- نهاد أبو غوش
لم تحمل نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة للكنيست الرابعة والعشرين، أية نتائج صاخبة أو مفاجئة إلا في بعض التفاصيل الجزئية، ومن بينها نجاح كتل اليسار الصغير والمفتّت في البقاء وتفادي الاندثار، كما حصل مع حزبي العمل وميريتس، ولكن هذا الحضور الباهت سيكون على الأغلب من دون فعالية حقيقية ومؤثرة. ومن اللافت كذلك التراجع الحاد في قوة حزب "أمل جديد" برئاسة جدعون ساعر، وهو الذي ظهر في البداية وكأنه يمثل تهديدا جديا لاستمرار حكم بنيامين نتنياهو.
أما الصورة العامة للنتائج فأكدت ما هو معروف ومرصود منذ سنوات، أي النزوع الإسرائيلي المطّرد نحو اليمين والتطرف، والغياب شبه التام لمعسكر السلام الإسرائيلي، وانحصار التنافس على السلطة بين كتل اليمين المختلفة، وبقاء نتنياهو لاعبا رئيسيا في المشهد السياسي الإسرائيلي، وهو المرشح الأوفر حظا لتأليف الحكومة القادمة، على الرغم من كل ألاعيبه واتساع النقمة عليه ومواجهته لعدة اتهامات بالفساد.
من النتائج اللافتة والتي ينبغي لها أن تشعل، لنا على الأقل، إشارات الخطر الحمراء، حصول قائمة الصهيونية الدينية على ستة مقاعد، وهذه القائمة الائتلافية تضم ممثلي منظمة "قوة يهودية" برئاسة ايتامار بن غبير، سليل المدرسة الكهانية، التي لا تكتفي بالترويج لنظريات فاشية وعنصرية، بل تدعو علانية لاستخدام العنف ضد العرب والفلسطينيين، وتدافع عن مرتكبيه، وتمجّد رموزه كما يفعل بن غبير نفسه حيث يضع في منزله صورة مكبّرة لمرشده الروحي المجرم باروخ غولدشتاين، مرتكب مجزرة الحرم الإبراهيمي الشريف في العام 1993.
بن غبير هذا فرض نفسه على الخارطة السياسية الإسرائيلية بتكراره خوض الانتخابات عدة مرات، وفي كل مرة كان يحصل على ما بين 1 إلى 2 في المئة، وهي نسبة تؤهله للحصول على مقعد واحد على الأقل لولا أن نسبة الحسم هي 3.25 في المئة. وفي ضوء معركة نتنياهو الضارية للتشبث بالسلطة، واستماتته في الحصول على كل صوت يميني وعدم إهدار مثل هذه الأصوات، حرص على توحيد قوى اليمين الإسرائيلي الأكثر تطرفا في كتلة واحدة، فشجع على تشكيل حزب الصهيونية الدينية من ائتلاف حزب الاتحاد القومي- تكوما، وقوة يهودية، وحركة نوعام، وكل ذلك بفضل رئيس الوزراء الذي لم يكتف بجهوده "التوفيقية" لتوحيد هذه الجماعات الصغيرة، بل وقّع معها اتفاقا لتبادل فائض الأصوات. وفي بادرة غريبة لزعيم حزب يخوض انتخابات قاسية، حضّ المستوطنين على عدم التصويت فقط لحزبه الليكود، بل دعاهم لمنح بعض اصواتهم لحزب الصهيونية الدينية.
هذه الوقائع تثبت أن الحزب الكهاني ليس مجرد حليف لحزب الليكود الحاكم، بل هو رديف وظهير لهذا الحزب، وقوة يستطيع نتنياهو الاعتماد عليها من دون مشقة في توسيع معسكره وتحصين حكمه، بصرف النظر عن الدعاية المتبجحة التي يطلقها بن غبير في المزاودة على باقي الأحزاب، وفي إظهار عداوته للفلسطينيين، ودفاعه، وللغرابة هو يمتهن مهنة المحاماة، عن مرتكبي الجرائم ومخالفي القانون من الجماعات التي تقع عند تلاقي حدود الفاشية والعنصرية والإرهاب اليهودي مع عصابات الإجرام والعالم السفلي، وبشكل خاص جماعات مثل شبيبة التلال، وتدفيع الثمن.
لطالما تواجدت في الحياة السياسية الإسرائيلية جماعات سياسية فاشية ومتطرفة، تتبنى نظريات أرض إسرائيل الكاملة والنقية من غير اليهود، وتدعو لطرد العرب وترحيلهم، لكن هذه الجماعات ظلت هامشية ومحدودة التأثير، وشكلت دائما حليفا ثابتا للتيار الرئيسي في اليمين الإسرائيلي أي حزب الليكود. من هذه الجماعات نذكر حزب هتحيا برئاسة غيؤولا كوهين، وتسومت برئاسة رفائيل ايتان، وموليدت برئاسة رحبعام زئيفي، والاتحاد الوطني الذي لا زالت بقاياه قائمة برئاسة بتسليئيل سموتريتش، وحتى حزب يمينا الحالي برئاسة نفتالي بينيت الذي قد يبدو معتدلا وليبراليا قياسا بالوافد الجديد إلى الكنيست، لكن كل هذه الأحزاب كانت محدودة الحجم والتاثير، ولم تكن تعمر طويلا بل ارتبطت بنشاطية قادتها ومؤسسيها، لكنها في العقود الأخيرة وخاصة مع حكم حزب الليكود، انتقلت من هامش الخريطة السياسية إلى مركز الحكم، وباتت تفرض شروطها السياسية على برامج الحكومات المشكلة.
وإلى يمين هذه الأحزاب الآنفة الذكر، وجدت دائما أحزاب وجماعات أكثر تطرفا، وأكثر ميلا لارتكاب الجرائم وأخذ القانون باليد، ولكنها كانت تبدو، أو كان يجري تصويرها وكأنها شاذة عن الطبيعة الإسرائيلية، أو أعشاب وأشواك ضارّة في الحقل الإسرائيلي ويجدر الخلاص منها لكثرة ما تسببه من حرج لصورة إسرائيل أمام العالم. وهذا ما جرى فعلا مع حركة (كاخ) الحركة العنصرية المتطرفة التي أسسها مائير كهانا، وسبق لها أن تمثلت في الكنيست بشخص كهانا نفسه في أواسط الثمانينات، لكنها صنفت كمنظمة إرهابية ومنعت من العمل العلني في العام 1994.
بفوز بن غبير وحزب الصهيونية الدينية، تنتقل الكهانية والصهيونية الفاشية المتطرفة مرة اخرى إلى مركز الخريطة السياسية، وهذا لم يحصل عبر استغلال ثغرات قانونية هنا وهناك، بل نتيجة دعم ومؤازرة أعلى مستويات السلطة السياسية، وكثمرة طبيعية لمسلسل الجنوح المستمر نحو اليمين والتطرف والفاشية، وازدياد اعداد المستوطنين وهم البيئة الطبيعية الخصبة لمثل هذه الأحزاب، وزيادة ثقلهم في الحياة السياسية الإسرائيلية.
الانتخابات الإسرائيليىة الأخيرة، كشفت إذن عن الوجه الحقيقي لإسرائيل، فلا معسكر سلام جديا، بل ثمة يمين، ويمين متطرف، ويمين أكثر واكثر تطرفا.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت