- د. عبد الله عدوي
- أكاديمي متخصص في الإعلام
شكلت الأحزاب الفلسطينية بوابة الدخول لعالم السياسة، لا سيما بعد إعادة تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية مطلع سبعينات القرن الماضي، وتسلم حركة فتح قيادتها بعد حقبة تصدرت فيها الشخصيات ذات التوجهات المتنوعة وغير الحزبية للمشهد السياسي، فمنذ تلك الفترة لعبت الأحزاب السياسية دورا رئيسا في تصدر المشهد السياسي، مرورا بانتخابات عام 1996، وانتخابات 2006 التي تنافست فيها حركتي فتح وحماس وشكلتا الثقل الحقيقي لتوجهات الجمهور، فيما حظيت الكتل الأخرى على نسبة متواضعة جدا، ومنيت كتل المستقلين بهزيمة واضحة. فهل تشكل الانتخابات القادمة تغييرا في المعادلة؟
للإجابة عن هذا السؤال لا بد من قراءة مشهد كل مرحلة لفهم المعطيات التي قادت إلى تلك النتائج، فمرحلة التحول الذي شهدته المنظمة في السبعينات كانت في سياق سيطرة تنظيم متماسك وناشئ وقوي ويحظى بشعبية كبيرة حينها على المشهد النضالي، الذي انعكس على حضوره في الجسم التمثيلي الفلسطيني آنذاك، أما مشهد الانتخابات التي عقدت بعد إنشاء السلطة الفلسطينية فكانت في ظل وجود الحزبين الأوسع حضورا في الميدان السياسي والنضالي سواء بعد الانتفاضة الأولى؛ والتي فازت فيها فتح بعد مرحلة تم فيها تحقيق _ما تعتبره شريحة كبيرة من الشارع الفلسطيني_ إنجازا يتمثل في وجود سلطة وطنية وتحقيق القبول الدولي والتمثيلي للفلسطيني، أو الثانية التي كان التنافس فيها بين فتح وحماس كبيرا في النضال والمقاومة، انعكس ذلك على نتائجهما في الانتخابات التشريعية، فالرأي العام مشبع بإنجازات كلا الحركتين وحضورهما وما قدمتا من شهداء وأسرى وخدمات، وليس سهلا على مزاج الرأي العام تقبل من هم خارج هذه المنافسة، فالقطبية تشد الجمهور بصورة كبيرة ويضعف تأثير ما بينهما.
تحولات كبيرة وعميقة شهدها الشارع الفلسطيني، تنبؤ عن تغييرات كبيرة متوقعة في مزاج الرأي العام في الانتخابات القادمة، وعلَّ قراءة المعطيات ترسم صورة واضحة عن الاعتبارات التي تساهم في قراءة مشهد الرأي العام الجديد من زواياه المختلفة.
على صعيد الحركتين فتح وحماس؛ حملت السنوات الخمسة عشر بعد آخر انتخابات حتى اليوم كثيرا من الأحداث التي تركت آثارا عميقة لدى شرائح المجتمع المختلفة حتى التنظيمية منها، فعلى صعيد حركة فتح التي اقتصرت سيطرتها على الضفة الغربية، وبالرغم من وجود القاعدة الشعبية لها، إلا أنه يسود غضب واسع ورأي عام مستاء من استشراء الفساد والمحسوبيات وتدهور الوضع الاقتصادي وغيرها، وفق ما عبرت عنه استطلاعات الرأي المختلفة، في مشهد يضع الحركة في صراع مباشر مع المواطن، بل إن هذا الصراع أخذ في مشاهد كثيرة صراعا مع منتسبيها في النقابات المختلفة، لتشكل حالة الفراغ التنافسي مع خصم قوي (حماس) تنافسا داخليا يقود إلى صراع يشتت الجمع، ونتائجه ما نسمعه عن توجهات لتشكيل كتل عدة من الجسم الفتحاوي، كما أن حركة فتح دخلت في تنافر مباشر مع قاعدتها في غزة، فخلافا للمستفيدين من السلطة بشكل مباشر هُمشت شرائح الحركة الأخرى، فضلا عن الشارع الذي بات يرى في السلطة محاصرا له بعد سلسلة القرارات المُعاقبة لغزة، فالرأي العام لا يفهم الحسابات السياسية بقدر ما يفهم ما تتسبب به القرارات من أضرار مباشرة له.
على صعيد حركة حماس فالمشهد ذاته مع معطيات أخرى، حيث سيطرتها على قطاع غزة والحصار المفروض عليها والذي يدفع ثمنه المواطن يؤثر على حالة الناخب الذي أتعبته تلك السنون، غير أن بنية حماس وتماسكها التنظيمي في غزة يشكل ميزة عن فتح في الضفة، فيما المشهد بالنسبة لحماس في الضفة يتقارب مع فتح في غزة من ناحية التغييب طوال تلك السنوات للحركة وعدم انخراطها في الشأن العام مع استحضار وجود فوارق في المقارنة، ما ينعكس على حضورها في ذهن الناخب الذي غابت عنه، بل إنها غابت حتى عن منتسبيها وأعضائها، فليس سهلا أن يستحضرها المواطن العادي الآن لاسيما مع إذا تحدثنا عن شريحة الشباب.
غياب الحضور للفصائل الأخرى عن المشهد فضلا عن حضورها الضعيف لا يعول عليه في تشكيل اختراق حقيقي للمشهد الانتخابي القادم، بل إن المزاج العام ووفقا للمعلومات المنشورة عن قراءة الرأي العام بات يعزف عن تأييد الأبعاد السياسية والقضايا المتصلة بها، ويؤخرها في سلم أولوياته، فيما تتركز أولوياته التي يريد إحداث اختراقا فيها في اتجاهات أخرى.
من هنا، وفي ظل المعطيات التي وصل إليها المشهد الفلسطيني فإن الناخب سيبحث عن التغيير وتجريب غير المجرب حتى لو كان ضعيفا، فحالة اليأس من الأحزاب التقليدية قد تدفع الناخب لمعاقبتها أولا، والبحث عمن يمكنه إحداث التغيير المطلوب بالنسبة له، والمتمثل في تحسين الوضع الاقتصادي ومحاربة الفساد والبطالة، وغيرها من سلسلة المشكلات الطويلة.
يجدر بنا لفهم المزاج العام والتنبؤ بأية تغييرات يحملها أن نقرأ أيضا التحولات الاجتماعية والإعلامية التي باتت تشهدها المجتمعات المعاصرة في ظل الثورة الاتصالية التي نعيشها، وما تجارب الولايات المتحدة التي لعب فيها الإعلام الرقمي دورا مهما في جلب ترامب إلى سدة الحكم، وجلب قيس سعيد لرئاسة تونس وإحضار شخصيات كوميدية وفنية ورياضية لرئاسة دولها، إلا شواهد على تغييرات كبيرة نشهدها في تشكيل الرأي العام المعاصر، والذي يمكن أن يأتي بشخصية على هامش العمل السياسي لتصدره، وهنا المشهد الفلسطيني ليس استثناء، بل إن التجربة التي عاشها لـ 15 عاما تدفع بقوة نحو ذلك، ما يعزز من حضور القوائم غير الحزبية سواء لمستقلين أو تجمعات خارج الأطر الحزبية المعروفة، وقد نشهد أكثر من حصولها على مقاعد محدودة، بل حصد بعضها نسبا جيدة داخل المجلس التشريعي إن استطاع أصحاب هذه القوائم الاختيار ومخاطبة الشارع بما يتناسب مع توجهاته وحاجاته، ولا نستبعد تفوقها على أحزاب سياسية كبيرة، ولا يستبعد أيضا فهم الأحزاب لهذه المعادلة واختراقها لهذه القوائم.
ليست الانتخابات التشريعية وحدها التي تحمل الجديد في فرص المستقلين لاختراق حصون الأحزاب، إذ إن الانتخابات الرئاسية المقبلة هي الأخرى قد تسوق لنا مفاجئات تنسف المألوف من حسم الحزبين الكبيرين من خلال دعم مرشح مستقل للرئاسة ليكون منافسا يحظى بقبول الشرائح المختلفة ومنها الحزبية أكثر من مرشح اللون الواحد، ما ينبئ عن احتمالية تغيير كبير في المشهد برمته.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت