجاهات والتناقضات البنيوية، والأهداف، والحقيقة أن تلك التناقضات البنيوية، والتنموية، والهيكلية كفيلة بإشعال أي نزاع بين سكان تلك التجمعات، وإذا لم تتم معالجة تداعيات هذا الخلل فنحن أمام قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في وجه المجتمع بأكمله.
لقد أظهر جاكوب ريس وهو صحفي ومصلح اجتماعي أمريكي، بدقة طبيعة الازدحام والمشقة في الأحياء التي تنتشر فيها العشوائيات في نيويورك، ونشر في كتابه “كيف يعيش النصف الآخر” الصادر عام 1890، صورا لواقع العشوائيات المأساوي، وبالمقابل أجبرت تلك الصور السلطات الأمريكية حينها، على العمل على تحسين واقع تلك العشوائيات.
إن تسليط الضوء على تفاصيل المعاناة اليومية للتجمعات العشوائية في فلسطين، وعلى التحديات التي تواجهها، ستساهم في تحديد الأولويات والاحتياجات لسكانها، وستخفف من حجم المعاناة اليومية لتلك التجمعات، التي دفعت ثمن هدم البيوت والتهجير وثمن الصمود.
نحن أحوج ما نكون إلى استرجاع الشخصية الفلسطينية المتماسكة والموحدة على بوصلة واحدة، الشخصية التي تذوب أمامها كل الفوارق. عندما يحاول الاحتلال كسر أبناء شعبنا بهدم بيوتهم واقتلاعهم من أرضهم، يجب أن يشعروا أن شعبنا الفلسطيني هو الظهر والملاذ والجدار الذي يستندون عليه. إن تماسكنا الإجتماعي يبقى العامل الأهم الذي يجعلنا أكثر قدرة على الثبات والصمود، وقلعتنا المنيعة في وجه المخططات الإسرئيلية مهما طال الزمن، حتى في ظل أقسى الظروف السياسية والاقتصادية الصعبة. لذلك لا بد من توحيد كافة الجهود للنهوض بواقع تلك التجمعات، وجدير بالذكر أن خطة عنقود العاصمة التنموي، التي أعلنها رئيس الوزراء الدكتور محمد اشتية، نموذج لتوحيد الجهود والقدرات، لكسر القيود والعمل في القدس رغم كل المعيقات، والإصرار على حماية الوجود الفلسطيني في العاصمة، حيث تمثل هذه الخطة تحديا حقيقيا لسياسة الاحتلال الإسرائيلي الرامية إلى تهويد القدس بالكامل. إن توحيد الجهود للعمل في كافة التجمعات الفلسطينية، والتي نتجت عن التهجير القسري، أو المهددة بالهدم والاستيطان، هو بمثابة تحد حقيقي للاحتلال، وهذه الخطة كفيلة بإبطال مخططات الاحتلال، وقادرة على تمكين أبناء شعبنا في تلك التجمعات، إنهم أبناء شعبنا الصامدين المعذبين، الذين يدركون أنه على مسافة ليست بعيدة، هناك فرصة للعيش برفاهية، ولكنهم فضلوا العيش في بيوت من الصفيح، وفي مخيمات مقهورة، حفاظا على الهوية، ومازالوا مرابطين ومؤمنين، أنه مازال للحكاية فصل أجمل سيتحقق عاجلا ام آجلا، أنه الحلم الذي لم تصهره حراراة الصيف، ولم تغرقه أمطار الشتاء، ولم تتمكن منه وحشية الاحتلال.
أخيرا، ستبقى التنمية تحت الاحتلال تحديا كبيرا وعملية معقدة، خصوصا في المناطق التي يصعب وصول الحكومة الفلسطينية إليها كونها خاضعة للسيطرة الإسرائيلية أو محاصرة، ولكن أية جهود تقوي النسيج الإجتماعي الفلسطيني، وتعزز صمود المواطن الفلسطيني على أرضه ستكون لصالح تنمية متوازنة من جهة، وستحمي المشروع الوطني الفلسطيني من جهة أخرى.
*ماجستير في التنمية وحل الصراعات
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت