- خالد بركات
هل يمكن أن تُشكّل “انتخابات” مجلس الحُكم الذّاتي في الضفة وغزّة مَدخلاً وطنياً لإنهاء الأزمة الداخليّة الفلسطينية أم أنها ستعمل على تعميق حالة الشرذمة والتفكك في الواقع الفلسطيني وتُعيد إنتاج الأزمة والفشل من جديد؟ وما هي حصيلة التجارب السابقة لهذه الانتخابات الفلسطينية والدروس التي يجب استخلاصها من هذه التجربة المريرة، وقد جرى عقدها أكثر من مرة؟ وأخيرًا، هل القوى الداعية والجهات الراعية “للانتخابات التشريعية والرئاسية” تحظى بالثقة الشعبية أو بالشرعية الوطنية والدستورية؟
نحن نزعُم أن هذه الانتخابات – المسرحية – المُكررة كانت ولا تزال طبخة أوروبية أمريكية خليجية جاهزة، وهي طبخة مسمومة تنعقد بقرار أجنبي كُلّما استدعت الحاجة لها، ولم تكن مرّة واحدة بقرار شعبي ووطني فلسطيني، بل ويمكن للكيان الصهيوني شطب نتائجها بجرة قلم واحدة من ضابط صهيوني يناوب في ” الإدارة المدنية”، كما يمكن أن تُستدعى – أو تؤجل – بقرار أجنبي أيضاً.
لنتذكر كيف رفض الكيان الصهيوني ومعه ” المجتمع الدولي” نتائج الانتخابات الفلسطينية في العام 2005- 2006 لأن نتائجها جاءت خلافًا للرّغبة الامريكية الصهيونية وعملائها في المنطقة.
إن انتخابات مجلس الحكم الذاتي في الضفة وغزّة مسرحية هزلية تجري بتمويل ورعاية من أمريكا والإتحاد الأوروبي والنظام العربي الرجعي + تركيا. وهذا معسكر العدوّ الشامل الذي أسَّس لنكبة الشعب الفلسطيني وأقام كيان الإحتلال الإستيطاني العنصري في فلسطين واحتضن مسار مدريد – أوسلو الكارثيّ ، وهو المعسكر الذي يدعم مراكز التنسيق الأمني بالمال والسلاح والرعاية السياسيّة وهو الطرف الذي يقرر ويموّل هذه الإنتخابات الفلسطينية “الديموقراطية جداً” تحت حراب الاستعمار الصهيوني التي ستجري تحت عيون وسيطرة الاحتلال وضباطه ومخابراته.
هل حقاً يمكن عقد انتخابات (حرة ونزيهة وديموقراطية) تحت الاستعمار وفي بطن الحصار والمعازل؟
إن الأهداف السياسيّة وراء هذه العملية المزيفة لا حصر لها، تعمل على إشاعة الوهم حول إمكانية التعايش بين ” الديموقراطية والاستعمار” وتكرّيس مؤسَّسات كيان اوسلو (سُلطة الحكم الإدراي الذاتي المحدود) كخيار وحيد وأخير أمام الشعب الفلسطيني وتشريع لمنظومة الاستعمار والعنصرية عبر التدجين السياسي والثقافي والتدحرج في مشروع تصفية فلسطين، تصفية القضية والحقوق والأرض، وهذه المرة بأيدي الفلسطينيين أنفسهم بل وبصوتهم أيضاً.
فما هي هذه ” الانتخابات الحرة والنزيهة ” التي يجري الإعداد لها اليوم لـ” سكان المناطق في غزة ويهودا والسامرة” ؟ إنها بعبارة واحدة
انتخابات للرهائن والعبيد:
لماذا إنتخابات للعبيد؟ لأن المشاركة فيها قبول بالدونية من جهة وتشريع لاتفاقيّات أوسلو والتزاماتها الأمنيّة والاقتصاديّة والسياسيّة من جهة أخرى، تشريع فلسطيني رسمي و”شعبي” للكيان الصهيوني هذه المرة، وسياسات نهب الأرض والاستيطان والقتل والاعتقال التي يواصل العدوّ الصهيوني انتهاجها على الأرض الفلسطينية. كما أن هذه “الانتخابات” يجري تسويقها باعتبارها “مدخلاً لإنهاء الانقسام” ، ولو كان هذا صحيحاً فلماذا إذن لم تحقق الانتخابات السابقة هذا الهدف؟ بل ما حدث كان العكس تماماً.
انتخابات مؤسَّسات الحُكم الذّاتي هي مواصلة لمسار الفشل الفلسطيني الرسمي والفصائلي وما يسمى مؤسَّسات “المجتمع المدني” ومن يقدموا تقاريرهم الدورية إلى الاتحاد الاوروبي . إنها تقديم أوراق اعتماد السلطة الفلسطينية للسيد الجديد في البيت الأبيض، الـ مستر جو بايدن، لا أكثر ولا أقل.
قرار إجراء الانتخابات نفسها،حتى وفق من يسوقون لها، جاءت نتيجة “تشجيع” من الاتحاد الاوروبي وروسيا وتركيا وقطر بحسب القيادي الفتحاوي نبيل عمرو. وهذا ما يؤكده شريكه طاهر النونو القيادي في حركة حماس. فإذا كان اليمين الفلسطيني في شقيه ” الملتحي” و” المحلوق له” قد توافقاً على الانتخابات فإن هذا يشكل إنحيازاً صارخاً لمصالحهما الحزبية الضيقة والصغيرة على حساب القضية والحقوق الوطنية. وإذا كان ” مفهوماً” للحركتيين الذهاب في هذا المسار العبثي لإرضاء المحاور ومرجعياتهم في المنطقة فما الذي يدعو بقية القوى الفلسطينية للمشاركة في هذه الانتخابات؟
اليسار وانتخابات العبيد:
ليّس سرًا أن هناك محاولات لجرّ “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” و” الجهاد الإسلامي” وغيرها من قوى وطنية لدائرة العبث من جديد ودفعها للمشاركة في ما يُسمى “الانتخابات التشريعية والرئاسية” لقد سبق أن شاركت الجبهة الشعبية كما هو معروف في انتخابات عام 2005 و 2006 ثم اكتشفنا، بالتجربة العملية والمريرة، أن هذا القرار ألحق أشدَّ الأضرار بمصداقيتها ودورها وموقعها التاريخي والكفاحي، والدخول في مغطس أوسلو ..
ولم تحقق هذه المشاركة أي نتائج حقيقية لصالح شعبنا في “التشريعي” أو تجني خدمة ومنفعة للشعب الفلسطيني وحماية مؤسَّساته وحقوقه الوطنية، واعترفت الجبهة الشعبية،علناً، أن مشاركتها كانت ضارة وسلبية وفاشلة على المستويات كافة وكانت محصلة التقييم لها كارثيّة بامتياز.
لقد خَطّأت الجبهة الشعبية نفسها وقرارها حين أقدمت على المشاركة في انتخابات “التشريعي” ودعمها لمرشح ” الرئاسة ” د. مصطفى البرغوثي في حينه، وحسنًا فعلت في مؤتمرها الوطني السابع نهاية العام 2013 حين اعتبرت أن قراءتها السياسيّة كانت قاصرة وخاطئة، من المفيد التذكير أن من يحاولون اليوم تدجين قوى المقاومة للمشاركة في كذبة “الانتخابات” هم أول من قالوا لها بوقاحة وصلافة ” لقد دخلتم المجلس التشريعي ومؤسسات السلطة فلماذا تنتقدون “أوسلو” اليوم؟ غير أن هذا السؤال عينه يطرحه حريصون ومناضلون كُثر على الجبهة الشعبية من موقع العتاب الرفاقي ومن باب النقد الثوري الصريح.
الانتخابات وقوى الاستعمار:
يمكنك اليوم، في عالم العبودية المقوننة والزيّف الشامل، أن تُهندس “انتخابات” تُشبه الإنتخابات ” وتأتي بـ “رئيس ” يشبه الرؤوساء و” برلمان ” يشبه البرلمانات. وتسوق كل ذلك لجمهور محاصر ومُستلب الوعي والإرادة، يُقال له كل يوم “عندك دولة تشبه الدولة” وستوفر لكم الدول المانحة (قوى الاستعمار والصهيونية والرجعية) كل الرّقابة الدوليّة المُمكنة لضمان الشفافية وعَّد الأصوات الصحيحة! نعم، فهناك مجموعات وطواقم ستشرف على كل العملية، وعليك أن تشكرنا، ماذا تريد بعد؟
غير أن هذا كُله لا يمنع من حقيقة أن الانتخابات في الحالة الفلسطينية على نحوٍ خاصٍ هي عملية مُزيفة ومزورة سلفًا وغير شرعية بل هي جزء من ماكينة الفساد شكلاً ومضموناً، لأن الشروط المحيطة والأجواء العّامة التي تَسبِق وتُصاحب أيّ انتخابات هي التي تحُدد حُرّية ونزاهة العملية برمتها، فضلاً عن شرعيتها، وليس الأوراق والبطاقات والصناديق الإنتخابية. فهذا هو الشكل فقط، وسؤالنا عن الجوهر.. والجوهر فساد وعفن وتزييف.
تشبه هذه الصورة انتخابات ” ديموقراطية ” يشارك فيها مجموعة من الرهائن يختارون من بينهم من سيحمل مفاتيح السجن والأقفال ويدير شؤونهم بالتعاون والتنسيق مع العدوّ، لكنها في المحصلة النهائية انتخابات عبيد ورهائن.. هل الناس تحت الإحتلال وفي المعازل والحصار يختارون في حرية ونزاهة من يمثلهم؟ ومن يسن لهم وبإسمهم القوانين والتشريعات؟ .
الكيان الصهيوني ينتخب برلمانه (الكنيست) حتى لو إضطر إلى عقدها 3 أو 4 مرات في السنة، هذا لن يضيره في شيء، وهذا ما يجري في كيانات قوية ودول استعمارية من الطينة ذاتها مثل الولايات المتحدة واستراليا ونيوزليندا وكندا وغيرها..
الحالة الفلسطينية لها خصوصيتها المعروفة، فلم يحقق الشعب الفلسطيني مشروعه في التحرير وحق تقرير المصير، ولم يحقق العودة إلى وطنه ولم يفرض السيادة الوطنية في فلسطين حتى تمارس الجماهير الفلسطينية حقها الطبيعي في تقرير المصير فوق ترابها الوطني.
إذن، للعدو انتخابات الأسياد والديمقراطية، وله النظام والقانون، ولنا نحن انتخابات الخدم والعبيد من الدرجة العاشرة وتحت الإحتلال والحصار.
ويكذب البعض ويصدق نفسه حين يقول بوجود ” دولة” و ” رئيس ” و ” لواء ” و ” سفير” و”برلمان” فيما الشعب يدرك حقيقة هذا ” الرئيس” الفلسطيني ويعرف أنه يُمثّل رأس نظام الفساد السياسي الفلسطيني، لقد تجاوز الرجل عامه الـ 86 وفقد صلاحيته “كرئيس” منذ العام 2007 وفق قوانين سلطة الحكم الذاتي نفسها، فالسلطة الفلسطينية ليّست وكيلة للاستعمار وغير شرعية وحسب؛ بل أنها شاخت وفشلت وتقادمت، ولا يزال يتعامل هذا الفريق الفلسطيني الأوسلوي مع المؤسَّسات الفلسطينية، ومع منظمة التحرير، باعتبارها مزرعة خاصة ورثها عن أجداده، كما ولا يزال البعض من معارضي أوسلو يُعَولّون بل ويسارعون للحوار معهم تحت مبررات إنجاز المصالحة واستعادة الوحدة الوطنية!
يُدرك الشعب الفلسطيني كل هذه الحقائق وقد اكتوى بنارها، غير أنه لا يملك حتى الآن الوسائل والآليات التي تُمَكّنه من تحرير قراره الوطني وفرض إرادته الشعبية، لم يتركوا أمامه إلا المشاركة في انتخابات برلمان العدوّ في المحتل من فلسطين عام 1948 أو انتخابات سلطة هزيلة ووكيلة للاستعمار الصهيوني في الضفة وغزة. وعلى الجماهير الفلسطينية في المنافي والشتات ان تظل تُراقب وتنتظر دورها، يقال لها : لقد انتظرت 73 سنة ..انتظري أكثر
يجب ألا نخدع أنفسنا والآخرين مرة أخرى، فالمطلوب اليوم: مسار فلسطيني ثوري وجديد، والشروع في بناء جبهة وطنية للمقاومة والتحرير، ومقاطعة هذا النهج التفريطي والمسرحية المهزلة التي تسمى “إنتخابات”، عملية مزيفة سُرعان ما تنقلب إلى دائرة من العبث والتيه يدفع ثمن فشلها فقراء الشعب الفلسطيني من دمهم وحقوقهم.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت