وَعدُهُ صادقٌ بما يكفي لأن يكون اسمه خفيفاً على وزن (فَعَلَ) على سبيل المثال، وليس رخيماً مدغماً، كصيغة مبالغة على وزن (فعّال)، لكن شاءت والدته أن تدمغه باسم القائد الذي فجّر باستشهاده ثورة 1936، وهكذا فعلاً كان. بعد أوسلو ببضعة أشهر، وكأنه كان متعمّداً أن يتجاوزها غير معترف بها؛ وُلِدَ قسّام البرغوثي، في قريته كوبر، أو (تشوبر) كما يعرّف عنها دوماً.
شاب في مقتبل العمر، أو العمر في مقتبله، تربى بين أشجار الجوز واللوز والزيتون. كان مولعاً بتربية فراخ النسور، كما أن التصاقه بالأرض، جعله خبيراً بكل زاحف عليها. أنقذته فراسته من المسموم منها، فصارت هوايته اصطياد الثعابين بخفة، ومداعبة العرابيد، فتراه يعرف تماماً كيف يخرج السم منها، لتضحى أليفة بعدها، يلعّبها بين أصابعه.
نشأ قسّام من لدن عائلة صلبة، وكنف أب وأم لحمهما مُرّ حقاً. جميع أفراد عائلته النووية والممتدة أخذوا نصيبهم من الأسر. فلم يكن غريباً أن يُعتقل أربع مرات بمعيّة عائلة كريمة لفلسطين.
تخرّج قسّام من كلية الإعلام من جامعة القدس، ولم يحضر حفل تخرجه بسبب أسره. امتهن "بمزاجه" تركيب اليافطات في شركة للدعاية والإعلان، ولم يعمل في صناعة الأخبار، إلا أن أضحى خبراً في اعتقاله الأخير، وهو في 25 من عمره، لِزعم الاحتلال ضُلوعه في عمليةِ عين بوبين، قرب مستوطنة "دوليف" الواقعة داخل حدود الرابع من حزيران لعام 1967، في الضفة الغربية المحتلة، في شهر آب 2019. تكرر اسمه مرات عديدة في مانشيت الصحف والمنصات الإعلامية، مرة عند خضوعه للتعذيب العسكري في المسكوبية، وأخرى عند هدم منزله، ومرة إضافية عند اعتقال أخيه كرمل، وأخرى عند اعتقال والدته، أستاذة الإعلام في جامعة بيرزيت، الدكتورة وداد البرغوثي.
على حسْب وِداد قلبها ومِداده، تسلّحت سنديانة كوبر الحمراء- كما يلقّبها طلابها وطالباتها- بصلابتها مُسترجعة قصصها مع الأسر والأسرى، متعمّدة التبسّم، في كل مرة كان جنود الاحتلال يصورونها، مستخدمين الصور في زعزعة إرادة قسّام إبّان التحقيق، محاولين الإمعان في تعذيبه النفسي.
كيف لامرأة تحمل ذاكرة فيل أن تحيا وسط عالم يحمل ذاكرة سمكة؟! لا تنسى وداد الحمراء منظر بقع دم قسّام على أرضية درج منزلها- الذي كان- بعدما أفلتت كلاب بشرية كلاباً بوليسية عليه لتنهش لحمه، فقامت بعضه في عضلة الساعد في كلتا يديه، ورجليه وخصيتيه، ومن ثم تكوّم عليه آكلو لحوم الفلسطينيين، وأخذوا يضربونه في كل مكان، حتى شبحوه بوضعية الموزة في المسكوبية، على أحد المقاعد الحديدية، سبق ذلك تعذيبه في منزله، لحظة بدء التحقيق الميداني معه، مثبتين رجليه باتجاه الأرض، وضاغطين عليه بتثبيت أرجل الكرسي الحديدي فوق الجروح التي أصيب به جرّاء عضات الكلاب. جاء بعدها وحشان آخران ضغطا على كتفيه باتجاه الأرض، وأخيرٌ أخذ يهز رأسه بشدّ شعره. يقول قسام في شهادته لمؤسسة الضمير، "كان الألم مخيفاً بشكل لا يحتمل، وكنت أتمنى أن أغيب عن الوعي حتى يتوقف شعور الألم."
هكذا سردت ودادنا عملية اعتقال ابنها، والتي دامت لأكثر من ثلاث ساعات فجر 26 آب 2019، وأكملت مستشهدة بكامل الصلابة بما كتبته في روايتها (البيوت): "دولة تتقدمها الكلاب حتمًا زائلة". صرّحت بعدها على أنقاض منزلها- الذي كان- بين الركام: "كل البيوت وكل دولة إسرائيل لا تساوي حذاء قسّام."
أكثر من ثلاثين يوما قضاها قسّام في زنازين المسكوبية بدون أن يلتقي محاميه. ربما هي قساوة حرف القاف التي جعلته لا يستطيع الوقوف على رجليه، حتى كانوا ينقلونه إلى الحمام بواسطة مقعد متحرك. لم تعرف عائلة قسّام ابنها في المحاكم، سوى من ابتسامته. وحدها لم تتغير. كان قد خسر وزنا كبيراُ، وتغيرت ملامحه من كثرة التعذيب الذي طاله. عوقب قسّام أكثر من مرة بعدم السماح لعائلته بمشاهدته في المحاكم، خاصة بعد تلك المرة التي عضّ فيه النسر الكوبري المحقق وبصق في وجهه!
يقبع قسّام حالياً في سجن نفحة الصحراوي منتظراً محاكمته. يقضي وقته بالقراءة والكتابة، ينهل من الأدب السوفييتي، وسيرة الثائر الفييتنامي هو شي منه، كما يكتب باستمرار من "البيت الميّت" كما يشير دستويفسكي للسجن.
تقول والدة قسّام: "قبل خمسة وثلاثين عاماً، كنت أعمل في صحيفة، وصلت اليها قائمة بأسماء الأسرى الذين سيفرج عنهم في صفقة 1985، وعُمّم على جميع الصحفيين حينها بعدم الكشف عن أي اسم أو معلومة قبل النشر. ولأني ملتزمة جدا بالتعليمات، فقد ذهبت لزيارة أمهات الأسرى المنوي الإفراج عنهم في بيوتهن، وبشّرتهن بأن أسماء أولادهن في القائمة التي ستعلن غداً. تقول صاحبة ذاكرة الفيل، تلك الذاكرة التي ورّثتها لقسّام: "رأيت في العيون أفراحاً لا تباع بملايين. أنا مدينة لهن بتعلّم صناعة الفرح." جميعنا ننتظر أن نزورك ونبشرك بالفرج والحرية. نحن مدينون لك بصناعة القسّام، والصلابة والفرح.