عصير ليمون-قصة قصيرة

بقلم: سامي الكيلاني

سامي الكيلاني

تبتلعه الفقاعة، وتتعلق في الفضاء فوق المعسكر، يصبح المعسكر المعتقل غارقاً في سكون يلفه كما تلف الفقاعة ساكنها، شعر أن هذا المكان يمتص روحه في هذه الساعة بغض النظر عن أي اسم يحمله، معتقل النقب الصحراوي، معتقل كتسعوت بلغة السجان، معتقل أنصار 3 بلغة المعتقلين. سكون يتبعه اختفاء تدريجي لكل شيء، فقاعة أخرى تمتص تدريجياً الخيام والساحة وسياج الأسلاك الشائكة وأبراج المراقبة والجنود المدججين بالسلاح حول ساحة الخيام، وتلتهم حتى أعمدة الكشافات الضوئية. كل شيء خارج الفقاعة يصبح كتلة من اللاشيء يلفها السكون. يسكن الفقاعة طافياً في فضائها، أمواج ترفعه عالياً ليحلّق على جناح الأمل والتفاؤل لحظة، ثم تأتي أمواج أقوى تلقيه في أغوار من التشاؤم.

تتملكه هذه الحالة مع اقتراب موعد انتهاء فترة الاعتقال الإداري، هل سيخرج من هنا أم سيجددون اعتقاله لفترة أخرى؟ وماذا يكلفهم التجديد أكثر من توقيع قائد المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال، كل يحتاجه الأمر قلب أسود حاقد وتوقيع على أمر جديد. نفض عن نفسه موجة القلق والتشاؤم التي هاجمته، وما أن لاحت له خيالات الصورة الأخرى حتى تمسك بها بقوة، ألقى نفسه في مياه التفاؤل. انفتحت الصورة البهية المأمولة، تمسك بها، عمل كل ما باستطاعته ليبقى فيها. يرى نفسه حراً يمارس يعانق زوجته وأطفاله، يغذي الصورة بتفاصيل، يمارس هوايته بالاستيقاظ مبكراً يوم العطلة الأسبوعية والانطلاق لإحضار الفطور التقليدي، يمشي في شوارع البلدة القديمة ويتسوق من محلاتها، ويستنشق الروائح التي تملأ أجواءها، تختلط الرائحة المنبعثة من حانوت العطار مع رائحة الخضروات الطازجة والنعناع من بسطة الخضار المجاورة، برائحة الخبز الطازج من الفرن المقابل. يعود بسيارته التي تركها عند مدخل البلدة القديمة إلى البيت ويجلسون حول مائدة الفطور.

تنغلق الصفحة، ينتعش الأمل بعدم تجديد الاعتقال الإداري لفترة أخرى. تضيق المسافة بينه وبين الأحباب، المسافة الكبيرة بالجغرافيا والتي تزداد في بعدها بمنع الزيارة عنه، تلك المسافة تتقلص، تصبح في تلك اللحظة صغيرة أمام الصور التي تفتحت في ذهنه حية للزوجة والأطفال. انفجرت الفقاعة، خرج من تحليقه في ذلك العالم الجميل ليسمع الأصوات التي تملأ المكان حوله. خيمته تضج بالنقاش الجديّ بين بعض الرفاق في الزاوية الجنوبية من الخيمة، وتضج بضحك متواصل من مجموعة أخرى في الزاوية الشمالية من نكتة أطلقها الأرنب، هكذا ينادي سكان الخيمة عبد الرحيم، ورغم إلحاحهم عليه يظل يؤجل وعده لهم بأن يخبرهم عن سبب هذا اللقب الذي يُعرَف به أكثر من اسمه.

عاد إلى عالم الواقع، الساعة الحادية عشرة، ساعة اشتداد الحر ووصول الأرواح الحناجر من شدة هذا الحر الذي لا تحمي الخيام ساكنيها منه أو من أخيه البرد ليلاً، لكن الجو هذا اليوم رحيم نسبياً، تمر غمامة تحجب الشمس أو تخفف وطأها، وتهب نسمات منعشة وكأن المكان ليس من الصحراء. أنعشته النسمات، ولكنها لم تستطع أن تخلق عنده رغبة في عمل شيء، لا يرغب في الحديث مع أحد، ولا الانضمام إلى النقاش الجاري في الزاوية الجنوبية رغم رغبته في الرد على مغالطات إبراهيم الذي يفتي في الفكر الماركسي كما يفتي الشيوخ في الأمور الدينية. قبل يومين كان الجو أسوأ من هذا بدرجات، كان "ثقيل الدم" بكل ما تعنيه الكلمة، ورغم ذلك كان يتمتع بحيوية ونشاط أفضل منهما الآن. أقنع نفسه بأن الواحد يستيقظ أحياناً كسولاً مصاباً بملل لا يدري سببه وأن ذلك سيزول بالتأكيد. كانت هذه الفكرة البسيطة بوابة العودة إلى التفكير بشيء مفيد، كانت بوابة الخروج من الآثار التي صنعها التحليق في الفقاعة. قرر أن يجعل بوابة الخروج تفضي إلى بوابة ستساعده على إنهاء هذه الحالة، قرر أن يكتب لها رسالة يشرح فيها وضعه منذ الصباح، إنه بحاجة إلى قلب محب يستوعب ما سيخرج من قلبه المتعب. تناول نموذج الرسالة الفارغ الذي توزعه إدارة المعتقل على المعتقلين بمقدار. تناول القلم الرصاص وتناول قطعة الخشب التي يستعملها كمسطرة ليسطّر صفحة الرسالة حتى تستوعب أكبر كمية من الكلمات، وحتى تكون رسالته مرتبة، هو يحب الترتيب وهي تحبه أكثر.


كتب "كل الحب والأشواق، وأحر القبلات عبر هذه المسافة الكبيرة الصغيرة التي تفصلني عنكم. آمل أن تكونوا بخير".

توقف وهو يرى جمله قصيرة متقطعة، لا بد أن هذا سيقلقها، ستفهم أنه ليس على ما يرام، تنفس بعمق وقرر أن يخرج نفسه نهائياً من هذا الوضع، قرر أن يتحدث إليها، الحديث الدافئ حتى لو كان على صفحة رسالة، قد تصل بعد خروجه، كفيل بذلك. استأنف الكتابة.

"استيقظت هذا الصباح كسولاً يسيطر عليّ الملل، وقعت أسير سرحان أخذني بعيداً وكان تأثيره سيئاً عليّ إذ جاء على خلفية هذه البداية، حاولت أن أشغل نفسي بشيء، قرأت صفحات قليلة من رواية ثم تركتها، سيطر عليّ الملل، رزحت تحت ثقل الروتين، أشعر بحاجة للتغيير، بحاجة لشيء يشدني من هذه الحالة، لست ضد السرحان، ولكن حين يأتي على خلفية مثل هذه فإنه يكون متعباً، أما حين يأتي على خلفية الأمل والتفاؤل فإنه يكون فواراً بالألوان الزاهية، يكون منعشاً مثل كأس عصير الليمون الذي تصنعينه لي واستمتع به حين أعود إلى البيت من يوم عمل طويل ومتعب، أشربه وأسترخي، الله، الله على ذلك الكأس كم أشتاق إليه".


شعر أن الحديث عن عصير الليمون البارد وعن العودة إلى البيت بعد العمل قد وسّع بابه المنشود للخروج من وضعه. اندمج أكثر ولاحظ أن عباراته صارت أرشق وأكثر حيوية. استقبل نسمة جاءت من طرف الخيمة الشمالي المرفوع حتى المنتصف، استقبلها بترحاب. توقف قليلاً عن الكتابة، وقرر أن يتصفح الصور والرسائل التي تجمعت لديه منذ أن أصبح وصول الرسائل التي تحتوي الصور ممكناً، بعد فترة طويلة من الحرمان من هذه النعمة. أخرج الصور وألقى على الوجوه التي يشتاق للقائها تحية الصباح، تواصل مع الصور، تواصل معها ومع الأطفال. قرأ للمرة التي لا يعرف تعدادها مقاطع من الرسائل، وعاد ليكتب.


"المهم، قلت لنفسي أن أفضل السبل لمحاربة هذا الملل وقهره هو أن أصبّح عليكم، أخرجت الصور، وصبّحت عليكم، صبّحت عليك وأنت تظهرين في الصور وكأنك لا تقصدين الظهور، وكأن الصور للأولاد ولا تعنيك، يجب أن تستعدي للصورة، تعلمي من هذه البنت الماهرة التي تعرف كيف تستعد للصورة عند الأزهار وعند النافورة، بنتنا ستصبح فنانة، أما الصغير فصوره رائعة، وأروعها صورته مع تلك الضحكة المشرقة وصورته وهو يصفق بيديه وقدميه. فعلت الصور فعلها، وقرأت بعض الرسائل ففعلت هي الأخرى فعلها. اللقاء معكم في الصور والرسائل ومن خلال كتابة هذه الرسالة بدّد الملل، بدأت أشعر بذلك، كأنني شربت من يدك عصير الليمون الطازج المميز. الشباب في الخيمة يقتلون الملل بلعب طاولة الزهر أو الدومينو، بالنسبة لي القراءة أفضل الطرق لكن ليس لديّ ما أقرأه الآن. أشعر بأنني بحاجة إلى الجلوس مع الشباب والمشاركة في النقاش الدائر. أنا الآن أفضل. سأعود للكتابة، ما زال في الرسالة الكثير من الحيز. وما زال لدي الكثير لأكتبه، قد يتطور الأمر إلى قصيدة جديدة. إلى اللقاء مع قبلاتي، قبّلي الأطفال عني".

طوى الرسالة بحرص ووضعها في الكتاب، اتجه نحو حلقة النقاش في الجهة الجنوبية من الخيمة واقترح عليهم الانضمام إلى مجموعة الجهة الشمالية "يكفي نقاشاً، خلونا نضحك وننبسط".

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت