- عبدالحميد الهمشري
لنتذكر أنه في نهاية الحرب العالمية الثانية أعلن الجنرال جورج مارشال -رئيس هيئة أركان الجيش الأميركي أثناء تلك الحرب ووزير خارجيتها منذ كانون ثاني / يناير 1947 ، عن مشروعه الاقتصادي الذي أُطلق عليه " مشروع مارشال " ، والذي هدف لإنعاش اقتصاديات دول غرب أوروبا المدمر ، لتتمكن من منع تغول الشيوعية فيها جراء معاناتها من الفقر والبطالة . لكن أمريكا في المقابل لم تعر أهتمامها بالنسبة لدول الشرق الأوسط بل على العكس تماماً أسهمت في ضعف بنائها الاقتصادي ووضعت العجلة في الدواليب لمنع تطورها وازدهارها.. ووضعت الخطط لتفكيكها وتمزيق نسيجها الوحدوي ، ووضعت نظريات وأفكار في كيفية تقسيمها وإشغالها بصراعات إقليمية ومحلية من أجل تحويلها لدويلات كانتونية طائفية للحيلولة دون تمكين دولها من امتلاك قرارها الاقتصادي ، فخلفيات الترويج لمشروع تقسيم المنطقة العربية إلى كونتونات طائفية متصارعة تعود إلى خمسينيات القرن الماضي ، وفق ما كشف النقاب عنه في وثائق سرية مسربة من الجيش الصهيوني في الكيان العبري في خمسينيات القرن الماضي تحدثت عن مخطط لتقسيم العراق لثلاثة كونتونات طائفية شيعية ، سنية ، وكردية ، أعقبها بعد نحو عقدين من الزمان تبني وزير الخارجية الأميركي الأسبق الصهيوني هنري كيسنجر لمشروع تضمن تقسيم الدول العربية على أساس طائفي يبتدئ من العراق كونه يشكل الحلقة الأخطر أمنياً على الكيان العبري الصهيوني.
وعقب نوقيع اتفاقية كامب ديفيد التي حولت مصر لدولة صديقة للكيان الصهيوني بسنتين ، تحدثت مصادر عبرية عن استراتيجية الدولة العبرية في عقد الثمانينيات من القرن الماضي حول تقسيم الوطن العربي ، من موريتانيا إلى عُمان، على أسس عرقية وطائفية ، ويكون للعراق الأسبقية في التقسيم لـدويلات ثلاثة ، تحت ذريعة أنه العدو الأكبر للدولة العبرية ، والملاحظ من خلال تلك الخطط التقاء الجميع حول الدعوة لتقسيم العراق أولاً ، لكونه الأشد خطراً على الكيان العبري . وبعده قدم المستشرق البريطاني الصهيوني برنارد لويس خريطة إلى الكونغرس الأميركي، يقترح فيها تحويل الدول العربية الإقليمية منها على وجه الخصوص إلى كانتونات طائفية وعرقية، لضمان أمن الدولة العبرية وتفوّقها على جيرانها ومحيطها الإقليمي ، حيث يرى محللون عسكريون وسياسيون أن أولى الخطوات العملية للانطلاق العملي بمشروع التقسيم وفق تلك الدعوات والمخططات كان تنفيذ مشروع المنطقة الآمنة في شمال العراق فوق خط العرض 36 برعاية مجلس الأمن الدولي بقرار أقره في العام 1991 تحت حجة نوفير الحماية للكرد .
فنظريات "الشرق الأوسط الكبير"، "الفوضى الخلاقة"، و"صفقة القرن" .. جميعها تلتقي عند نقاط ومحطات تؤسّس لواقع جديد تتجلى ملامحه ومعالمه وفق مقتضيات الأحوال التي تتنامى في ظل مظاهر من الفوضى والاضطرابات والصراعات الداخلية والأزمات السياسية والاقتصادية والتدخلات والتداخلات الخارجية في أغلب الدول العربية ، فما جرى ويجري في العراق وغيرها من بلدان عربية كاليمن وليبيا ولبنان والسودان وسوريا من أحداث وتداعيات جميعها تنبئ بأن ما يجري هو لخدمة العدو الصهيوني والفارسي وبتخطيط مسبق صهيو أمريكي .
فما تصنعه أمريكا في المنطقة ناجم عن اعتبارات سياسية واستراتيجية واقتصادية وأمنية تتماشى مع ثوابت راسخة في سياستها الخارجية والتي لا تحيد عنها أية إدارة أمريكية سواء كان الرئيس الأمريكي من الحزب الجمهوري أو الديموقراطي .. فكلنا يعلم أن ثوابت السياسة الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط تتلخص بالحفاظ على أمن الدولة العبرية أولاً وأخيراً والذي يمثل مصلحة أمريكية أساسية تسعى لترسيخه في المجتمع الأمريكي جماعات الضغط اليهودية " الآيباك" التي تهدف من وراء ذلك إيجاد بيئة سياسية دائمة مؤيدة للدولة العبرية .
وكذلك الادعاء بمحاربة التنظيمات الإرهابية والمتطرفة صنيعة أمريكا والدولة العبرية ومن يساندها من دول إقليمية كإيران وتركيا ، فهذه التنظيمات تسهم في تمزيق الصف العربي لصالح الطائفية والشعوبية والكيان الصهيوني وأمريكا وإيران الفارسية. والعمل وبقوة للحيلولة دون امتلاك أي دولة عربية أسلحة الدمار الشامل وغض الطرف عن امتلاك الكيان الصهيوني لهذا السلاح. وإلى جانب هذا وذاك ضمان أمن الطاقة والحفاظ على تدفق النفط بأسعار مناسبة وهو هدف استراتيجي مهم للولايات المتحدة ، فمن الثوابت والمنطلقات التي لا يمكن التنازل عنها ضخ المزيد من النفط لخفض الأسعار .
وفي ظل هكذا واقع فإنه وباعتقادي لن يكون هناك علامات فارقة في كيفية تعامل بايدن مع قضايا الشرق الأوسط ، فترامب بعنجهيته وضع له أي لبايدن خطوطاً عريضة وثوابت لا يمكنه تجاوزها بالنسبة للوضع الفلسطيني ، بعد أن رسخ وفق تقديرات مهتمين أمراً واقعاً في العرف الدولي، لا يستطيع في ظل هكذا حال سوى أن يضع رتوشاً على ما أقدم عليه ترامب بالنسبة للمسار الفلسطيني ، ليعيد السلطة الفلسطينية من جديد لمفاوضات عبثية لا تعود بالخير على الفلسطينيين ، لأنها ستفضي في نهاية المطاف لتمكين سلطات الاحتلال من واقع جديد على الأرض بعد استيلاء الكيان الصهيوني على أقل تقدير على المناطق المصنفة ج بعد فرض سيادته الكاملة على القدس القديمة ، وتسمينها بمستوطنات تجعل من التجمعات السكانية الفلسطينية كأكوام حجارة مبعثرة وسط سياجات أمنية محاطة بها من كل جانب وترسيخ القدس وفق ما أقره ترامب كعاصمة للكيان العبري وشرعنة المستوطنات ومواصلة الضغط على التطبيع مع العدو الصهيوني لينتقل مساره بعد شموله العمق العربي للعمق الإسلامي. فاهتمامات بايدن أولاً وأخيراً لن تحيد أبداً قيد أنملة عن ضمان تفوق الكيان الصهيوني وتسويقه في المنطقة ضمن تحالفات يكون فيها الجانب الفلسطيني الخاسر الأكبر ..
فما الفائدة من دولة بجسد دون رأس تكون فيها القدس بمقدساتها الإسلامية والمسيحية خارج نطاق السيادة الفلسطينية رضوخاً للرغبة الصهيونية في هذا الاتجاه ؟؟ أما بالنسبة للعراق فإنه وفق كل التقديرات فإنه لن يعارض سيطرة شيعية من خلال حكومة عراقية موالية لإيران تكون مهمتها إضعاف المكونات الأخرى في العراق ، تسهم في ذلك تنظيمات الحشد الشعبي الشيعية وتنظيم داعش الإرهابي السني ، تخصص لكل منها في ميزانية الدولة العراقية مخصصات تبقي تلك التنظيمات قادرة على تنفيذ مهامها في خلخلة واستقرار وأمن شعب العراق المكلوم ، في ظل وجود حكومة مركزية عراقية عاجزة عن أداء دورها ، خدمة للهيمنة الصهيو إيرانية المطلقة ، فاستمرار هذا الحال على ما هو عليه يخدم إيران الفارسية ويسندها في بسط تواجدها الفاعل في سوريا والجنوب اللبناني أو ما يمكن أن يطلق عليه النصف الأعلى من الهلال الشيعي الذي وفق تقديرات الملالي تمتد من البصرة حتى جنوب لبنان ، ويكتمل هذا الهلال بامتداده من البصرة مروراً بمضيق هرمز فبحر العرب حتى مضيق باب المندب والأراضي اليمنية بأكملها على أقل تقدير. بايدن في ظل هكذا ظروف تحكمها البلبلة ، تركها ترامب فإن أمامه عقبات كبيرة ليتمكن من استعادة زمام المبادرة والقيادة في منطقة الشرق الأوسط ، الذي تعتبر قضاياه الأعقد على الساحة السياسية الدولية ، والتي بفعل ترتيباتها المعقدة أصبحت المستنقع الذي تتنامى فيه لإضعاف دولها الارهاب لإغراقها في بحر من الفوضى تقود لنزاعات أهلية وحروب داخلية مسلحة وانهيارات شاملة على الصعد كافة، وهذا الحال الذي يئن تحت وطأته الشعب العربي في العراق وليبيا وسوريا ولبنان والسودان واليمن وعربستان وحتى مصر .
[email protected]
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت