ذاب الثلج، ليطفو التطرف الديني الآن، هنا!

بقلم: زاهد عزت حرش

زاهد عزت حرش
  • زاهد عزَّت حرش

 منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، أي قبل ما ينيف عن خمسين عامًا، بدأت بوادر اقامة حركات دينية بين الفلسطينيين في اسرائيل، طبعًا لم يكُن لأحد أن يتوقع في حينها، أن إحداها ستصبح في يوم من الأيام، ذات قوة مهيمنة على الساحة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، كما هو حاصل الآن. اذ لم تحاول أية قوى سياسية أن تتصدى لظهورها، انطلاقًا من مبدأ الحفاظ على الوحدة الوطنية ووحدة الهدف والمصير.. في حين أن كافة االساحات السياسية، الاجتماعية، التجارية والاقتصادية - المالية، اتاحت لها في أن تمارس عملها دون حسيب أو رقيب. بيد أن "الديمقراطية الاسرائيلية" الخاضعة لجهاز المخابرات المركزي، كانت على علم واطلاع بكافة معضلات هذه الحركة، والتي يجب من منظورها الصهيوني أن ينمو وشأنها ويتعاظم، لتكون أداة لخلق صراعات عرقية مذهبية، تساهم في تشتيت وحدة هذه الأقلية، الباقية على ارض وطنها الذي ليس لها من وطن سواه!! من باب سياستها الاستعمارية المعتمدة على مقولة "فرق تسد". وقد عبر عن ذلك عدد من قادة اسرائيل السياسيين، وعن كيفية اتاحة وتسهيل تكوين "حماس" و "الجهاد الاسلامي" و "حزب الله" من على منبر الكنيست بلسان شمعون بيرس في احدى خطاباته.

وللتذكير بما امتازت به نشاطات "الحركة الاسلامية" بعد بداية بث دعوتها، نصل إلى ما نشرته الصحف من ادبياتها فيما يلي: "نشأت الحركة الإسلامية، وتبنت فكرًا مشابهًا بل ومنبثقًا من فكر ()الإخوان المسلمين)، فاهتمت بإنشاء البنية التحتية المتمثلة في المعاهد الدينية والمؤسسات والنوادي والعيادات الطبية ورياض الأطفال… هذه المنشآت أصبحت مراكز دعوة إلى الدين وغرس تعاليمه في نفوس الشبيبة العربية منذ نعومة أظافرهم، فنشأ جيلاً من الشباب الملتزم تجاه الحركة الإسلامية الذي يرى أن حل القضية الفلسطينية يرتبط بمبدأ الحركة (الإسلام هو الحل)"* وقد أدى ذلك إلى دخولها المعترك السياسي على الصعيد المحلي، في انتخابات المجالس المحلية والبلديات العربية فجاءت نتائجها مُرضِية لهم، ففي "عام 1989 فازت الحركة الإسلامية برئاسة 5 سلطات محلية في كل من أم الفحم وكفر قاسم وجلجولية وراهط وكفر برا، وحصلت على عضوية بعض المجالس البلدية في الناصرة وكفر كنا والفريدس والطيبة والطيرة وقلنسوة."*. كما استمر العمل "الدعوّي" ونشر الافكار الدينية المتزمتين بشكل تدريجي مدروس، حتى انبثق عنه التصدي للاعتداءات العنصرية الصهيونية على المسجد الاقصى، فتبنت "الحركة الاسلامية" شعار الدفاع عن "الاقصى".. خاصة بعد أن قامت قوى الامن الاسرائيلي بأعمال عنف اجرامية، ضد الفلسطينيين من القدس والضفة الغربية، الذين تصدوا لدخول شارون وزمرته إلى باحة الاقصى، فسقط منهم سبعة شهداء ومئة وستون جريحًا. وقد ساهمت الحركة الاسلامية بشكل فعال وملحوظ في التصدي لتلك الاحداث، ذلك بدعم واسناد متين من كافة القوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني في اسرائيل.. وتم الاعلان عن الاضراب العام في كل القرى والمدن الفلسطينية، وعمت المظاهرات الصاخبة من الاول وحتى الثالث من شهر تشرين الاول سنة 2000، في كل مكان تقريبًا، فقامت قوى الامن الاسرائيلي باستعمال كل الوسائل لقمعها، و"خلال اجتماع خاص شارك فيه وزير الأمن الداخلي شلومو بن عامي، في ليلة 1 تشرين الأول، بألا تتردد في "استعمال كل الوسائل" في التعامل مع المتظاهرين العرب، وفتح محاور الطرق التي من الممكن أن يغلقونها. وقد عُلم في وقت لاحق أن الشرطة كانت قد تدربت على خطط بشأن كيفية التعامل مع مظاهرات واسعة في المجتمع العربي شملت بشكل واضح استعمال وسائل قمع شديدة، بما في ذلك الاستعانة بالقناصة. وكانت أبرز هذه التدريبات خطة (سحر الأنغام) ولعبة الحرب المسماة (رياح العاصفة) التي أجريت في مركز تدريب الشرطة في شفاعمرو، في 6 أيلول/ سبتمبر، أي قبل شهر واحد من هبّة أكتوبر."* مما ادى إلى سقوط ثلاثة عشر شهيدًا من ابناء البلدات العربية في الجليل والمثلث.

قامت فيما بعد الحركة الاسلامية بتوسيع نشاطها، ورفعت شعار "الاقصى في خطر" واقامت عدة مهرجانات على مدار عدة سنوات متتالية، لدعم الاقصى تحت عنوان "مهرجان الاقصى"، الذي وصل عدد المشاركين في المهرجان الواحد إلى اكثر من خمسين الف شخص. وقد اتاح ذلك الظهور القوي لبعض قيادات الحركة أن اطلقوا عليها القابًا ارتبطت بالاقصى، وتوالت التظاهرات للدفاع عن الاقصى في العديد من المدن والقرى، كما سارعت الحركة إلى جمع اكبر كميّةٍ من التبرعات تحت هذا الشعار.. وتابعت من خلاله وبعده القيام بدعم الاخوة الفلسطينيين في الاراضي المحتلة وخاصة في غزة. وحيال تفاقم قوة قادتها قامت السلطات الاسرائيلية، بتقديم عدد منهم إلى القضاء وحكمت على البعض من اعضاها بالسجن، كما نسبت الى احدهم تهمة التحريض و"دعم الارهاب"، واودع في السجن لعدة سنوات وعدة مرات متتالية. في حين أنها اتاحت للعديد منهم تلقي الدعم المالي من عدة جهات مانحة (ذِهابًا صفر اليدين إيابًا بحقيبة دسمة)، من دول خليجية ومن تركيا خاصة. وهذا يشكل باعتقادي تضارب غير مفهوم، اذ كيف تقوم بالقبض عليهم والحكم بالسجن لعدة مرات.. بينما تغض الطرف عن خروجهم وعودتهم إلى البلاد، بأموال من مصادر تساهم في دعمهم وتقوية نشاطهم السياسي والاجتماعي!؟؟ في حين أن اسرائيل تعتبر هذه الدول وهذا الدعم يأتي من جهات معادية لها!؟

هكذا سطى المشهد والخطاب "الديني" على ساحة العمل النضالي للفلسطينيين في اسرائيل. وإن اسرائيل بمفهومها القومي اليهودي كانت وما زالت تسعى إلى تحويل الصراع بينها وبين الفلسطينيين، إلى صراع ديني تحت ذريعة ما سميّ "صراع الحضارات".. ليحل مكان الصراع السياسي القومي والوطني، كي يُعطي ذلك لقوانينها العنصرية شرعية اخلاقية تقابل فيها عنصرية الطرف الآخر، ولتدعي أنها تتصدى بذلك للقوى المتطرفة التي تريد ابادتها ومحوها من الوجود!! وقد ظهرت على الساحة العالمية قوى امبريالية رأسمالية شعبوية، توافقت مع السياسة العنصرية الشعبوية الاسرائيلية. في حين عمت الدول العربية حالة من الانهيار العام، سبب تفشي الصراعات العرقية، وتمددت المذاهب التكفيرية وانتشرت الحروب والمجازر على يد العصابات الداعشية باسمائها المختلفة. الحالة التي ساهمت في تزايد التشدد والتزمت المذهبي بين الناس، إما عن طريق شبكات التواصل الاجتماعي أو عن طريق منابر دور العبادة، وخاصة في المساجد ايام صلاة الجمعة، التي كان يخرج المصلون بعدها ليحتدم النقاش فيما بينهم حول ما اثارهُ ودعى اليه من أمَّ بهم، إلى أن وصل الحال "بالوسطيّن" منهم إما بالابتعاد عن المشاركة بالصلاة الجماعية (وهذا قليل جدًا) أو الصمت والخنوع في معظم الاحوال. كما أدت هذه الاحوال، وما أُسقِط عليها من تأثير فكر المذهب الاشعري، الحنفي، التيميّ، الوهابي التكفيري إلى استبدال كافة الشعارات السياسية بشعارات دينية اسلامية محضة لا غير. وأدت هذه الظروف الواقعية إلى التصدي للعديد من مظاهر التواجد الفني والادبي، ومنع اقامة العديد منها في بعض البلدات العربية.! مثالاً لا حصرًا، الغاء عرض فيلم "المخلص" في عكا وسخنين.. القاء قنبلة صوتية على عرض مسرحي اقيم في المركز الجماهيري في ام الفحم.. الغاء حفل غنائي لمغني الراب تامر نفار، على مسرح سينماتيك في المركز الجماهيري في ام الفحم.. وغير ذلك الكثير مما لم يُذكر في وسائل الاعلام، على أمل الحد من تفاقم هذه الظاهرة. بيد أن الامر لم يقف عند هذا الحد، فاحداث إحراق اشجار عيد الميلاد والاعتداء على المقبرة المسيحية في سخنين كان أخر هذه الاحداث.. ولا يمكن التغاضي عن اعلان حملة المقاطعة لطحينة "الارز" التي تجاوز كل الحدود والتوقعات.. ومن تابع ردود فعل عدد لا باس به من التجار، وخاصة اصحاب "مجمعات التسوّق" الذين رموا واتلفوا هذه البضاعة بعد اخراجها من محلاتهم، ونُشر عبر "طاقم تايمز أوف إسرائيل "في العاشر من تموز 2020 ما يلي: "وظهرت في الأيام الأخيرة عدد من مقاطع الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي لمتسوقين عرب وأصحاب محلات تجارية وهم يقومون بإلقاء عبوات طحينة الأرز في القمامة احتجاجا على قرار الشركة في تمويل إنشاء خطة الدعم للمِثليين، الذي انتقده بعض الزعماء الدينيين." ومن تابع حملة التحريض وردود الفعل والتعليقات على صفحات الفيسبوك، يعرف حقيقة وعمق الازمة التي يعاني منها الفلسطينيون في اسرائيل.!

ومما لا يمكن محوه من الذاكرة ويُحتم علينا لفت الانتباه اليه، هو احداث ما سميّ بقضية "شهاب الدين" في الناصرة. "وتعود بداية تفاعل قضية وقف شهاب الدين في مدينة الناصرة، إلى شهر كانون أول من عام 1997، حينما باشرت بلدية الناصرة بهدم مبنى كان يُستعمل مدرسة، يعود بناؤه إلى العهد العثماني، باعتبار أن هذا المكان كان مُدْرجاً ضمن خطة الناصرة 2000. البعض ادعى أن هذا المبنى الذي يعود للعهد العثماني وكان به مسجد ومصلى ومحراب، يجب أن يُستغل لما فيه مصلحة المسلمين وليس ضمن مشروع الناصرة، وبناء عليه ادعوا وقفيّة هذه الأرض، وطالبوا ببناء جامع عليها، بل باشرت ما عُرفت لاحقا بــ"لجنة وقف شهاب الدين" بإعداد خرائط للجامع الذي تعتزم بناءهُ على الأرض المذكورة، الواقعة قبالة كنيسة البشارة والتي خططت البلدية لتحويلها إلى ساحة تخدم زوار الكنيسة.." (نُشر عبر الصحافة بتاريخ 16/01/2014)" وجاء أيضًا ما يلي: "أشعلت (قضية شهاب الدين) أزمة طائفية حادة كادت تحرق الناصرة، لعبت بها وغذتها تدخلات السلطة التي استثمرتها لضرب وحدة المدينة ونسيجها الاجتماعي، وبالتالي الإضعاف والنيل من دورها الوطني. وقد بدا ذلك التلاعب واضحا في تقلبات مواقف الحكومة الإسرائيلية ودوائرها المتخصصة بالعرب، التي وقفت تارة مع هذا الطرف، وطورا مع ذاك في إجادة متناهية للعِب على أوتار الخلاف، وتوظيفها لصالح أهدافها السياسية. ولعل أبرز مثال على ذلك قرار الحكومة الإسرائيلية من شهر 11 /99 بالموافقة على بناء مسجد شهاب الدين في الساحة المُختلف عليها، ثم التراجع عن هذه الموافقة عام 2002 وما خلّفه هذا القرار في الحالتين من تداعيات وهزات عنيفة داخل الناصرة. (المصدر السابق)" ولا يَخفى على احد ما آلت اليه الاوضاع في انتخابات البلدية في الناصرة، وكيف تحولت من قيادة وطنية تاريخية (رغم اخطائها المتتالية على صعيد الناصرة) إلى قيادة شعبوية متعاونة مع المؤسسة الاسرائيلية ومتهادنة معها..!! وعلى الرغم من كل ما حدث، إلا أن "ساحة المدينة" التي اقيمت هناك تحولت إلى ساحة "شهاب الدين" وسيطرت عليها جماعة تابعة لنشر الدعوة، فلا يمر اسبوع إلا وتجد من يقف هناك لتوزيع نشرات ومواد ونصوص تدعو الاخرين للانضمام إلى الاسلام أو لدعم الحركة الاسلامية، واضف لذلك تعليق اللافتات التي تحمل آيات قرانية ونداءات دينية تنادي بالحفاظ على الشريعة وقدسيتها. وقد انتشر هذا النوع من العمل الدعائي فتخطى مدينة الناصرة، جراء حدث ما، بمناسبة ومن دون مناسبة، إلى تعليق عبارات دينية اسلامية، على أعمدة الاضاءة في الشوارع في معظم البلدات والقرى العربية، مما اثار الاستغراب والاستهجان لمثل نشر هذه اللفتات، خاصة في بلدات وقرى يعيش فيها فلسطينيون ينتمون لديانات ومذاهب فكرية غير اسلامية!!

على الصعيد الحزبي والسياسي العام
مع تطور الاحداث السياسية العالمية والمناطقية الاوسطية عامة والاسرائيلية خاصة، تطورت ادوات العمل السياسي للفلسطينيين في اسرائيل، سلبًا، وايجابًا في بعض الاحيان! كما أن قانون الانتخابات واقرار نسبة الحسم العالية، أدتا إلى تحرك فوري للعمل على ايجاد حل لهذه المعضلة السياسية، فعملت كل الأطر والفعاليات السياسية والمدنية، على خلق تحالف بين عدد من الاحزاب لتشكيل قائمة واحدة لخوض انتخابات الكنيست، والتي أطلقوا عليها اسم "القائمة المشتركة".. "هي تحالف سياسي يضم أربع أحزاب تمثل العرب في إسرائيل، اعلن عن تشكيلها في 23 يناير 2015. لتوحيد الاحزاب التي تمثل الفلسطينيين مواطني إسرائيل في قائمة انتخابية واحدة، وهي الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة، والتجمع الوطني الديمقراطي، والقائمة العربية الموحدة، والحركة العربية للتغيير." (المصدر ويكبيديا).. وقد تولَّت "لجنة الوفاق الوطني" مهمة تسهيل اقامتها، وعملت بشكل دؤوب ومتواصل من اجل رأب الخلافات والانقسامات بين الاحزاب المشاركة في القائمة، واصدرت بشكل متتالٍ البيانات حول ما قامت به وما حققته من فشل ونجاح. ومما يلفُت النظر لما نُشر في بعض بيانات اللجنة، أن افتتحت بآية دينية اسلامية، و(مثالاً لا حصرًا) بيانها الصادر بتاريخ 22/01/2015.. الذي جاء فيه "بيان لجنة الوفاق الوطني/ بسم الله الرحمن الرحيم /(واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا)".. فالقائمة المشتركة هي حزب سياسي يعمل ضمن مؤسسة صهيونية اسرائيلية، لا علاقة لها بالدين، وخاصة بالدين الاسلامي، كما أن القائمة تضم في صفوفها كافة مركبات الشعب الفلسطيني في اسرائيل، وهذا التوجه الفئوي يلغي وجود الاخرين من حساباته.! كما بدأت تظهر مشاهد من هذا القبيل في الاجتماعات الشعبية السياسية، اذ صار من المتبع أن تتم قراءة "الفاتحة" وقراءة آيات من "القرآن" ايذانًا ببدء المهرجان الخطابي.. وهذه امور لم تكن موجودة قبل ذلك، وهي بالطبع تعطي استثناء لفئة من ابناء هذا الشعب على الفئات الأخرى. وعلى ما يبدو أن هذه الظاهرة مستوردة من الوطن العربي، "اصبحت بعض القوى السياسية (التقدمية) تبدأ بياناتها السياسية بقول ديني." (د. فيصل الدراج، من تزوير التراث إلى تزوير الحاضر، اليسار العربي العدد 84، كانون أول 1988). فلا عجب من أن يتم استيراد مظاهر واسالب أخرى لها علاقة بالمد الديني/التكفيري، فهناك الكثير من المغريات والمؤهلات التي تدعم هذا التوجه، لتستفيد منه جماعات تقف على راس الهرم الاجتماعي والسياسي.

تتالت الخلافات بين فصائل القائمة المشتركة على مدى خمسة عشرة عامًا.. وذلك في الفترات الممتدة ما بين انتخابات وأخرى، في حين تفاقمت تلك الخلافات والاتهامات المتبادلة غداة اعادة تشكيلها قبل كل انتخابات جديدة.."خلال فترة ولاية الكنيست ال-20 حصل خلافات بين مركبات القائمة المشتركة أهمها قضية التناوب وخلافات شخصية وحزبية على عدد المقاعد التي يستحقها كل حزب. هذه الخلافات تسببت في تفكك القائمة المشتركة بتاريخ 2018-1-8 قبيل الانتخابات للكنيست ال-21 بتاريخ 2019-4-9. لجنة الوفاق لم تنجح في فض الخلافات." (وكالة معًا 10/02/2020.) ونتج عن تلك الخلافات والتراشق بالتهم المتبادلة، والتراجع عن وضع خطة وبرنامج عمل وطني شامل، تلتزم به كل الاحزاب المنضوية تحت لواء "القائمة المشتركة".. حالة من الاستهتار والسخرية لدى العديد من ابناء الشعب، اضافة لقيام العديد من الكتاب والصحفين بطرح افكارهم وانتقاداتهم حول ذلك، حينًا من باب الحفاظ على الوحدة والاهداف الوطنية واحيانًا من باب الاستخفاف بما حققته القائمة المشتركة من انجازات، وقد عمل البعض على التشكيك بها والتهكم عليها. وتعود الاسباب الرئيسية في ذلك إلى وجود قوى لها اجندات فئوية خاصة بها، ارادت من خلال ما تثيره من تسريبات، إلى استغلال كل شاردة وواردة للطعن في القوى الوطنية (اليسارية) المتحالفة معها، في حين حاولت الأخيرة التذليل من ذلك باحتواء ما يمكن احتواءه، من خلال اتباع اسلوب المجاملة وابداء حسن الظن والنوايا الطيبة، لعل وعسى يرتقي الجميع إلى المستوى الوطني الاخلاقي الاعلى، خدمة للقضايا الاساسية التي تخدم الناس بتحقيق العدالة الاجتماعية، المساواة، الغاء القوانين العنصرية، التصدي للجريمة والعنف، وانهاء الاحتلال.

ومع تراكم الخلافات وتكدسها عبر الخمسة عشر سنة الماضية، كان هناك من يعمل لحساب مشروعه الفئوي، بانتظار أن تحين الظروف الموضوعية كي يتمكن من طرح برنامجه الخاص، وليتحدي بكل ما أوتيّ من قوة واصرار كل من يقف في طريقه. ومع اتساع رقعة "التطبيع" العربي مع اسرائيل، وفتح مسار الرحلات الجوية إلى دول الخليج، السودان والمغرب العربي، وجدت هذه الفئة ورجال الاعمال واصحاب الرأسمال العربي المتعاونة والداعمة لها، وخاصة المرتبطة ببعض اقسام وفئات الحركة الاسلامية، ان تستفيد بشكل مباشر وعملي من هذه التطورات. فالقضية الوطنية الكبرى بانهاء الاحتلال واقامة الدولة الفلسطينية والغاء الحصار على غزة وعودة الاجئين، أصبحت في عيون البعض من ادبيات الزمن الماضي، ويبدو أن قضية فلسطين قد غابت وكادت أن يتلاشى من الحسابات السياسية العالمية والعربية بشكل ملحوظ. وهنا وجدَت هذه الفئات أنها غير ملزمة بالانتظار، فلربما لن تأتيها فرصة مؤاتية لفكرها وبرنامجها في المستقبل!!
انسحاب القائمة العربية الموحدة
مع تحركات النائب منصور عباس في الأشهر الأخيرة المنصرمة، بدا واضحًا أن هناك برنامجًا ومشروعًا انفراديًا تعمل الحركة الاسلامية على تحقيقه. وقد نشر المحامي رائف زريق مداخلة بعنوان "المسلم الاسرائيلي" بتاريخ 2.12.2020 على صفحات عدد من الصحف المحلية وعلى مواقع شبكة التواصل الاجتماعي جاء فيه: "من هذه النقطة يتقدّم د. عباس إلى مقولة نظريّة حول فهمه للسياسة ودور رجل السياسة بأنه على السياسيّ ألّا يكون مُتوقَّعًا وألّا يكونَ مفهومًا ضمنًا. (كل ذلك في إطار إجابة على سؤال مذيع القناة الثانية في الراديو عمّا إذا كان من الممكن أن يدعم اقتراح قانون يدعو لإلغاء محاكمة نتنياهو، وتعليل رفضه بإعطاء جواب واضح حول الموضوع بأنّه (على السياسي أن يكون غيرَ مفهومٍ ضمنا)." كما اضاف أيضًا بما يلي: "وعلما بأنّ الكنيست ذات تأثير محدود فإنّ التأثير الحقيقيّ يكون في الحكومة وقد يصل منسوب التأثير أعلى المستويات إذا شاركنا في الحكومة نفسها، هذا هو منطق د. عباس". وقد جاء التحليل السياسي المنطقي الذي توصل إليه المحامي رائف زريق من خلال مداخلته قبل أكثر من شهر ونصف، دليلاً على الخطوة التي قطعت شعرة معاوية بين القائمة العربية الموحدة "الحركة الاسلامية" وبين القائمة المشتركة.. كتعبير حقيقي لحقيقة ما يجري!! اضافة إلى أنه دار الكثير من الكلام والتحليل حول ما يقوم به د. عباس من محاولات لشق صفوف القائمة المشتركة. ورغم كل ذلك بقيّ عدد من اعضاء المشتركة من الجبهة والتجمع، يطرحون فكرة أن الباب ما زال مفتوحًا على مصراعيه امام اعادة توحيد القائمة المشتركة بأحزابها الأربعة.. ومما يثير الشفقة على ذلك أنهم ما زالوا يتعاملون على كون وجود "الاحزاب الأربعة" كحقيقة لم تتغير، في حين أنه بعد فض الاجتماع وانسحاب القائمة العربية الموحدة، صدر بيان عن "القائمة العربية للتغيير " التي لم (يتغير فيها أيُ شيء منذ انشاءها).. التصريح التالي: "أصدرت العربية للتغيير بيانا جاء فيه: "لم يتم الخوض في مسألة تركيبة أي قائمة جديدة. جهودنا في العربية للتغيير مستمرة نحو اعادة اللحمة في القائمة المشتركة حتى استنفاد كافة الجهود." موقع "الكرمل" (بادارة الاعلامي تميم ابو خيط بتاريخ 28/01/2021.) وهذا دليل اضافي على أن الاتجاه يسير نحو تشكيل قائمتين لانتخابات الكنيست القادمة، واحدة بمركباتها الاسلامية والثانية بمركباتها الوطنية اليسارية.

ومن أخر المستجدات تناقلت الأخبار الاعلان الرسمي عن تسجيل القائمة العربية الموحدة كحزب منفرد بذاته، وقد نشر الصحفي نظير مجلي في صحيفة "الشرق الاوسط" الاكترونية يوم الخميس 28/01/2021 خبرًا تحت عنوان ")الحركة الإسلامية) في إسرائيل تنسحب من (القائمة المشتركة) على خلفية التفاهمات مع نتنياهو"، ومما جاء فيه "ولا يستبعد المراقبون أن يواصل منصور عباس و(الحركة الإسلامية الجنوبية)، مع أطر وشخصيات عدة، تشكيل تحالف بديل لـ(المشتركة). وذكرت مصادر سياسية أن عباس التقى مع مازن غنايم، رئيس بلدية سخنين السابق والرئيس السابق لـ(لجنة رؤساء السلطات المحلية العربية)، لينضم إلى قائمة مستقلة مع (الإسلامية). وقد أكد غنايم، أمس، أنه اجتمع مع منصور عباس في الأيام السابقة، (ولكن لم يتم الاتفاق على شيء). كما كُشف النقاب عن اتصالات بين عباس وحزب (ناصرتي)، بغرض التحالف في الانتخابات المقبلة." لكني أُرجح أضافة لذلك أن د. احمد الطيبي ربما سيتحالف مع الحركة الاسلامية في قائمة واحدة لخوض الانتخابات القادمة، كما أسلفت أنفًا. وفي حال حدوث ذلك فان حالة من التوتر ستسود الايام القادمة، مع ارتفاع وتيرتها لتصل إلى ذروتها في يوم الانتخابات، المقرر اجراءها يوم الثلاثاء الواقع في 23 من آذار 2021. كما سيكون هناك نوع من التشنج الطائفي الفئوي، الذي تستطيع أن تُجنده الحركة الاسلامية لزيادة دعمها وتمثيلها البرلماني.

ان سرد مسيرة تفاقم وتيرة الطائفية والصراعات المذهبية، والذي أدى إلى استبدال العمل الوطني بشعاراته السياسية إلى عمل فئوي بشعارات دينية اسلامية.. ينذر بزيادة الانقسام والتشرذم أسوة بما حصل ويحصل على الساحة العربية عامة والفلسطينية خاصة، كما هو الحال بين السلطة الفلسطينية في الضفة وسلطة غزة. وان هذا الواقع سيحمل في طياته الكثير من التمزق الوطني والاجتماعي، كما سيزيد من اتساع رقعة العنف والجريمة! حيث ستقوم عندها الاحزاب الصهيونية بالاستفادة من ذلك، باقتناصها أكبر عدد من اصوات العرب لأحزابها، وعند تشكيل حكومة "أية حكومة".. والتي ستكون يمينية بطبيعة الحال، فإنها ستعمل على ضرب عناصر الجريمة المتفاقمة في البلدات والمدن العربية، لتكيّل بذلك التهم إلى القيادات العربية على أنها فشلت في عمل أي شيء للتصدي للجريمة والعنف المستشري، كما ستستغل ذلك لدمج عدد آخر من الشباب العربي في صفوف قوات الامن الاسرائيلية المختلفة.

عندها ربما سنتذكر المثل القائل "أكلت يوم أُكل الثور الابيض" فنرفع الراية البيضاء، ونقوم بما قام به الشاعر الثائر مظفر النواب يوم قال:
"فرَشتُ كرامتي البيضاءَ
في خَمّارةٍ للَّيلِ
صَليت الشَّجى
وقَرأتُ فاتِحةً
على الشهداءِ
بالعِبرِيةِ الفُصحى
فَضَجَّ الحانُ
بالأفخاذِ والطَرَبِ"
من قصيدة بعنوان "عن السلطنة المتوكلية والدراويش ودخول الفُرس"
"وكفى الله المؤمنين شر القتال"
شفاعمرو 29/01/2021

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت