- الكاتبة هند زيتوني
.........................................
أهمية الشعر ولماذا نحتاجه ؟
الشعر هذا التكوين اللغوي الجميل والغامض . هو إناء كبيرٌ أو/ melting pot تنصهر فيه كل الفنون من موسيقا ، رقص، رسمَ، ورواية . هو فن الفنون وأصعبها .
و يرى أرسطو أنه محاكاة لكل الفنون .ولكل فن جميل أسلوب في المحاكاة ولكن ليست كل محاكاة فناً جميلاً . وقد رفع ارسطو قيمة الشعر فوق الفلسفة وفوق التاريخ .
هناك قول آخر يقول : كما تحتاج السماء إلى نجوم ، يحتاج المجتمع إلى شعراء ( شوفالييه دو بوفور )
وقال ميلان كونديرا : (ليست رسالة الشعر ان يبهرنا بفكرة مدهشة ولكن أن يجعل لحظة في الوجود لا تنسى وتستحق حنيناً لا يطاق . )
مقدمة عن الشاعر
عامر الطيب شاعر وشاب عراقي استطاع أن يكون لنفسه مملكة شعرٌ صغيرةً يدعونا إليها
كلما ضاقت بنا الحياة . الشعر بالنسبة له كحبة فرح يتعاطاها كل يوم لتصبحَ الحياة أجمل وأقل خسائر وقبح . ولينجو من واقع الحياة المؤلم .
وإذا كان إيتاليو كالفينو يكتب عن مدنه بحبر خفي فإن الشاعر عامر الطيب يكتب قصائده بكل ألوان قوس قزح ولاشيء ينجو من شعره . لأن في نفسه نوازع لا يجليها النهار ولا يحتملها الليل . حولته إلى ساحر الكلمة ومروض للمعاني . إنه شاعر يستعصي على اللغة كما يقال . لو لم يكن اسمه عامر الطيب لسميته عامر البحر ، الذي يرمي قوارب كلماته ليجوب بها العالم ليبحث عن فكرة جديدة ، عن كلمات بكر لم يقترب منها أحد ليعيد صياغتها بأسلوبه الساحر ويمنحها ألواناً وملمساً غير مألوف .
هو mecca (المكان الذي يجذب الناس ) لمن يريد أن يتنزه في حدائق الشعر .
-صورة من الخلف للرقم9 - كان عنوان ديوانه الذي صدر عن دار دلمون الجديدة في سوريا . إنه عنوان يشدّ القارئ ليعرف ماذا هناك في تلك النصوص . فهي إذاً لعبة الكلمات والأرقام المعكوسة التي لا يتقنها أحد سواه .
جاء الديوان مقسماً إلى تسعة أجزاء ١- في مكان صغير لا يوجد الموت
حيث تحدث فيه عن الموت والحب والحزن ، الوجود والعدم ، المعاناة الإنسانية
٢- الحيلة ٣- فكاهات مسيلة للدموع
٤- فراغات
٥- المصابيح مشتعلةٌ في البيوت
٦- تاريخ حديث لامرأة
٧- الوحدة
٨- بيضة الديك
٩-الأشياء كلها لسببٍ ما
ثم ينتهي الديوان بهوامش وهي ومضات ومقاطع شعرية قصيرة ورائعة .
الأسلوب
.............
نلاحظ في البداية ، الذي يشدنا بالفعل هو أسلوبه المتميز ، الذي جاء كالسهل الممتنع المسيطر على كل القصائد ، ترتدي الكلمات حلة قشيبة ، متهادية، بإيقاعات داخلية ، طرية وناضجة من خلال جمل شعرية تحمل ظلالاً ومفردات غنية .
يقول في : ملاحظات أولى قبل البدء
منْ تشابكِ الأصابع تعلّم الإنسانُ أنْ يصنعَ نافذة منْ ضمّها لبعض،
تعلّم أنْ يصنعَ جداراً منْ صفّها بشكلٍ متساوٍ تعلّم الإنسانُ أنْ يبني سجناً !
قبلَ اختراعِ الأعداد كان منَ الممكنِ أنْ تقولَ هذهِ شجرة، عنْ شجرةٍ واحدة.. هذهِ شجرةٌ معَ شجرةٍ أخرى عن شجرتين.. هذه شجرةٌ تصفُ نفسها عنْ غابةٍ كاملةٍ منَ الأشجار!
فنرى هنا أن الشاعر ينظر إلى الأشياء بنحو عام من زوايا مختلفة بمعنى تاتي القصيدة بنحو مجسم وتأخذ أكثر من بعد تأويلي حيث يعيد ترتيب الأشياء الكونية بواسطة مجموعة من الممارسات غير النمطية والتي تتمحور بهدم القناعات المتولدة عند معظم الناس
ومن ثم بناء هيكل قناعات جديدة تتساوق والزمن الحاضر، معتمداً على فائض الرؤية المتولد عنده ، تناسب ما يؤمن به من فلسفة ورؤى .
يقول في قصيدة ذاكرةً العصر البشري الأبشع :
عصرُ البشريّ الأبشع
حيثُ يستيقظُ البشرُ ويجدونَ مدنَهم صغيرة كتلالٍ بعيدة. أيّتها التلالُ اقتربي إذن نريدُ أنْ نصيرَ بشراً طبيعيين نؤلّفُ كلَّ شيءٍ ونموت، نريدُ غرفاً ضيّقةً للفنِّ ومدناً كبيرةً للنسيان!
يقول( في الوجود والعدم )
وجودي صغير
على مقاس يدكِ
هكذا تركت لك خيار أن تلوحي بيد واحدة
وكأنك تضعين اليد الأخرى على وجهي .
الصور والخيال : فكما نرى تبدو الطاقة التصويرية غير ثابتة بواسطة ما يضخه الشاعر من صور وخيال ليجسد الرؤية الاجتماعية الحاضرة . فنحن نشعر تماماً بأنه يملك مفاتيح اللغة ويفتح لنا باب الشعر ليدعونا إلى ارتقاء روحي جميل .
ومن حيث تنوع المواضيع غير المطروقة وغير المستهلكة يقول في( نص دماغ السمكة )
تجتهد الأسماك لتعرف المزيد عن الحياة خارج الماء
تستغرب كيف تموت الأشجار
واقفة في عالم الهواء العالي .!
وكيف يقتل البشر
أصغر نواياهم وهم يعرفون الكثير عن الحب ليعيشوا سعيدين
وكيف ينامون يائسين
وقد اخترعوا الهواتف مع بشر ألف منهم وحبال الملابس من أجل شَيْءٍ ما .
يحاول الشاعر أن يلفت نظرنا بطريقة مذهلة وذكية ، إلى عمق الحزن الذي يكتنف الوجود والإنسان .مع توفر كل الرفاهية المحيطة به .
يقول في نص رصاصة صوتية:
أنهيتُ حياتي برصاصة واحدة
وكتبت ذلك على قبري
فاعتقد الآخرون أنني قتلت نفسي
لكنني في الحقيقة فرغت مسدسي في الهواء
لأطمئن على حياتي .
مع أن الموت شيء بشع ومخيف أصبحت فكرته هنا فناً مختلفاً ، ثمّة دهشة مشرقة في هذا النص ؛ فالشاعر يفارق الواقع بالخيال حيث يموت ويكتب على قبره . فالنعترف إذاً أنه مصور وحداّس ذكي ولديه تجربة واسعة في تقنية الانزياح والمفارقة . وثمّة دهشة تتوغل في عروقنا ونحن نتابع حروفه التي تشق طريقها إلينا بطريقة سلسة وتتربع على قلوبنا
يقول في الجزء السابع من نصوصه :
ثوبك القصيرُ مثل هذهِ الأيّامِ الأخيرةِ
لميّتٍ يريدُ فراشاً طويلاً
وأصدقاءً طويلين لا يسمعونَه وهو يهذي.
ثوبُكِ القصيرُ مياهً صافية أحرّكُها بيدي مرّةً لأرى ومرّةً لأختبرَ حدْسي!
فكما نرى نصوصه لم تكتب كتابةً وإنما صُورت بكاميرا دقيقة للغاية ، وكأنه أرسل آلهة الصيد والإنجاب – آرتيمس- لتلتقط له مشاهداً بالغة في الدهشة لتصبح الحارس الذي يخرج لذلك التيه البعيد . يبوح بشبكة من الرؤى والتصورات ليكون لنفسهِ لغةٍ شعرية مبهرة . حيث نغرق فيها ببحر فلسفي عميق . يرمي فيه خلاصة أفكاره وثقافته المتعددة الجوانب ليصطادها بعد ذلك قصائداً متفردة.
ترتدي خيالاً ملوناً ومتميزاً . إنه شاعر استطاع أن يعجن صلصال الحروف ويشكلها كما يحب يبني مدناً ويهدم أخرى يشق البحور بعصاه ويطير بجناحين خفيفين ليلامس ذهب النجوم .
تابعت قصائده لمدة زمنية طويلة وبعدها اقتنعت بأنه شاعر اكتوى بجمرة الحروف ولذعته نار الكلمات . وقد فجرت في أعماقه جداول خضراء ، انبثقت نجوماً في سماء الظلام
لتنير زوايا القلوب لعلها تغسلها من القسوة والبشاعة . هو شاعر يحملُ وجع الكائنات المسحوقة ويحاول أن يرمّم العالم . يعيد هندسة الكون بالشعر يزرع في حقوله أشجاراً وتارة يفجر أنهاراً من الإبداع لا تنضب ليجعله أقل قساوة من الحديد وانعم من الماء
ويغرقنا نحن في بحر الجمال العميق .
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت