في الذكرى36 لاعتقاله

الأسير وليد دقة: اسم نردده بكل فخر واعتزاز

بقلم: عبد الناصر فروانة

الأسير وليد دقة
  • بقلم/ عبد الناصر عوني فروانة

25-3-2021

أسرى الداخل: أسماء فلسطينية حُفرت عميقا في سجل النضال الوطني الفلسطيني والحركة الوطنية الأسيرة. وبهم ومعهم صرنا نرى معنا في السجون شباناً ورجالاً ونساءً غير لاجئين، وقد ولدوا بعد النكبة، وينتسبون إلى مدن فلسطين التاريخية، ويقيمون في حيفا ويافا واللد وعكا وعارة وعرعرة وباقة الغربية، وأم الفحم، وغيرها من المدن الفلسطينية المحتلة عام 1948 والمنقوشة عميقا، في الذاكرة الجمعية الفلسطينية. هكذا عرفناهم ورددنا أسماءهم وحفظناها في قلوبنا وعقولنا وسجلات تاريخنا ومجدنا.

وليد نمر أسعد دقّة، هو واحد من أولئك الفلسطينيين الذين نُطلق عليهم "أسرى الداخل"، وقد ولد في الثامن عشر من تموز/يوليو عام1961، لأسرة فلسطينية تتكوّن من ستّة أشقّاء وثلاث شقيقات، داخل الأراضي المحتلّة عام 1948، وتسكن في مدينة "باقة الغربية" في منطقة المثلث شمال فلسطين.

تعلّم "وليد" في مدارس المدينة، وأنهى دراسته الثانوية في باقة الغربية، ولمّا لم يحالفه التوفيق في إكمال تعليمه والالتحاق بالجامعة، انتقل الى العمل في إحدى محطات تسويق المحروقات، وفي الخامس والعشرين من آذار/مارس 1986 اعتقلته سلطات الاحتلال إثر انتمائه للجبهـ ة الشعبـيـ ة لتحـ رير فلسـطين وانتسابه لخلية اختطفت جنديا إسرائيليا وقتلته، بهدف مبادلته بأسرى فلسطينيين، بالإضافة إلى حيازة أسلحة ومتفجّرات بطريقة غير قانونيّة (حسب التصنيف الإسرائيلي) واتهامه بالقيام بأعمال فدائية داخل الخط الأخضر، ومن ثم أدانته إحدى المحاكم الإسرائيلية بالتهم المذكورة وأصدرت بحقه حكما بالسجن المؤبد، والذي تم تحديده لاحقا بـ 37سنة، ليبدأ مرحلة جديدة من الحياة، ورحلة طويلة داخل السّجن.

خمسة وثلاثون سنة، واكثر، أمضاها "وليد" في السجن وما يزال يقبع في سجن جلبوع الاسرائيلي، تعرض خلالها لأبشع صنوف التعذيب، الجسدي والنفسي، ولأشكال كثيرة من القهر والحرمان، وتنقل خلال تلك السنوات الطويلة للعيش بين جدران سجون متعددة، لتزداد معاناته وتتدهور حالته الصحية سوءا. فالسجن وكما يصفه "وليد" في إحدى كتاباته "مكان سيّئ، وهو أحقر اختراع صنعته الإنسانيّة لمعاقبة الإنسان. والسّجن، كمؤسّسة شموليّة، لا يستهدف السّجين بصورة عامة، وإنما الإنسان الفرد، كتفاصيل حياة ومعالم ومميّزات شخصيّة".

وبالرغم ممّا مُورس بحقه، والاجراءات القاسية التي أُتّخذت ضده، والتمييز العنصري الذي تعرض له، إلا أنه واجه كل ذلك بإرادة فولاذية ومواقف بطولية، وحافظ على جوهره كإنسان، ومكانته كمناضل، وعزز من قيمته بين المجموع، وتأثيره في المجتمع الفلسطيني من خلال عشرات الآلاف من الأسرى الذين عايشوه بين الجدران الشاهقة وخلف الأبواب الموصدة، ليبرز دوره النضالي والاعتقالي داخل السجون كأحد أهم قيادات الحركة الأسيرة، وأبرز مثقفيها، والمؤثرين فيها.

كما برز "وليد" كشخص سياسي مثقف وواحد من أبرز من كتبوا داخل السجون حول الحالة الفلسطينية، ولعله الأبرز على الإطلاق في وصفه لحال السجون والمعتقلات الإسرائيلية وواقعها بجرأة عالية وموضوعية غير مسبوقة عبر لقاءاته وكتاباته ورسائله المهرّبة من خلف القضبان. فهو يمتاز بقدرة إبداع فنية وأدبية في رسم حياة الأسرى ويومياتهم خلف الشمس.

لم يتوقف نشاطه على القراءة والمطالعة والتعلم، ولم يكتف بدور المثقف وتثقيف الآخرين ونقل التجربة، وإنما تعدى الأمر ذلك، ليشارك إخوانه ورفاقه في تفاصيل الحياة اليومية ولينسج علاقات وطنية صادقة مع الجميع، ويشارك في كافة أشكال المواجهة مع السّجّان بما فيها الإضرابات المفتوحة عن الطعام، ذودا عن كرامة الأسرى ودفاعا عن حقوقهم وتمسكا بإنجازات الحركة الأسيرة ومكتسباتها. ونتيجة لدوره اللاّفت وحضوره المؤثّر وثقافته المتميّزة والكاريزما العالية التي يتمتّع بها، ظل في دائرة الاستهداف الإسرائيلي، لتُقدم إدارة السجون على عزله مرات عديدة في زنزانة انفرادية بهدف كسر إرادته والتأثير السّلبي عليه، والحد من تأثيره الإيجابي على الأسرى، في إطار سياستها الهادفة لصهر الوعي لجيل من المناضلين.

واصل "وليد دقة" تعلمه وزيادة معارفه العلمية، فأنهى دراسته الجامعيّة في السّجن، وحصل على درجة الماجستير في الدّيمقراطية السّياسيّة، من خلال الانتساب عن بعد إلى الجامعة العبريّة المفتوحة، ولكن الوعي والتأثير الفكري –كما يقول وليد- تصنعه أطر أوسع من الجامعة أو المدرسة والأسرة.

لقد كتب الكثير من المقالات، وبعث العديد من الرّسائل، وأجريت معه عشرات اللقاءات الصّحفية، وكلّما قرأت له شيئا كتبه أو قاله، ازددت إعجابا به واحتراما وتقديرا له، وما زلت أحرص على قراءة ما يكتبه وما يصدر عنه، فهو من أحسن القول وأجاد الوصف وأصاب في تحليله، وتمعّنوا هنا أيها السادة بما قاله في إحدى لقاءاته عن الانقسام: "لا أبالغ إن قلت إنه، ورغم أن من يغلّق عليّ باب الزنزانة هو سجّان إسرائيلي، لكن الذي يصنع له مزيدًا من الأقفال هو الانقسام الفلسطيني. تأمّل المسألة جيدًا، فهذه ليست بلاغة لغوية، وإنما هي حقيقة يجب أن نصرخها في وجه من ضلّوا الطريق نحو الحريّة".

وليد دقة: اسم تردّد على مسامعي بفخر وعزّة منذ أن اعتقل، وقبل أن أتحوّل أنا الآخر إلى أسير، فحرصت على الدوام على متابعة أخباره، وبين الفينة والأخرى كنت أتواصل مع أسرته، وما زلت أتابع وأقرأ ما يرتبط به من أخبار وكلمات، فهو قيمة عالية وقامة رفيعة بحجم السّنديان شموخا، وكنز من المعلومات القيّمة. وإن كنت هنا أسجّل تقديري العالي لشخصه - وهذا أقل واجب علينا- فإن الواجب يتطلب كذلك أن أسجّل فخري واعتزازي بوالدته الصامدة، الصابرة، المناضلة، الحاجة فريدة. كما وأسجل اعجابي بزوجته المناضلة والأسيرة المحرّرة "سناء سلامة" التي ارتبطت به عام 1999، وربطت مصيرها معه، وأنجبت منه "ميلاد" عبر النطف المهربة. وهي كانت على يقين بأنها ستنتظر طويلاً. فما أعظم تلك المرأة التي تمتلك من الخصال ما يؤهلها لأن تقف بشموخ بجانب خطيبها الأسير، وتصبر طواعية على بعده، وبقناعة تامة تسانده في محنته وتحمل معه الهموم في مواجهة السجان. ومازالت على العهد باقية.

وليد دقة: هو واحد من الأسرى القدامى، ويُعتبر سادس أقدم أسير فلسطيني في سجون الاحتلال، وهو واحد من ستة وعشرين أسيرا معتقلين منذ ما قبل اتفاقية "أوسلو" وصفقة "وفاء الأحرار". ذاك "السلام" الذي لم ينجح في تحقيق حلمهم بالحرية والعيش بسلام بين أهلهم وشعبهم، وتلك المقاومة التي عجزت عن كسر قيدهم وفرض شروطها على المحتل. وفي الوقت الذي كنا نأمل أن تعالج المفاوضات ما حدث وتضمن الافراج عنه عام 2014 ضمن ما يُعرف بالدفعة الرابعة، جاءت حكومة الاحتلال وتراجعت عن تفاهماتها وتنصلت من الاتفاق ورفضت الافراج عنهم.

ومع ذلك ورغم مرور (35) سنة على اعتقاله، يبقى "وليد دقة" كما عرفناه مناضلا عنيدا وصلبا، وأسيراً شكّل على الدوام نموذجا، وقاسما مشتركا ومنارة ومفخرة للكل الفلسطيني.

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت