- عماد عفانة
الناظر الى تفاصيل المسار الفلسطيني، يجد أنه رغم تجرد المناضلين لتحقيق الهدف الذي انطلقوا من اجله والتف الشعب حولهم من أجل تحقيقه، وهو تحرير الارض والمقدسات، هذا المسار تعرض الى انحراف بسيط لكنه ومع الزمن أصبح كبيرا.
فسلاح المقاومة بات مقيداً، وفعلها على الأرض بات محدوداً، وفترة التجهيز والاعداد طالت لدرجة باتت تشكل عبئا على بعض قطاعات المقاومة، فيما العدو يتقدم باطراد سياسيا حتى باتت راياته ترفع في كثير من دول العرب، وطائراته تحلق في اجوائها، واموال العرب تستثمر في اقتصاده، ويتقدم عسكريا ويراكم القوة المادية والتقنية، ويسجل اختراقات على حساب المقاومة، ويتوسع باستمرار على حساب ارضنا ومقدساتنا.
السياسة إذا لم تخدم أهداف الثورة تتحول الى ملهاة، ولحظة الثورة لا تنطبق عليها قوانين السياسة المقيدة والمكبلة لعنفوانها، والثورة لم تحظى بهذا الاسم لولا كونها وصف لموجة انفجارية غير متوقعة.
فشعبنا المكبل بالاتفاقات أمس ما يكون إلى روح الثورة لتحرير طاقاته، ولتشحذ همته وعزيمته التي تسببت مزاريب السياسة في احباطها وذبولها.
شعبنا بات بحاجة ماسة لإعادة روح الثورة من جديد، لإخراج الشعب من سلبيته ومن تفاصيل حياته اليومية التي تثقل كاهله، لصالح اعادة الاعتبار لمعاني النبل والفضيلة والتضحية والفداء التي كان يتميز بها.
شعبنا بات بحاجة لاستخدام ما يتمتع به من خيال سياسي، ومن حكمة وحنكة وخبرة ممتدة على مدار نحو قرن من النضال والمقاومة، لبعث القوة المعنوية في أوصاله، وبعث صلابة الإرادة في عزماته، وتعزيز الإيمان الراسخ بعدالة قضيته، وإطلاق روح الإصرار على النصر مهما تكن التضحيات والمدلهمات.
فالثورة التي عرفنها منذ نعومة أظفارنا هي صراع وجود لا صراع حدود، وليس صراع على كهرباء أو غاز أو رواتب أو فتح معبر او انشاء ميناء، أو سلطة ومناصب، فالثورة مغالبة لا مطالبة.
فلسطين ليست غزة، والمقاومة فيها ليس للدفاع عنها فقط، بل للدفاع عن ولتحرير كل فلسطين وحماية كل الشعب، فلسطين هذه وبعد اغتيال عرفات باتت بحاجة الى قائد وريث للثورة ذو عزيمة فولاذية، وإيمان لا يتزعزع بعدالة قضيته، قائد لا ييأس، ولا تلين له قناة، بل يظل متشبثا بالأمل، مراهنا على المستقبل، لا يستسلم للواقع ويأبى العيش تحت بساطير محتليه.
مثلت منظمة التحرير في مرحلة المراحل دور الأب للثورة وبيتا للثوار، فوصفها البعض بالوطن المعنوي للفلسطينيين.
لكن وبعد تخلي منظمة التحريرعن مهمتها في التحرير، وبعدما ألغت ميثاقها وادانت وجرمت تاريخها، وتنكرت لمنطلقاتها وثوابتها، باتت الثورة الفلسطينية بحاجة الى من يمثلها، وإلى وطن معنويا تلجأ وتأوي إليه.
قد يكون تعرض قوات الثورة لهزائم منكرة ادى لخروجها من لبنان 1982، أوابان اجتياح الضفة المحتلة 2002، أدى إلى تراجع القوة المعنوية لدى قوات الثورة، وفقدان الجماهير الفلسطينية الأمل في نجاح الثورة، ما دفع السلطة بقيادة عباس للاستسلام للخيار السياسي المرتهن لإرادة المحتل.
إلا أن ما اوصلنا له هذا الخيار السياسي هو واقع يدفع إلى اليأس، ويقود إلى الاستسلام؛ فقد فقدت ثورتنا الأرض حتى باتت القدس عاصمة للكيان، وباتت رام الله وتحرك رئيسها فيها محكوم بقرار مجندة صهيونية في بيت ايل، وغزة بات حصارها واقعا لا فكاك منه، وشعبنا في الداخل المحتل يخضع لمحاولات تفتيت واقتلاع وتذويب لا تتوقف، وشعبنا المشرد في الشتات بات خارج الحسابات.
وبالنظر إلى الواقع الفلسطيني بمختلف ساحاته، لا يجد إلا غزة مؤهلة للعب هذا الدور الذي تركته منظمة التحرير وقائدها عرفات.
فرغم الأهمية القصوى للضفة الغربية المحتلة كساحة رئيسية للصراع مع العدو المحتل، ورغم ما تتميز به ساحة الضفة عن غزة جغرافيا وبشريا ودينيا، إلا أن ما يضعه محمود عباس من قيود تكبلها بالتعاون الأمني مع المحتل، وبالخنق الاقتصادي مع فتح فرجة لهم للعمل داخل الكيان، وبالتفرد السياسي حتى باتت فتح تأكل أولادها، لم يبقى للفلسطينيين من ملجأ سوى غزة المحاصرة خارجيا لكنها المحررة داخليا، غزة التي تملك قرارها وتناور عدوها، وتحتضن كل حملة البنادق فيها.
غزة ليست خزان بشري للعوز والاستهلاك والصراخ والعويل، بل خزان للثورة والثوار والبذل والتضحية، وما شهدناه من تدافع في مسيرات العودة عنا ببعيد.
غزة بحاجة الى ما يلتقط شغفها بالثورة، وعشقها للشهادة.
غزة تنتظر من يشعل فتيل بعث ثورتها من جديد، ومن ينظم جميع حملة البنادق في عقد العودة والتحرير.
منظمة التحرير المظلة السياسية الهرمة صنيعة النظام العربي الرسمي، التي يجهد الجميع لإعادة احيائها، يمكن لغزة التي باتت تمثل قاعدة عسكرية وسياسية لجميع قوى المقاومة، أن تحل محلها، وما ينقصنا فقط هو قيادة ثورية تلتقط هذا الدور وتدفع بها لتبوئه.
الشعب الفلسطيني مل الخطابات الرنانة والشعارات الفارغة والوعود الكاذبة، القضية الفلسطينية بحاجة الى عمل حقيقي والى توجه مخلص والى نوايا حقيقية للتقدم للتغيير.
لذا باتت الحاجة ملحة لقيادة للثورة ذات عزيمة فولاذية، غزة عندها كيافا ورفح كجنين وبيسان كعسقلان لا يفرق بين شبر وشبر من الوطن.
قيادة ذات إيمان لا يتزعزع بعدالة قضيتها، لا تمل التفكير في أي طريقة لتحقيق انتصار جديد، يُعيد للثورة الفلسطينية رونقها وحيويتها، وثقة الشعب الفلسطيني فيها، مثل قرار تحرير أحد مدن الغلاف كعسقلان على سبيل المثال.
لن يمثل تحرير عسقلان على سبيل المثال الأمل للثورة المنشودة للانبعاث من حالتها المزرية فحسب، بل ربما يمثل مجرد بداية، رغم أن المهمة قد تكون عسيرة، بسبب اختلال موازين القوى، لذا يجب أخذ العدو بالحنكة والخدعة، وبكثير من الإصرار والقوة، الأمر الذي يستلزم قيادة مرنة وملهِمة ومتفهّمة.
لكن ثورة كهذه كي تكون مؤهلة لحمل عبئ التحرير بشكل حقيقي، يستلزم من ربابنتها أن يتخلّوا عن أسرهم وممتلكاتهم وأموالهم، ليستحقوا أن يكونوا قدوة لقوات الثورة، فمن يذهب لصلاة الاستسقاء متيقنا بالغيث عليه أن يصطحب معه مظلة.
فالثورة التي نتمنى تستحق قيادة تشاركه الخوض في الانفاق والثكنات والاشواك، قيادة تجمع بين العسكرة والسياسة، من نمط القيادة المرنة الملهِمة المتفهّمة، كونها تقود جيشا من المتطوعين الذين تدفعهم حماستهم.
التكتيكات المتوقعة والمقروءة للثوار في غزة باتت بحاجة الى اعادة نظر، لصالح العمليات المباغتة الكفيلة بتحقيق نصر ملهم للثوار، ومحبط للعدو، ويفتح طريقا واسعا للاندفاع نحو مواصلة الطريق.
ثورتنا بعد طول تجهيز واعداد بحاجة الى معركة تغَير مسار المعركة، وتنقل الثورة من مضايق اليأس إلى آفاق الأمل، وتعيد إليها قوَّتها وفتوَّتها، وتكسب لها دعم بعض القوى المهمة.
ان تحقيق انتصار في معركة مباغتة تملك فيها الثورة زمام المبادأة سيفتح عليها سيل من المتطوعون ومن مختلف الساحات للقتال في جيش الثورة، حتى ربما يتضاعف عدد قواتها في مدة وجيزة، مع ما قد يصاحب ذلك من تدفق دعم مالي وعسكري من محور المقاومة ومن غيره من الدول المترددة.
ثورتنا بحاجة الى انتصار في معركة كفيلة بإقناع الآخر الفلسطيني والعربي تجاه الثورة الفلسطينية، لجهة تحررهم من التردد في دعمها، والمراهنة عليها.
المستحيل هو ما تبرع الثورات في تحقيقه، والممكن والمتوقع والمقروء أبعد ما يكون عن تحقيق الأهداف.
فاللحظة التي تبلغ فيها حالة الاحباط مبلغها جراء الحرب النفسية التي يتعرض لها شعبنا، وتراكم التراجعات الميدانية، وحشر قوى المقاومة في غزة، وحظرها وملاحقتها في الضفة، هي ذات اللحظة التي يجب ان نثور فيها على ثقافة اليأس والجبرية، وضعف الأمل في التحرير، والانشغال بجلد أنفسنا عن مواجهة المحتلين.
الثورات الحقيقية هي تلك النابعة من ضمير الناس وأعماق الشعوب، قد ترهق أو تنحني، لكنها لا تذوي ولا تنتهي.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت