فلسطين والمحكمة الجنائية الدولية التطلع والتحديات

بقلم: سنية الحسيني

سنية الحسيني
  • د. سنية الحسيني

أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في الخامس من الشهر الجاري قراراً يقضي بولايتها القضائية على الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام ١٩٦٧، الأمر الذي يمكن أن يسمح بفتح تحقيقات في تلك الجرائم، وهو حلم طالما راود الفلسطينيين بمحاسبة المحتل على جرائمه بحقهم. وبينما اعتبرت وزارة الخارجية الفلسطينية بأنه يوم "تاريخي لمبدأ المساءلة"، كما اعتبره آخرون "انتصار للحق والعدالة والحرية وللقيم الأخلاقية في العالم"، نظر اليه بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل بأنه يضعف حق بلاده في "الدفاع عن نفسها"، مشدداً على أنها "ستحمي جنودها من المقاضاة". ولم تخف الولايات المتحدة قلقها من ممارسة اختصاص المحكمة على العسكريين الإسرائيليين. وتعكس تلك التصريحات واقع الحال الذي سيواجه النظرة المتفائلة للفلسطينيين، في ظل سياسة إسرائيل التي تصر على قلب الحقائق وانكار واقع الاحتلال، ودعم الولايات المتحدة المطلق لها على أنها دولة فوق القانون.

 

خاضت فلسطين في سبيل الوصول إلى هذا القرار معارك شرسة، الا أن المعارك القادمة ستكون أشد شراسة، نظراً لما ستواجهه من عوائق سياسية وقانونية. ورغم عدم مصادقة إسرئيل على نظام المحكمة بينما لم توقع عليه الولايات المتحدة عليه أصلاً، الا أن تأثيرهما السياسي على الدول الأعضاء فيها سيقف حجر عثرة أمام تحريك الدعاوي الفلسطينية ضد إسرائيل، تماماً كما ستشكل نصوص ميثاق روما نفسها عائقاً لا يقل شراسة. منذ دخولها حيز النفاذ عام ٢٠٠٢، اثارت المحكمة الجنائية الدولية الشكوك حول مصدقيتها والقلق من أن تكون صورة عن المحاكمات الخاصة المسيسة، والتي جاءت في عقود سابقة. وتتهم المحكمة اليوم بأنها أداة سياسية بثوب قانوني، لا تختلف كثيراًعن مجلس الأمن، الذي تحقق من خلاله القوى العظمى مصالحها على حساب دول العالم الثالث. وكانت جنوب أفريقيا قد انسحبت من المحكمة عام ٢٠١٦ ، بحجة عدم نزاهتها. لم تتحرك المحكمة عندما قدمت لها شكاوي من قبل ضد إسرائيل والولايات المتحدة وبريطانيا، كما رفضت النظر في حالة اسطول الحرية، ولم تقم المحكمة منذ دخولها حيز النفاذ الا بفتح تحقيقات لأربع حالات لدول أفريقية، بالإضافة إلى حالتي دارفور وليبيا عام ٢٠١٦، كما وافقت عام ٢٠١٩، على اجراء تحقيقات في الجرائم المرتكبة ضد مسلمي الروهينجا، وفي العراق وفلسطين كذلك.

 

كانت فلسطين قد أحالت الوضع فيها الى المدعى العام للمحكمة الجنائية، في الثاني والعشرين من آيار عام ٢٠١٨، مطالبة بالتحقيق في عدد من جرائم الاحتلال على رأسها الاستيطان. وفي العشرين من كانون الأول من العام التالي، وبعد اجراء التحقيق التمهيدي الالزامي، أعلنت فاتو بنسودا المدعي العام للمحكمة، أنه بعد استيفاء جميع المعايير القانونية بفتح التحقيق وانطلاقاً من قناعتها بأن هناك "أساسا معقولا للاعتقاد بأن جرائم حرب ارتكبت أو ترتكب في تلك الأراضي بما فيها القدس الشرقية، اعتبرت أن الجيش الإسرائيلي والجماعات الفلسطينية المقاومة جناة محتملين، الا أنها قررت التوجه إلى الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة، قبل البدء باجراءات التحقيق، في سبيل التحقق من مدى انطباق اختصاص الولاية الجنائية الإقليمية للمحكمة على فلسطين. جاء ذلك على الرغم من أنه بمجرد موافقة المحكمة الجنائية على طلب انضمام فلسطين إلى نظام روما الأساس يعد اقراراً بقانونية مكانتها كدولة. ولم تتمكن فلسطين من التقدم للانضمام إلى المحكمة الا في عام ٢٠١٤، أي بعد حصولها على صفة دولة غير عضو في الأمم المتحدة عام ٢٠١٢.

 

هذه ليست المرة الأولى التي تتوجه فيها فلسطين لتحريك دعوة قضائية في المحكمة الجنائية ضد إسرائيل، اذ طرقت أبواب المحكمة عام ٢٠٠٩ لتحريك دعوة ضد إسرائيل لارتكابها جرائم حرب في غزة، ورفضت المحكمة الدعوة بعد ثلاث سنوات بحجة أن المركز القانوني لفلسطين كدولة غير واضح. وكان الفلسطينيون قد تقدموا للمحكمة لتحريك دعوة ضد إسرائيل قبل ذلك في عام ٢٠٠٣ بعد اجتياح قوات الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ورفض طلبهم أيضا بحجة عدم امتلاك فلسطين المكانة التي تؤهلها لرفع دعوة ضد إسرائيل. جاء تلك المواقف للمحكمة تجاه الفلسطينيين على الرغم من أنه يحق لثلاث جهات إحالة الدعاوي في اطارها، فبالاضافة إلى الدول الأعضاء في المحكمة، يحق للمدعي العام احالة الدعوة، كما يحق لمجلس الأمن ذلك أيضاً. وأحال المدعي العام للمحكمة الجنائية قضية بطلب من دولة ساحل العاج عام ٢٠١٦، لأنها لم تكن بعد طرفا في عضوية المحكمة. كما أحال مجلس الأمن قضيتين لدولتين ليستا طرف في المحكمة الجنائية، كما في حالة دارفور في قراره رقم ١٥٩٣ لعام ٢٠٠٥  وفي حالة ليبيا في القرار ١٩٧٠ عام ٢٠١١.

 

سيواجه الفلسطينيون العديد من العوائق في تحريك الدعاوي ضد إسرائيل، فبالاضافة إلى الضغوط السياسية والمالية التي ستمارسها الولايات المتحدة وإسرائيل على الفلسطينيين وكذلك على أعضاء المحكمة وكوادرها، ستقوم أيضاً بالتأثير على الدول الأعضاء في المحكمة، ناهيك عن العقبات القانونية الموجودة في نظام المحكمة، والتي ستستغلها إسرائيل لتشكل حجر عثرة أيضا أمام تطلعات الفلسطينيين. وكان قد واجه الفلسطينيون ضغوط سياسية ومالية بعد قرارهم بالتوجه للمحكمة الجنائية الدولية لاحالة شكاوي ضد إسرائيل عام ٢٠١٨، قوبلت باغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وحجز إسرائيل لأموال المقاصة. إن التهديدات الامريكية قد لا تطول الفلسطينيين فقط وإنما أيضا قد تصل لكوادر المحكمة نفسها. وكان قد أعلن مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكي السابق في شهر آذار عام ٢٠١٩ حظر منح تأشيرات لجميع أعضاء المحكمة الذين سيحققون مع أمريكيين ارتكبوا جرائم حرب في أفغانستان. وكانت المدعية العامة قد تقدمت بطلب للمحكمة في شهر تشرين ثاني عام ٢٠١٧ للتحقيق في جرائم ضد الإنسانية ارتكبتها القوات الأمريكية، الا أنه في النهاية وتحت وطأة الضغوط،، رفضت الدائرة التمهيدية في المحكمة الجنائية بالاجماع في نيسان ٢٠١٩ الطلب.     

 

كما سيواجه الفلسطينيون ضغوط الولايات المتحدة وإسرائيل على الدول الأعضاء، سواء داخل المحكمة أثناء فترة إحالة الدعاوي ضد إسرائيل أو حتى إن نجحت المحكمة في استصدار قرارات ضدها. ويعتبر تعاون الدول الأعضاء في المحكمة ركيزة أساسية في عملها، ويضمن حسن سير عملها وفاعليتها وحتى شرعيتها. وتعتمد المحكمة على دعم الدول في اجراء التحقيقات وتقديم المعلومات ودعم قراراتها وفق المادة ٨٦ من نظامها الأساس. وقد شهدت ساحات المحكمة جانب من تلك الضغوط خلال العامين الماضيين، بعدما أحالت فلسطين عدد من القضايا للمحكمة عام ٢٠١٨، وانتهت بقرار المدعية نهاية عام ٢٠١٩، بضرورة التأكد من مدى تحقق الولاية الإقليمية للمحكمة على دولة فلسطين، تحت وطأة التدخلات والضغوط التي مارستها الولايات المتحدة وإسرائيل على المحكمة، حيث أفادت ست الدول من أعضاء المحكمة (البرازيل والمجر والنمسا وألمانيا وأستراليا والتشيك)، بعدم ولاية المحكمة الجنائية الدولية على الأراضي الفلسطينية، بهدف تعطيل فتح المحكمة تحقيق رسمي في القضايا المحالة اليها. وترفض الولايات المتحدة وإسرائيل اعتبار فلسطين  دولة وتعتبرها كياناً سياسياً ذا سلطة محدودة نشأ بفعل  إتفاقيات أوسلو. كما بدأت الولايات المتحدة وإسرائيل بتوقيع إتفاقيات ثنائية مع الدول الأعضاء في المحكمة تقوم على أساس عدم تسليم مرتكبي الجرائم للمحكمة الجنائية الدولية. كما أن مبدأ الحصانة يعتبر عائقاً آخر أمام تسليم المجرمين الدوليين، والذي يأتي من ضمن بنود تلك الاتفاقيات الثنائية، والتي تتعارض مع بنود نظام روما.

 

من أهم المعيقات القانونية التي قد يواجهها الفلسطينيون أثناء نظر المحكمة في الدعاوي المرفوعة أمامها دور مجلس الأمن حسب ما تنص عليه مقررات نظام روما، اذ تمنحه المادة ١٦ منها صلاحيات واسعة، تسمح له بإيقاف إجراءات التحقيق أو ارجاء النظر في الدعوى أو حتى تأجيل المحاكمة، ويمكن للمجلس الطلب من المدعي العام ارجاء التحقيق أو المحاكمة  في أي جريمة لمدة ١٢ شهر ويمكن أن تجدد مرة أخرى، الأمر الذي قد يؤثر على الأدلة. كما يمكن لمجلس الأمن، وتحت بند تحقيق السلم والأمن الدوليين، استفراده بالنظر في جرائم العدوان، اذ تنص المادة ٣٤ و٣٩ من ميثاق الأمم المتحدة على أنه يجوز لمجلس الأمن التحقيق في أي نزاع أو حالة ربما تعرض الأمن والسلم الدوليين للخطر، ويحق له أيضاً تحديد طبيعة مثل تلك الاعمال.

 

رغم عدم توقيع إسرائيل على ميثاق روما، الا أن الدول التي تقع الجرائم في أراضيها تخضع لاختصاص المحكمة الجنائية الدولية. ومن المتوقع أن ترفض إسرائيل التعاون مع المحكمة الجنائية في تحقيقاتها، كما رفضت قبل ذلك التعاون مع لجان التحقيق طوال سنوات احتلالها منذ عام ١٩٦٧ حتى اليوم. كما يمكن لإسرائيل أيضاً التذرع بالسيادة الوطنية ومبدأ التكامل في اجراء التحقيقات والمحاكمات لجنودها، لتقويض دور المحكمة الجنائية في النظر في الدعاوي المرفوعة أمامها من قبل الفلسطينيين، مستندة إلى أن اختصاص المحكمة الدولة وحسب المادة ١٧ من نظامها الأساسي، والتي يعتبر اختصاصها تكميلياً، يأتي في حالة عدم نجاح الدول في محاكمة مرتكبي مثل تلك الجرائم فيها. وتقوم إسرائيل بالفعل باجراء تحقيقات ومحاكمات صورية لجنودها المتورطين في جرائم ضد الفلسطينيين، في اطار سيادة القاعدة القانونية الأساسية في القانون الجنائي والتي تؤكد على عدم جواز مساءلة الشخص عن ذات الفعل أكثر من مرة.

 

ليس هناك ثوابت في العلاقات الدولية والتحالفات السياسية، ويبقى الثابت الوحيد هو أن جرائم إسرائيل لا تسقط بالتقادم، الأمر الذي يؤكد أنه سيتم محاسبة إسرائيل على جرائمها بحق الفلسطينيين ولو بعد حين. وليس هناك شك في أن خطوة انضمام فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية والتي ستفتح المجال لمحاسبة إسرائيل على جرائمها بحق الفلسطينيين  تعد بحد ذاتها انتصار دبلوماسي وسياسي للفلسطينيين وتشكل شكلاً من أشكال الردع لإسرائيل وممارساتها في الأراضي المحتلة، وهو الذي يفسر حالة القلق التي تعيشها دولة الاحتلال بعد صدور هذا القرار الأخير. وتبقى تلك الثغرات القانونية أيضاً في مصلحة الفلسطينيين، فعلى الرغم من عدم إمكانية إحالة الجرائم المرتكبة خلال حروب غزة إلى المحكمة الجنائية الدولية من خلال دولة فلسطين، لان النطاق الزمني للمحكمة يسري على الجرائم المرتكبة قبل تاريخ تصديق الدولة المشتكية على ميثاق المحكمة، الا انه من الممكن أيضاً للمحكمة النظر في حروب غزة من خلال الإحالة من قبل مجلس الامن أو المدعي العام للمحكمة. ويمكن لفلسطين أيضاً أن تعدل تشريعاتها المحلية، لتتوائم مع المعاهدات الدولية التي انضمت اليها بما فيها ميثاق روما الأساسي واتفاقيات جنيف الأربعة وبروتوكولاتها، وذلك بادراج الجرائم ضد الإنسانية والعدوان والحرب والإبادة الجماعية ضمن تشريعاتها، مع الوضع في الاعتبار الحق المشروع للمقاومة في ظل وجود الاحتلال، الأمر الذي سيخرج رجال المقاومة الفلسطينية من نطاق تحقيقات ومحاكمات وعقوبات المحكمة الجنائية الدولية، في اطار تمكين القضاء الفلسطيني من العمل وفق مبدأ التكامل في اجراء التحقيقات في مثل تلك الاعمال محلياً.  كما يمكن تنسيق أعمال المقاومة فلسطينياً لتراعي الاعتبارات القانونية الدولية. هذا بالإضافة إلى ضرورة تفعيل عمل اللجنة الوطنية العليا للمحكمة الجنائية والتي كانت برئاسة الراحل صائب عريقات، لتكون أكثر تخصصاً وتنوعاً. 

 

 

 

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت