- المتوكل طه
***
منذ ليلة الاجتياح 28/3/2002 حتى يوم 17/9/2002، أي خلال ستة أشهر، يكون جنود الاحتلال قد اجتاحوا الأراضي الفلسطينية ثماني وثلاثين مرّة، يدخلون ويخرجون، يستبيحون قلب المدن والبلدات والمخيمات، ثم يعلنون للعالم أنهم انسحبوا، وهم بالفعل قد انسحبوا من قلب المدن وربضوا بآلياتهم وكامل عتادهم حول المدن وفي الضواحي، وخلال ثلاث دقائق يعودون ويستبيحون.
ويبدو أنهم ملّوا هذه اللعبة – السحّاب، فقرروا المكوث الدائم، فأعادوا احتلال الأراضي الفلسطينية بشكل كامل، وتمترسوا في البنايات والمدارس وعلى المفارق، وفي نهاية وبداية كل طريق، وثمة رصاصة غليظة في بيت النار.
هنا، لم تكن حرب، لأن للحرب أخلاقاً وحدوداً ونواميس، بل كانت استباحة مطلقة وعمياء، ربما تشبه طاحونة ضخمة، ارتفع شقّها الأعلى، ووُضِعت الضفة الغريبة فوق شقّها الأسفل، ثم انطبقت على نفسها، وراحت تجرش كلّ شيء، فسال اختلاط الدم والحديد والجير والعظام. ولم تتمكّن عينُ الكاميرا أو الحواس العشر الشاهدة من رؤية شىء غير ذلك الخليط الفريد المفجع الكاوي.
*
خلف هذا الليل القاني نهارٌ يولد، يحمل عافية الليمون وشهقة التين. هذا إذا أحسنّا رعاية الحليب وبرعم اللاثغ ابن الثاكل، أو بنت العشرين التي لم يجد أحد لغةً يصف أصابعها المتوترة وهي تشدّ شَعرها المنعوف ساعة حملوا زوجها المذبوح على نعشه، والقشعريرة قد وصلت إلى جدران البيت الذي هدموا نصفه ، وما زالوا في غرفته الأوسع ، يذرعونها بالمجنزرات التي تشبه الكنغر ، الذي يخبّئ الدببة المدجّجين في بطنه الحديدي ، أو كالديناصور الهائج الذي يسحق بأسنانه الفولاذية ، فيصحو الليل المذعور يردد بهوائه الملغوم صدى ارتعاشة الأيدي والأرجل الصغيرة.
ثمة ما لا يوصف!
وهنا، بالضبط هنا، جنون كامل ورعب كامل وبسالة كاملة. ثمة كمال تشكّل بأمر الغزاة والناس البسطاء، مثلما هبطت الأساطير من عليائها الغائم إلى الأزّقة والبيوت، وصعدت الخرافات الواقعية من بين الأضلاع والسقائف والطرقات. وثمة ما لم يدركه الكلام مهما وصلت بلاغته،وما لم تصوّره الكاميرات الحاذقة المُطاردة بالرصاص الحيّ والغاز المُسيل للعار والأوامر العسكرية الصارمة .
*
لهذا، فإنّ الكتابة عن هذا الجحيم المهول، وعن هذه البطولة الفذّة ترتبك، وتختفي لأسباب عدّة ؛ أولها أن في فظاظة كل هذا القتل والتدمير ما يُغني عن الكلام ، حتى أن المرء يشعر بلا جدوى الكتابة أمام كل هذا الذي لا أدري كيف أصفه ! وثانيها أن المشهد لم ينته بعد ، وبالتالي فإن ما سيُكتب سيكون أقرب إلى الكتابة الميدانية الواصفة الساخنة الهادفة للشحذ والإثارة والتحريك ، ولم نبتعد بعد عن الصورة لنتأمّل تفاصيلها كاملة ، ونتذكر – ونحن نلهث خلف الجراح الدفّاقة أو تحت سواطير الموت – ما ينبغي تأمّله وسبر غورة لتكتمل الصورة التي ينبغي أن نقدّمها كاملة ، إن استطعنا ، لتكون الرواية شرعية وغير منقوصة دون تهويل أو صراخ ، أو تكون شبيهة بتلك اللحظات ، التي كانت أروحنا تترجرج فيها ، مثل الزيت المحروق في قارورة ملتهبة.
*
وهنا إرهاصات ظلام علينا أن نتنبّه لها حتى لا تنمو وتمرع وتعمّ الأنحاء، وتُغطّي إنجازاتنا الوطنية وأسماء الشهداء العظيمة ، وتتمثّل تلك الإرهاصات في هامش الخطأ فينا، أو ما يحلو للبعض تسميته بالفساد، ما يوجب إجراء عملية تطهير داخلي، واستكمال التشريعات، وإعادة حضور المؤسسة والسلطات المسؤولة المُقامة على أسس محدودة وحديثة متكاملة تراعي الثواب والعقاب والمتابعة الحريصة المنتمية، علماً أن أيادي خفيّة وطابوراً خامساً يعملون بشكل حاسم وماكر على استراتيجية متمكّنة للدخول إلى أحشائنا وإشاعة المرض والفوضى فينا، وخلق بدائل مشبوهة وظواهر قاتلة.
ولعل جزءاً صغيراً وغير معلن من هذه الانتفاضة العبقرية قد اشتعل ضدّ الخطأ فينا، لكن جوهر الانتفاضة واتساعها كان متّجهاً نحو الاحتلال ويهتف للخلاص منه ، والعودة للاجئين ، وللدولة المستقلة ، وللقدس الشريف عاصمة أبدية لا بديل عنها أو لها . وفي هذا السياق لا بُدّ ، وفي أقرب وقت ممكن ، من التقاط ومعالجة كل التجاوزات والأخطاء والثغرات التي أدت إلى إعاقة الانتفاضة ، أو حالت دون وصولنا إلى بعض ما نصبو إليه أو أبهظتنا أكثر مما يجب.
*
وإن كل لحظة ألم وفجيعة وقعت في جوارح الفلسطينيين ، وإن كل قطرة دم أزهرت مثل نجمة في رأس تلميذ أو ظهر شيخ، وإن كل تأوّه مخاض لحامل وضعت جنينها على حاجز عسكري للضباع ، وإن كل شجرة اقتلعوها من شروشها أو حجر هدمه أو طحنوه ، كل ذلك وغيره ليس من فعل جيش الاحتلال اليهودي وحده ، أو مروحيّات الأباتشي التي تخبز الحارات بالنار والرصاص الغليظ والقذائف المصوّحة، أو طائرات ال أف 16 الأمريكية التي تزلزل كل ما هو قائم وتبعثره بحمولتها ، بقدر ما أن مَنْ يوافق إسرائيل على أفعالها الإجرامية أو يصمت عنها أو لا يرعوي مما تفعله، أو يحول دون الضغط عليها ، هو شريك كامل الشراكة معها، ونعتبره من حاملي المعاول التي حفرت القبور الجماعية لشهدائنا المغدورين ، وجعلوا أمام مداخل مشافينا تلالاً فوقها نصبٌ رخامي كتب عليه أسماء ستة وعشرون شهيداً قضوا في غارة واحدة ، أو نعتبره ممنْ عبّأوا الرصاص في "باغات" الجنود ، أو من الذين جعلوا من موقفهم الجبان توطئة ممهّدة للمجنزرات التي فختت أقواس الأسواق والدور على رؤوس قاطنيها ، ونسفت جامع الخضر، أو قصفت تمثال السيدة مريم العذراء عليها السلام .
كُنّا بشراً
لم نكن جميعنا أبطالاً مقدودين من الصخر، بل ارتعدت فرائص الكثيرين، وعلا النشيج الجماعي غير مرّة في غير موقع ، وراح معظم الجمهور يسدّ رمّانة البيت على نفسه وأهله ويسدل الستائر ، واحتضنت الأمهات أولادهن ، وبحثن عن أكثر الزوايا سلامة في المنزل ، وخبأنهم هناك ، وتسابق الناس ، قليلاً ، إلى محلات البقالة والخضار والأفران ، وابتاعوا كميات كبيرة من الشموع وبطاريات المذياع "الترانزستور" غير الكهربائي ، واقتصدوا في الطعام والغسيل ، وأطلقوا ذقونهم ، حتى لم تعد ترى أحداً إلاّ ولحيته قد نبزت وطالت – وربما لم يحلقوا وجوههم كسلاً او حداداً أو احتجاجاً غير مُعلَن على كل شيء – وازدادت المجادلات بين الأزواج ، والخلافات بين الأطفال ، وبدأت الأصوات تعلو بالمُداخلات السياسية الركيكة بين رجال الحيّ ، الذين تجمّعوا بعد أن اطمأنوا لابتعاد رتْل الدبّابات وصمت فوهاتها وانطفاء نثار قذائفها . وراح الرجال يدلحون حسراتهم وأمنياتهم على مصاطب كلام الليل. وتكاد ترى ذلك الخيط المشدود أو النزق في لسان المتناقشين الذين انتبهوا لتوّهم للأخطاء والثغرات والنواقص التي التي أدت إلى اجتياح الاحتلال لأرضنا، واتّسعت الموضوعات، وراح الحديث في كل اتجاه، أليس الحديث ذا شجون؟! لكن شجون الناس هنا حقيقية، وبارقة بالوجع والدمع والشتائم والمدائح، أيضاً. وربما تواطأ الجميع على أن يقبلوا المبالغات في تصوير هول ما جرى، أو تصوير بطولة أجمعوا على إطرائها والابتشاش لها، ما كان يخلق شيئاً من التوازن النفسي والرضا والاطمئنان، كلّما وصلت أخبار المواجهة وإلحاق الخسائر في صفوف الاحتلال. وربما أعاد الناس لأنفسهم القصص ذاتها مرة إثر مرة، ويصلون بعد كل سرد لها إلى نتيجة حاسمة، يبنون عليها تصوّراً كاملاً وسيناريو لما سيحدث. كما استحوذت البرامج المقدّمة عبر شاشات الفضائيات على جزء كبير من اهتمام الناس، فتراهم يؤكّدون الثناء على هذه القناة الفضائية ، ويسبّون تلك التي تعرض الرقص والعري أو تنكر الشهادة على الشهداء.
مثلما كانوا، وكلما سمعوا صوت انفجار أو صدى قذيفة، أو رأوا دخاناً يصّاعد من ذلك الحيّ او تلك الضاحية، يهرعون إلى هواتفهم المحمولة للاتصال بأحد معارفهم أو أصدقائهم للاستفسار عمّا جرى، وتدور الألسن بالتفاصيل والتهويل والتحذير، فينكمش المستمعون ويردّون بواباتهم خلفهم، ويتمترسون أمام التلفاز بحثاً عن جديد، أو بليّة تقع على رؤوس الناس، غير أن موضوعاً بعينه كان فاتحة الكلام ومنتهاه بين كل المجتمعين، وهو الأنظمة العربية ودورها الغائب الفاضح.
وموقف الولايات الامريكية التي أصبحت، وبشكل لا يرقى إليه شكّ، أكثر كرهاً وعداءً للناس من الاحتلال اليهودي. وبالتأكيد أكبر الفلسطينيون تلك المشاهد المؤثرة لأشقائهم المواطنين العرب والمسلمين وهم يقدّمون المساعدات والأموال والحليّ دعماً لهم، رغم ملاحظتين طالما يرددها البسطاء من الفلسطينيين ، أولاهما أن على الأنظمة الحاكمة ان تقدّم الدعم وليس المواطنين "الغلابة" المساكين ، خصوصاً تلك التي تصب المليارات في خزائن الغرب والعهر والتغريب ، علماً أن الأنظمة تفتح للمواطنين أبواب التبرّع كإحدى آليات التنفيس ، وثانيتهما أن الفلسطينيين ليسوا " شحّادين " كما يقول البسطاء منّا ، والمطلوب هو الدعم السياسي والعسكري الممكن ! ولماذا لا؟؟
وقد يكون طبيعياً أن تزجي الرجال أوقاتها في لعب الورق "الشدّة"، حيث يتحلّقون في أحد بيوت الجيران، وينشغلون ساعات وساعات في فتّ الورق وعدّ حسابات اللعبة إثر اللعبة . وكالعادة، يعلو الصراخ والاحتجاج والشتائم الوديّة ، ويكثر التدخين وشرب القهوة والشاي..
والتوقّف أحياناً إنْ وردت أخبارٌ تفيد بسقوطها شهداء او اجتياح مدينة أخرى!
فضائيات مؤسفة :
وفي مرأى الكثير من الشاشات الصغيرة العربية ما يدعو إلى القهر والأسف ، ولا أعني تلك البرامج التي تصب في واد ، وهمومنا في واد بعيد ، أو تلك البرامج التي تبحث عن شرعيّة الفضائح والخلاعة ، أو تلك التي تأخذ الرائي إلى كسل الإلهاء والبلادة والإحباط ، رغم أن كلّ تلك البرامج هي جزء لا يتجزأ من سياسة استراتيجية شاملة وحاسمة تسعى إلى تغريب المواطن العربي واستلابه ، وإبقاء المواطن مُفَّرَغَاً في عدميّة تامّة ، وحشوة بمضامين تافهة أو محددة سلفاً تقوده نحو المسرب المرسوم له من الأنظمة ، التي رسمت تلك السياسات الحاسمة ، عبر منظومة معاصرة تفيد من كل نظريات العلوم الإنسانية والتقنيات الهائلة.
بل أعني ، للأهمية البالغة ، البرامج السياسية والحوارات ونشرات الاخبار التي "تستضيف" إسرائيليين ، أو تسقط بشكل ساذج أو مقصود في مستنقع المصطلح الاحتلالي المشبوه ، أو تلك التي تعتمد إلى الإساءة للدم الطازج الفصيح الطاهر في فلسطين ، والذي ينسفح دفاعاً باسلاً عن ثروات وأحلام ومقدسات وحقوق أمّة العرب والإسلام من المحيط إلى المحيط.
وهنا، أقصد الفضائيات التي تدّعي العروبة أو تلبس عباءة العفّة الحنيفة، وهي لا تملك من مقوّمات القوم إلا سلامة نُطق الببغاء، أو التستّر بغربال الريبة، وإلاّ فما معنى ما تقوم به تلك الفضائيات، ومنه على سبيل المثال:
أولاً: ترفض فضائية عربية تسمية الشهداء بأسمائهم الكريمة، وتدّعي بوقاحة مُمضّة أن الذين يستشهدون في فلسطين هم " قتلى " ، وتستكثر عليهم هذا اللقب السماوي المقدّس الذي يستحقونه بجدارة مهيبة!!
ولا نأتي بجديد إن أشرنا إلى أن هذه الفضائية تتماهى تماماً مع دولة الاحتلال، وتقدّم لها صنيعاً كبيراً، بتحويل الشهداء إلى مجرّد أعداد أو أموات!!
ثانياً: تقدّم هذه الفضائية ، ومعها عدد آخر من الفضائيات نفسها فضائية " نزيهة" "محايدة"، ليس لها علاقة مع "الفلسطينيين" ، ودليلها على ذلك أنها تستضيف "الطرفين المتنازعين"، وتُعطي كل طرف فرصة "إبداء الرأي وتوضيح وجهة نظره" دون انحياز أو تمييز!!
وعلى هذه الفضائية أن تعرف أننا ندرك أنها تساوي بين الضحية والجلاّد بقصد مقصود، مشبوه وملعون!!
ثالثاً: ويا ليت الأمر يتوقّف عند حدّ " المساواة " والنزاهة " و "عدم التدخّل " ، بل إن هذه الفضائيات تربط بين " الضيف " الإسرائيلي ومدينة القدس ، إما من خلال تقديم الشكر الجزيل له و" الذي تحدّث من القدس" أو من خلال وضع صورة القدس كخلفيّة و"الضيف الإسرائيلي" يشرح وجهة نظرة ! ما يعني تكريس القدس في ذهن المشاهد وهي مرتبطة بالإسرائيلي .
وكذلك التأكيد، عبر نظرية التكرار، أن الإسرائيلي هو طرف "طبيعي" في المنطقة، ولا غضاضة في "التعاطي" مع هذه الدولة الإقليمية، وكأنها دولة شقيقة !!
رابعاً: ويا ليت يا ليت تعتبر هذه الفضائية إسرائيل المحتلّة القاتلة الذابحة الحارقة الفاشية العنصرية المجرمة، دولة شقيقة "احتلّت" دولة"شقيقة" أخرى، فعندها ستصب ّعليها "لعنات" حفظناها، وسنأخذ منها موقفاً مشابهاً لموقف بعض الفضائيات العربية من دولة شقيقة نعرفها، قوامه العداء والسخط وتعرية ما تقوم به صباح مساء! رغم أن دولة الاحتلال ما زالت جاثمة على صدورنا، ولم يفرضوا عليها الحصار، بل يفتحون لها مكاتب الارتباط ويزورونها، ويحتفون بنجمتها السداسية المسروقة من أضلاع النبيّ أو الأندلس.
خامساً: لن أشير إلى أن هذه الفضائيات "تنتقي" أجزاء محددة من الصورة الشاملة، وتأخذ كلمة من سياق كامل، وتبتر جملة هنا وتوصلها بهناك، وتختصر أخبار الانتفاضة وتقزّمها ، بقصد الإساءة والتشكيك وإشاعة اليأس والمقولات السوداء ، ولكنني سأشير على تلك المصطلحات المسمومة التي تدحرجها تلك الفضائيات بمناسبة وغير مناسبة ، وتقوم بتنغيمها تشفّياً وكراهية نافرة مكشوفة.
إن العربي أو المسلم أو الإنسان الشريف لا يمكن أن يكون حيادياً تجاه ما يجري في فلسطين. وإن حضانة المؤسسة أو الفرد تتأتى من ممارسته وتجليّات مواقفه، ولا حسنة لاجتهاد أي "نجم" سياسي ملهوف يسابق الريح في "مفاوضة" جنود الاحتلال وضبّاطه عبر الشاشات والبرامج، لأن الموقف الطبيعي – الآن على الأقل - هو الخجل من الحديث مع القتلة! وإن تقديم الفضائيات المتحدّثين الإسرائيليين هو تقديم صورة "حضارية" للإسرائيلي المحتلّ القاتل، ليتلقّاها المواطن العربي ويتهيّأ لقبول الإسرائيلي والتطبيع معه، لأن " المتحدّث الإسرائيلي "يتم تقديمه أنيقاً لبقاً بلغة عربية غير هجينة !!وليس كما تُقدّمنا وسائل إعلامهم في كل مكان قتلة وإرهابين ومتخلّفين، ثم هل رأيتم أو سمعتم وطنياً فلسطينياً أو عربياً أو مسلماً على شاشة دولة إسرائيل أو فضائياتها أو إذاعاتها أو أذرعها الإعلامية عبر الأرض من شمالها إلى جنوبها؟ أم أننا كنّا في دول مُغلقة، وتحوّلت، ونحن منشغلين بدفن أطفالنا وأشجارنا وبيوتنا، إلى دول ديمقراطية مفتوحة كفم النائم الغشيم الأبله؟
...ولكن رغم كل هذا، لا نجحد الدور المشرّف الذي قام به المراسلون والصحافيون ، حُرّاس الحقيقة ، وبعض الفضائيات تجاه الاجتياح والاستباحة والبطولة العالية.
*
أتذكّر؛
نستيقظ متأخرين، الشوارع خالية، ولا صوت يندّ في الطرقات، غير صرير عجلات الدبابات، وزعيق الأبواق، وصدى قنابل الصوت والدخان ورشات متقطعة من البنادق هنا وهناك، تتجاوب بين ساعة وأخرى. ربما حاولنا، بكل الطرائق، أن نكسر الرتابة وروتين ساعات الرمل الخانقة؛ تتناول فنجان القهوة، وتمجّ سجائرك، وتتكلّس كالصنم أمام التلفاز الذي يضربك على صدغيك بشواظ سياطه وتحذيرات الإدارة الامريكية أو تصريحات قادة الاحتلال، وتشعر بأن رمّانة صدرك ستنفرط أو تنفجر وتُصاب بأزمة قلبية، ويضيق قفص صدرك حين تسمع بعض المسؤولين العرب الذين سيشاركون أمريكا في ضرب العراق!!
تبدّل وجه الشاشة الصغيرة، وتبحث عن قناة فضائية أخرى، فتطالعك رقصات خليعة وأغانٍ فاقعة وإبهار بصري سطحي ثرثار.. ولولا بعض الكلمات العربية لاعتقدت أن هذه الأغاني قادمة من عمق مرابع الليل الغربي المهووس العاري. ربما تكون تلك الأغاني منسجمة مع طبيعة الغرب وخصوصيته، بل هي ابنة مكانها وزمانها وناسها، لكنها، بكل تأكيد، ليست منّا، ولسنا منها، وتضغط على جهاز التحكّم عن بُعد "الروموت كنترول" بحثاً عن قناة أخرى فتأتيك أخبار سقوط الشهيد هنا، وهدم ثلاثة بيوت هناك واعتقال خمسين! ثم تلفحك برودة تصريح لمسؤول يردّ بأناقته النسائية على إجراءات الاحتلال المجنونة التي تفوق التصوّر، بالكلمات نفسها، وبالنغمة التصالحية النذلة ذاتها، تلتقط صحيفة "بايتة" منذ ثلاثة أيام تتصفّحها، فلا تجد شيئاً غير أخبار ملكة جمال سويسرا، والهندي الذي ينام على المسامير مدّةً جعلته يدخل كتاب "غينيس للأرقام القياسية" وكان حريّاً بالصحيفة أن ترشّح أكوام القمامة المتراكمة في المدن لكتاب "غينيس" هذا، لمنع البلديات من جمعها منذ شهرين، ويفهق أمامك عنوان يقول إن الحرب مع العراق ستكلف أمريكا بين مئة ومئتي مليار دولار! تخيّلوا، لو صرف هذا المبلغ لمحاربة الأمراض والفقر، وللنهوض بالمجتمعات المتخلّفة، كيف سيكون وجه العالم؟ وثمة خبرٌ عن رجل من اليمن تزوج امرأة صمّاء بعد أن ملّ من صراخ زوجته، جنباً إلى جنب مع خبر يصرّح فيه رئيس أركان جيش الاحتلال حول نيّة إسرائيل الاستمرار في عدوانها السافر، وصفحتان للرياضة الغربية، وصور بعض الموتى، ومقالات مكررة، أفضلها يشبه ماء الشتاء الجاري، لا يُسبّب النَجاسة، لكنه لا يصلح للوضوء. ونلاحظ خبراً يفيد بأن أكثر من مئة ألف رضيع مهددون بالأمراض بسبب عدم تلقيحهم وتطعيمهم بالطعوم اللازمة.
وترى عدة مقالات مترجمة حرفياً عن الصحافة الإسرائيلية.. ترجمة حرفية!! فنحن في هذه المقالات "مخرّبون" و"إرهابيون" و"أولاد كلب". وتستقر عيناك على الصفحة الأولى فترى اللّغة المُهذّبة جدّاً تجاه الاحتلال الذي تصفه الصحيفة الفلسطينية بالقوات الإسرائيلية وليس بقوات الاحتلال، وتقول الصحيفة وزير الدفاع الاسرائيلي بدل وزير الحرب أو الجيش، وتقول الصحيفة "الفلسطينيين" وليس الشعب الفلسطيني – ثمة هندسة مُعدّة سلفاً لبناء كل شيء – ولكن لا بأس، ثمة خبر صغير في صفحة داخلية مفاده أن قوات الاحتلال ستقتحم المعتقلات والسجون التي تحتوي على تسعة آلاف معتقل!!
وهناك تقرير عن صور الإذلال التي يمارسها جنود الاحتلال على الحواجز، وصورة عروسين يقطعان الحاجز مشياً.. بين البنادق!
وصورة امرأة تحمل ابنها الذي مات مسافة ثلاثة كيلومترات، باكية مهدودة!
تُلقي الصحيفة جانباً وتحاول أن تفتح كتاباً لتقرأ، أو تجد فيلماً معقولاً لتزجي ساعتين من هذه النهارات التي لا تنتهي حصاراتها. تجري بعض المكالمات الهاتفية مع الأهل هناك، ومع بعض الأصدقاء هنا، الأخبار نفسها، والضجر ذاته، والقهر والجوع والجنون يزداد ويزداد، وعند المغرب يجتمع رجال الحارة في أحد البيوت، يؤدّون صلاة المغرب والعشاء جماعة، ليبدأ مسلسل النميمة البريء، أو الانتقاد السطحي أو التحليل السياسي العجيب! فالأحاديث نفسها، والضجر نفسه، والقهر يزداد ويزداد، والشكوى يعلو أوارها، والكراهية والرفض تلمسهما بيدك، ثم يجدون في أخبار أمريكا والعراق مادة دسمة ليصبّوا جام غضبهم على أمريكا والأنظمة العميلة والعرب النائمين والمسلمين الغائبين والعالم المتآمر الصامت المريب. وفجأة يصمت الجميع كأن على رؤوسهم الطير مدة لحظات، ثم يعود الحديث الصاخب المتداخل البسيط، بعد أن تيقّنوا أن ذلك الصوت هو لرتل الدبابات والدوريات التي تجوب المدينة والضواحي كل ساعة وأخرى، وقد يقتحمون البيت إذا أحسّوا أن ثمة تجمعاً ينعقد داخله، وعندها سيتم اعتقال الشبان الذين تحلّقوا للعب الشدّة "الورق"، أو بعض الرجال الذين لهم أسبقيات في النضال والسجون، وبالتأكيد يحطمون البيت، ويفزعون الأطفال ويعتدون على النساء، وإذا تجرّأ أحدنا وحاول منعهم من فعل أي شيء فسيتم طرحه على الأرض بعشرات الطلقات، والمبررات جاهزة، ولا مَنْ يسأل!
والحقيقة أننا، نحن الجيران، اكتشفنا بعضنا البعض، وتعرّفت النسوة على خبرات جديدة وأخبار طازجة، على رغم أن مستوى الضيافة قد تراجع، في كل البيوت تدريجياً، بسبب الأوضاع الاقتصادية، والحرص على عدم الإسراف خوف أن يطول منع التجوّل. والملاحظ أن الحواكير الصغيرة وقطع الأراضي المحيطة بالبيوت قد أعيد لها بهاؤها فتمّت زراعتها بالخضار والقثائيات وما تيسّر، وانشغل أصحابها فيها ساعات وساعات. وراح بعضنا يتحسس ما أرجأه من أعمال ليقوم بها وينتهي منها، في البيت أو على مستوى القراءة أو الكتابة أو ما يتّصل بعمله وتخصصه. وفي الأيام الأولى من الاجتياح ومنع التجوال، لم يكن الناس قد توصّلوا إلى هذا المستوى من نقد السلطة والتعرّض للشخصيات المُتهمة بالفساد والتخريب، وللأجهزة التي لم تمنع أصابع الاحتلال وعملاءه من اقتناص الشرفاء وقصفهم أو اعتقالهم، ولعلي اكتشفت أن كل شيء مكشوف أمام الناس، ومن الصعوبة التمويه على الشعب أو منعه من قول ما يريد، ألا يقولون: ألسنة الخلائق سيوف الحقائق!
وبالرغم من ركاكة الفكر أو البراءة والسطحية التي تلمسها لدى عامّة الناس، فإنهم أذكياء يمتلكون بوصلة لا تخطئ، ويدركون الحدّ بين الصحيح والمعطوب، ويميّزون بين الخطأ والصواب وقلوبهم الشجاعة تدلّهم على الطريق القويم.
إن الناس مثل المياه تماماً، طاهرة نقية، تخلق الحياة، غير أن المياه بحاجة إلى سدود وقنوات وتصفية "فلترة"، وإلى تخزين، حتى تظل مفيدة نقية. أما إذا تُركت المياه فإنها تصبح كالطوفان الذي يدمّر كل شيء، وإذا استقر في مكان يصبح آسناً مضرّاً. ولعل دور أية سلطة يتمثّل في حفظ هذه المياه وتمريرها في قنواتها النظيفة، وضمن خطة وبرنامج ورؤية.. وإلا!!
أما النظرية القائلة بأن قمع الشعوب وتكبيدها الخسائر يؤدي إلى تركيعها والسيطرة عليها، فهي نظرية خاطئة فاشلة، عدا كونها عنصرية ولا تتمتع بأية قيمة أو أخلاق، ولا يبررها منطق. فالناس هنا، وكلّما كوتهم نار الاحتلال، أو مزّعتهم طائراته ومدرّعاته وجاعوا وسفكوا الدمع وامتلأوا بالفواجع، تمسّكوا أكثر بحقوقهم وثوابتهم، وأدركوا بالفطرة أنهم لم يخسروا ويضحّون بكل ذلك ليحصلوا على الفتات أو العدم.
ربما يضيق الناس ذرعاً، ويصيبهم بعض التعب، ويعانون من نقص حيوي أصاب حوائجهم، وعندها ربّما يتبرّمون ويدعون المسؤولين لتخليصهم من هذا العذاب الذي لا يحتمل. لكنهم، إذا ما استشعروا أنهم سيخسرون أبجدياتهم وحقوقهم الأولى، فإنهم ينسون جوعهم ودمعهم وجراحهم، وينتفضون كالسباع المجروحة في أبنائها وقلوبها وكراماتها وأعراضها وبيوتها.
إن النتيجة الأكيدة الصريحة الواضحة التي تَخْلُص بها من كل ما يقوله الناس، وما يسلكونه ويفعلونه هو أن الاحتلال يُوَرّث الكراهية، ويعمّق الحقد والنقمة، ويولّد الثأر وردود الفعل الحادّة، ولا يمكن أن يؤدي إلى نتيجة أخرى، على الإطلاق. كما أن أفضل الطرائق وأقصرها وأجْداها لحكم الناس ومُسايستهم هو العمل من أجل تحقيق أهدافهم وأحلامهم، وفتح مساحات أكثر اتساعاً لهم، ومصارحتهم وإشراكهم، ومخاطبتهم بما يحتاجونه، دون مواربة أو مخاتلة أو ادّعاء أو حذاقة لن تفيد، ولن تفيد.
ولعلك تلمس لمس اليقين، ليس فقط انعدام الدّخْل واقتراب الفقر، بل الإتيان على المدّخرات المتواضعة، التي كانت تمثّل سلة أمان واحتياط أبيض لهذه الأيام السوداء.
وعند الحديث عن المساعدات الواردة للأسر المعدمة، فإنك تصاب بغثيان وقهر أمام تفاقم الحاجة، وعدم وصول شيء ذي بال. فما تم توزيعه هو "ربطات" من الطحين والسُكَّر والرزّ والزيت، على عدد ضئيل لا يتعدى الخمسة بالمئة من مجموع المعوزين، وتمّ توزيع ذلك مرتين فقط، بمعنى أنه لا توجد مأسسة لتوزيع المساعدات التي يكثر الحديث عنها ولا يراها الناس، ولا توجد كيفية واضحة وعادلة لتوزيع المساعدات العينية والمادية على المحتاجين، بالرغم من الحقيقة الناصعة بأن كل المساعدات القادمة إلينا لا تكفي عُشْر الاحتياجات اليومية للناس، عداك، عن ما تحتاجه السلطة ومؤسساتها المختلفة لإعادة ترميم وبناء ما تمّ تهديمه، ولإيفاء المصاريف الجارية التي تحتاجها العملية التعليمية والصحية والشؤون الاجتماعية. ولهذا، ليس مفاجئاً أنْ تراكمت ديون فواتير الماء، والكهرباء، والهاتف، ما أوقع البلديات والمؤسسات في حرج ووضع لا تحسد عليه، مثلما وجد هؤلاء الناس أنفسهم أمام مذلّة الحاجة وهموم الدَّيْن الثقيلة.
والمفارقة المفضوحة تكمن في أن الحديث عن فساد السلطة تتخذه معظم الأطراف العربية الغنيّة ذريعة لكي لا تقدم الإسهام الواجب عليها لنصرة الشعب الفلسطيني، الذي يدافع بدمه عن مقدسات الأمّة وكرامتها في اللحظة التي فيها يتم تقديم المليارات، ومن دون حساب، لجهات غير عربية، ولخدمة أهداف معادية، أيضاً.
وربما تجدر الإشارة إلى أن نهارات الحصارات المتتابعة تدفعنا إلى تلك المشيات الرياضية، لنحرك أجسادنا ونظل في لياقة مقبولة، وخلال المسير، محدود المسافة أو الدائري، تلمح الصغار الذين يطلقون طائراتهم الورقية في السماء، ومعظمها قد اتخذ شكل العَلَم الفلسطيني، ما أغاظ جنود الاحتلال الذين راحوا يطلقون رصاصهم المتخبّط في أعقاب تلك الطائرات فيضحك الرجال، الذين يذرعون الطريق أو النساء اللواتي انضممن إلى هذه الرياضة على خجل، على رغم أن بعض الرجال اقتعد رصيفاً، وراح يعدّ سجائره بعد أن تخلّى عن شراء علب السجائر باهظة الثمن.
وما يلفت الاهتمام رقاع الدعوة لحضور حفلات الزواج على تواضعها، حيث يحدد أهل العروسين موعداً، ثم يُثبّتون جُملة باتت تتكرر في كل رقاع الدعوة، وهي: إذا صادف هذا التاريخ يوم إغلاق فإنه يتم إرجاء حفل الزواج إلى أول ساعة من رفع التجول في المكان نفسه.
وقد تلحظ سيارة مسرعة قادمة من مكان بعيد فتعرف أن ثمة من يكسر نظام منع التجول ويتنقل من حارة إلى أخرى، ويصبح بذلك دليلاً للآخرين الذين يتجرّأون على توسيع مناطق تحركهم وتجوّلهم، ويصدف كثيراً أن يلتقوا بدوريات الاحتلال التي تذيقهم أصنافاً معتبرة من الشبح واللطم والركل والحجز لساعات أو لشهور، بعد تحطيم مركباتهم أو هرْسها تحت المجنزرة.
غير أن سيارات الإسعاف ومركبات الصحافيين تستطيع، غالباً، التنقل، ما زاد عدد سيارات الإسعاف التي بات لها مهمات جديدة، منها إيصال الخبز لـ"المقطوعين"، وما شابه من خدمات إنسانية تصل أحياناً إلى نقل العروس إلى بيت العريس.
وتتعقد أمام الناس فرصة السفر خارج المدن بل أصبحت مستحيلة، وعليه فإن المضطر للسفر إلى الخارج سيجد نفسه أمام مغامرة مُميتة يضطر معها إلى قطع عدة كيلومترات مشياً على الأقدام، أو استخدام وسائل النقل الجديدة (الحمير، والبغال، والعربات اليدوية)، وغالباً ما تفشل تلك المحاولات بسبب رصاص الجنود الذي يطاردهم، وهم بين الوحل أو تحت الشمس الحارقة والغبار الخانق، عداك عن مأساة السفر عبر المعابر من رفح أو أريحا، وما تحتاجه تلك المعابر من إجراءات جنونية ومُذلّة، إضافة إلى ما تكلّفه تلك التنقّلات من نفقات باهظة إضافية وحالات استغلال لا تخلو منها الحياة.
إن تصويرنا مقطعاً يومياً لا يمكن أن يفي القارئ أو يكون بديلاً للحالة المعيشة التي نحياها هنا في فلسطين، محاصَرين باحتلال تدرّج في ممارساته التي بدأت بإطلاق قنابل الغاز والرصاص المعدني حتى وصلت إلى استخدام طائرات الأفْ 16، وإعادة احتلال كامل الأراضي الفلسطينية مع حصار وعزل وتجويع واعتقال وهدم وإذلال، بمعنى أن الاحتلال تناول البناءات الفلسطينية بناء تلو الآخر، وراح يهدمها واحداً تلو الآخر. ثم إن الاحتلال وبعد أن سيطر أُفقياً على كل شيء، وراح يعمّق تخريبه عمودياً في كل مناحي حياتنا الفلسطينية. إنه الاحتلال، يعني.. إنه الموت التام.
*
لم نكن جبابرة كلّنا، لكن الحصار "المتكرر" خلّصنا من أوهام كثيرة خطرة، كانت تعشّش في أقفاص صدورنا، وأستطيع أن أجزم بأن حاجز الخوف قد تخطّاه كلُّ الناس دون استثناء، لأن حجم الاستباحة الإسرائيلية جعل المواطنين يشعرون، ولأيام متواصلة وثقيلة، بأن الحياة تساوي الموت، وبالتالي لا خوف من إبريق ماء ينسكب على رؤوسنا، فكلّنا في بحرٍ هائج.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت