حراك المحامين وإحياء دور المجتمع المدني

بقلم: نهاد أبو غوش

نهاد أبو غوش
  • نهاد أبو غوش*

حملت أحداث الأسبوع الفائت صورتين متناقضتين أشد التناقض مع أنهما وثيقتا الصلة ببعضهما، وبالحالة الراهنة التي يعيشها الشعب الفلسطيني الذي يقف على عتبة انتخابات مفصلية قد تفتح الباب على تغيير جوهري، أو تعيد إنتاج ما هو قائم، وتجريب ما هو مجرّب.

الصورة الأولى تخص حراك نقابة المحامين، والتي نجحت في حشد جمهورها العريض، واستقطاب قوى ونقابات وجمعيات ومؤسسات أهلية مؤيدة لمواقف النقابة في رفض القرارات بقانون المتصلة بالشأن القضائي، والتي اعتبرتها النقابة ومؤيدوها مساسا خطيرا باستقلالية السلطة القضائية، وإخلالا بالعلاقة بين السلطات الثلاث.

حراك نقابة المحامين كان أبعد ما يكون عن التوجه الحزبي والفئوي، ومعلوم أن الفريق الذي يقود النقابة هو من نفس اللون السياسي الذي يقود السلطة، ومن لون الفريق أو الأفراد الذين مهّدوا وشجعوا على اتخاذ التعديلات القانونية محلّ الخلاف، لكن ما منح حراك نقابة المحامين دفعة معنوية هائلة، ومدّها بمؤيدين وأنصارا من كل الفئات والاتجاهات، هو مخاطبتها شأنا مهنيا ومطلبيا يهم كل محام وقاض، وشأنا عاما يهم كل مواطن وجميع المهتمين بسير العدالة والحريصين على التوازن والاستقرار في نظامنا السياسي.

أما الصورة الثانية، والسلبية هذه المرة فتتصل بانتخابات الاتحاد العام لنقابات العمال في فلسطين، والتي أبسط ما يقال فيها أنها أعادت إنتاج ما هو موجود  منذ عقود، وكرّست نظام (الكوتا) والمحاصصة، فضلا عن استناد المؤتمر الختامي إلى مؤتمرات تمهيدية شكلية جرى ترتيبها هي الأخرى على عجل، ووفق نظام المحاصصة بعيدا عن التمثيل الحقيقي للعمال.

حراك نقابة المحامين يبشّر بإحياء وإنعاش دور المجتمع المدني بعد عقود وسنوات طويلة من التهميش والتغييب والاحتواء، وهو دور في غاية الأهمية نظرا لحالة الاستقطاب والصراعات الداخلية التناحرية، وضعف القوى والفصائل التي يمكن لها أن تعيد التوازن للحياة السياسية.

النقابات المهنية والعمالية هي العماد الرئيسي للمجتمع المدني الحقيقي، وإلى جانبها المنظمات والجمعيات الخيرية والتطوعية التي قامت أساسا على مبادرات محلية، وهي تأسست ونمت واستقطبت أعضاءها بناء على تلمّس الحاجات الحقيقية للمجتمع وأولوياته، وليس بناء على فرص وعروض التمويل الأجنبي.

لدينا في فلسطين منظمات مجتمع مدني عريقة وراسخة لعبت دورا استثنائيا في حماية وجود الشعب الفلسطيني على أرضه، وفي تخفيف ومداواة آثار النكبة وهزيمة العام 1967، كما ساهمت في حماية وصيانة الهوية الوطنية الفلسطينية التي كانت هدفا للشطب والتبديد. هذه المنظمات قامت ونشطت قبل شيوع مفاهيم برامج المانحين، وشروط المموّلين، ومصطلحات مثل (إن.جي.أوز)، وال( دونرز) وال(بروبوزالز) التي انتشرت بعد مؤتمر مدريد وأوسلو وهيمنة القطب الأميركي الواحد على العالم، لأن مؤسسات المجتمع المدني الأصيلة نشأت في بيئتها الطبيعية واعتمدت على مساهمات أعضائها واشتراكاتهم، وتبرعات المقتدرين من ابناء المجتمع، ومن هذه المؤسسات نذكر على سبيل المثال جمعية المقاصد الخيرية، وجمعية إنعاش الأسرة، والهلال الأحمر في غزة كما في الضفة، وجمعية الاتحاد النسائي العربي، ومؤسسة هند الحسيني، ورابطة الجامعيين في الخليل، وعدد كبير من الأندية الرياضية التي لعبت أدوارا اجتماعية وثقافية ووطنية لا يستهان بها مثل أندية سلوان والهلال والموظفين وشباب الخليل ومؤسسة البيرة والأندية الارثوذكسية في بيت جالات وبيت ساحور ورام الله، ومراكز الشباب في المخيمات، بل إن هذه المؤسسات نجحت إلى حد كبير في تعويض غياب السلطة/ الدولة الوطنية، وتصدت لمخططات الاحتلال ومشاريعه في شطب الحقوق الوطنية، ومن المؤسف أن هذه المؤسسات بالتحديد هي التي تعاني الآن من أزمات مالية تهدد وجودها، بينما تذهب معظم أموال الدعم الأجنبي لمؤسسات محدودة العدد وقليلة التاثير لا تعمل إلا وفق برامج ومشاريع مموّلة.

أسباب كثيرة ساهمت في إضعاف مؤسسات المجتمع المدني الحقيقية ومن بينها النقابات المهنية والعمالية، أبرزها طغيان الهم الوطني والسياسي على الهم الاجتماعي والمطلبي، ومنهج تحويل النقابات إلى واجهات سياسية للقوى والفصائل التي تقودها على حساب دورها في خدمة منتسبيها، وهو خلل لا يزال قائما حتى الآن، ويعكس نفسه في غياب العلاقة بين النقابة وأعضائها طوال العام إلا في مواعيد الانتخابات، ومبادرة بعض القوى لتسديد رسوم الاستراك والانتساب عن اعضائها.

لخص المرحوم نعيم الطوباسي، نقيب الصحفيين الأسبق، طبيعة النقابات في مراحل تأسيسها في مواجهة الاحتلال بقوله لمسؤول إسرائيلي زار المعتقلين لمساومتهم وابتزازهم "نحن مع ياسر عرفات"، وهي عبارة بسيطة ولكنها تلخص الدور الأبرز والأهم الذي لعبته النقابات العمالية والمهنية وسائر مؤسسات المجتمع المدني في صيانة الهوية الوطنية الفلسطينية، والدفاع عنها. صحيح أنها أولت اهتماما ملحوظا للهموم المطلبية والنقابية لكن هذا الجانب ظل هامشيا قياسا بالجانب السياسي، أما المشكلة التي ما زلنا نواجهها حتى الآن فهي استمرار غلبة الهم السياسي على القضايا الاجتماعية والمطلبية والنقابية، وهو ما يحدّ من اثر وفعالية هذه النقابات ويبقيها مجرد امتدادات أو زوائد ملحقة بالأحزاب والفصائل السياسية، وبالتالي يقتصر دورها على تأييد أو معارضة هذا الموقف السياسي أو ذاك.

ولا شك أن نقابة المحامين تستفيد من ترسيم عملها ووجودها بقانون ينظم شؤون المهنة يسند للنقابة دورا مركزيا في هذا الشأن، وهو ما تفتقده نقابة بارزة وذات حضور وطني ومهني فائق الأهمية هي نقابة الصحفيين التي قطعت شوطا طويلا في مجال مأسسة عملها، وتغليب الجانب المهني، كما أنها حققت حضورا دوليا وعربيا لافتا، والأهم أنها تصدت بكل شجاعة واقتدار لمختلف الاعتداءات والانتهاكات التي طالت حرية الصحافة.

حراك نقابة المحامين يدفعنا للاستبشار بإحياء دور المجتمع المدني، الذي كان وسيبقى إحدى أهم دعائم الهوية الوطنية الفلسطينية، والدرع الحصين لحقوق الشعب الفلسطيني الثابتة والمشروعة.

 

*عضو المجلس الوطني الفلسطيني

المصدر: قدس نت -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت