- رامي معين محسن
- محام وباحث
- المقدمة:
منذ الاحتلال الحربي الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، لم تتوان سلطات الاحتلال لحظة عن تعمد إمعانها بانتهاج كافة أشكال الانتهاكات المجرمة قانوناً بحق المدنيين الفلسطينيين، خلافاً لقانون حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، "ولأدنى واجبات سلطة الاحتلال المحددة بشكل أساسي في لائحة لاهاي لعام 1907، ولاتفاقية جنيف الرابعة، والبروتوكول الإضافي الأول، والقانون الدولي الإنساني العرفي[1].
شجع صمت المجتمع الدولي ومؤسساته الاحتلال على ارتكاب مزيداً من الانتهاكات والجرائم بحق الفلسطينيين، على الرغم من تصنيفه الانتهاك على أنه جريمة، وليس ذلك فحسب؛ بل أنه اعتبرتها جرائم تهز الوجدان، والشعور العالمي الإنساني، ما بات يتطلب اعتبارها كذلك، حينما يتعلق الأمر بانتهاك حقوق الإنسان الفلسطيني.
طالت الجرائم الإسرائيلية جثامين الفلسطينيين، من خلال احتجازها في مقابر الأرقام و/ أو ثلاجات الاحتجاز، وعدم تسليمها لذويهم لدفنها، حيث بلغت حصيلة الجثامين التي يحتجزها الاحتلال بشكل غير مشروع، حوالي (68) جثة لشهداء فلسطينيين منذ العام 2016 بحسب صحيفة هآرتس [2]، إضافة إلى دفن حوالي (254) فلسطينياً في مقابر الأرقام الجماعية بدولة الاحتلال[3]، في خطوة أقل ما يقال عنها أنها ليست من قيم الإنسانية، وليست من أخلاق البشر في شيء.
- سياسة ممنهجة ومحصنة قضائياً
صادقت سلطات الاحتلال الإسرائيلي، مؤخراً على طلب وزير الحرب الإسرائيلي "بيني غانتس"، والقاضي بمواصلة احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين، وعدم إعادتهم لذويهم باستثناء حالات خاصة"[4]. في خطوة انتقامية وغير إنسانية وبربرية. تنطوي على تسيس فظيع لقضية إنسانية بالدرجة الأولى.
كما وتكاملت سلطات الاحتلال القضائية والأمنية، لإضفاء الشرعية على القوانين والقرارات العنصرية بحق الفلسطينيين، في إطار استمرار حلقات التنكر، وفي مقدمتها قضية مقابر الأرقام واحتجاز الجثامين، حيث وفر القضاء الإسرائيلي الغطاء لهذه السياسات، بعدما "أجاز مواصلة احتجاز الجثامين، ليأتي هذا القرار من ضمن قرارات كثيرة صدرت عن السلطة القضائية بدولة الاحتلال الحربي، بحيث تتماهي مع رغبات الحكومة والجيش، من خلال توفيرها الغطاء القانوني للانتهاكات الجسيمة والمنظمة، التي ترتكب بحق الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ومن بينها احتجاز جثامين الضحايا بهدف استخدامهم ورقة مساومة خلال أي مفاوضات مقبلة، بذريعة الاستناد لقانون الطوارئ الاحتلالي، الذي يسمح للحاكم العسكري بدفن واحتجاز جثامين الفلسطينيين، استناداً إلى معايير أمنية[5]. فعلى مرّ السّنين شرعن القضاء تقريبًا كلّ انتهاكات سلطات الاحتلال لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلّة، مستندة في ذلك إلى تأويلات قضائيّة باطلة، تفرغ مبادئ القانون الدوليّ من أيّ مضمون[6]، سيما وأنّ قواعد القانون الدولي قد وُضعت لتوفر الحماية في حدها الأدنى للسكّان الواقعين تحت الاحتلال.
وفي تعقيب "مركز عدالة" على قرار وزير الحرب، أكد على: "أن هذه السياسة تسلط الضوء على بربرية الاحتلال، وضربها عرض الحائط بالقوانين والمواثيق الدولية، وقوانين الشعوب الشرعية (Law Of Nations) عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين، سيما وأن القرار يتضمن محاولة للتجارة بجثامين أشخاص لها الحق بالاحترام والدفن"[7].
كما ونشرت الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء العرب والفلسطينيين لدى الاحتلال، قائمة بأسماء الشهداء الذين يواصل الاحتلال احتجاز جثامينهم، ولا يسمح لعائلتهم بدفنهم، ويصل عددهم لنحو 68 شهيداً لا يعرف إن كانت جثامينهم في مقابر الأرقام أو في ثلاجات الموتى. وحوالي (254) فلسطينياً في مقابر الأرقام الجماعية، الأمر الذي ينتهك حقوق الضحايا وذويهم، حيث للأسر الحقّ في دفن أعزاءها الذين فارقوا الحياة، وإقامة الحداد عليهم وزيارة قبورهم، وفق عاداتهم وشعائرهم الدينية. سيما وأن سلب ذويهم هذا الحق سيتسبب لهم بما لا يدع مجالاً للشك، بمعاناة إنسانية قاسية لا يمكن تحملها.
واعتبر المختص بشؤون الأسرى والمحررين، عبد الناصر فروانة، "أن احتجاز جثامين الشهداء، هي واحدة من أكبر وأبشع الجرائم، سيما وأن سلطات الاحتلال هي الجهة الوحيدة في العالم، التي تمارس هذه الجريمة بشكل علني في إطار سياسة رسمية. بهدف الانتقام منهم بعد موتهم، وتعذيب ذويهم وإيذائهم عمداً، كنوع من العقاب الجماعي والابتزاز والمساومة[8].
- احتجاز جثامين الفلسطينيين في ميزان القانون الدولي
بموجب أحكام المادة 42 من لائحة لاهاي لسنة 1907 الخاصة باحترام قوانين وأعراف الحرب البرية[9]، فإن الأراضي الفلسطينية تخضع لحالة احتلال حربي، يترتب عليه انطباق اتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949 الخاصة بحماية المدنيين زمن الحرب، إلا أن سلطات الاحتلال لم تسلم لهذا الموقف، وتنكرت لانطباق اتفاقية جنيف الرابعة على الأراضي الفلسطينية المحتلة، بهدف التهرب من المسؤولية الدولية على انتهاكاتها المستمرة لأحكام هذه الاتفاقية، والتي يمكن اعتبارها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وفقاً لأحكامها وأحكام نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المعتمد في روما في 17تموز/ يوليو 1998.
إن احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين، وعدم تسليمهم لذويهم لدفنها، يعتبر عملاً غير مشروع إنسانياً وقانونياً، حيث تتنافى هذه السياسة بشكل واضح وجلي مع قواعد القانون الدولي الإنساني، ومعايير حقوق الإنسان ذات الصلة. حيث تنص المادة (130) من اتفاقية جنيف الرابعة 1949، على أن تحقق السلطات الحاجزة من أن المعتقلين الذين يتوفون أثناء الاعتقال يدفنون باحترام، وإذا أمكن طبقاً لشعائر دينهم، وأن مقابرهم تحترم، وتصان بشكل مناسب، وتميز بطريقة تمكن من الاستدلال عليها دائماً ... الخ". وكذلك المادة (34) من البروتوكول الإضافي الأول الملحق باتفاقيات جنيف الأربعة، تلك التي تفرض التزاماً قانونياً على السلطات الحاجزة يقضي بضرورة القيام بدفن الأشخاص، الذين توفوا بسبب الاحتلال، أو في أثناء الاعتقال الناجم عن الاحتلال أو الأعمال العدائية، باحترام واتباع إجراءات تتناسب وثقافتهم الدينية، وبعدم جواز انتهاك رفاتهم، على أنه بمجرد أن تسمح الظروف، عليها واجب تقديم بيانات ومعلومات وافية عنهم، وحماية مدافنهم وصيانتها بصورة مستمرة، وتسهيل وصول أسر الموتى إلى المدافن واتخاذ الترتيبات العملية بشأن ذلك، بما في ذلك تسهيل عودة رفات الموتى وأمتعتهم الشخصية إلى ذويهم.
وفي ذات السياق فقد أكدت المادة (8) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المعتمد في روما في 17تموز/ يوليه 1998، على اختصاص المحكمة بنظر جرائم الحرب التي تأخذ طابع الاعتداء على كرامة الشخص، سيما وأنه في حالة جريمة احتجاز جثامين الشهداء، فإن سلطات الاحتلال الإسرائيلي ترتكبها في إطار خطة وسياسة عامة واسعة النطاق، تكاملية بما فيها تواطؤ مرفق القضاء.
- خاتمة:
يتأكد مما سبق عدم جواز احتجاز سلطات الاحتلال الحربي الإسرائيلي، لجثامين الشهداء الفلسطينيين في ثلاجات الموتى وفي مقابر الأرقام، حيث فرضت المنظومة القانونية الدولية التزاماً بتسليمها، أو دفنها بالاسم إلى حين التعرف عليها من قبل ذويها، ومن ثم تسليمها لهم لدفنها بشكل لائق، وبما يتفق مع معتقداتهم وكرامتهم الإنسانية، وهو التزام أصيل غير خاضع للانتقاص أو التأجيل أو التأويل، وبالتالي فإن إصرار سلطات الاحتلال على التنكر لأبسط حقوق الفلسطينيين، بما فيها احتجاز الجثامين، يعتبر جريمة دولية تستوجب فعل دولي إيجابي، يقوم على تفعيل العقاب لمستحقيه، وتعزيز المقاطعة والعزل والوسم انسجاماً مع معايير العدالة الناجزة.
- التوصيات:
- دعوة المجتمع الدولي والأطراف السامية المتعاقدة على اتفاقيات جنيف، للضغط على سلطات الاحتلال، لإجبارها التوقف عن انتهاك الكرامة الانسانية للضحايا وعائلاتهم، بما في ذلك تسليم كافة الجثامين إلى عائلاتهم فوراً، دون أي شرط أو قيد لتشييعهم ودفنهم طبقاً لشعائر دينهم، وبما يليق بكرامتهم.
- مطالبة السلطة الوطنية الفلسطينية لتبني استراتيجية ترتكز على تدويل قضية الشهداء المحتجزة جثامينهم، وبناء فريق مهني ووطني من الخبراء طبياً وقانونياً، لبحث سبل بناء ملفات متكاملة للتحرك قضائياً لاسترداد جثامين الشهداء، تأخذ بالاعتبار تحميل سلطات الاحتلال المسؤولية الكاملة، بما في ذلك المطالبة بتعويضات لعائلاتهم عما لحق بهما من أدنى بسبب هذه الجريمة.
- دعوة القيادة الفلسطينية إلى تكثيف مساعيها عبر الدبلوماسية الجادة، مع كل الأجسام الدولية الفاعلة وذات الصلة، لحثها على استصدار مواقف فاعلة من شأنها إجبار سلطات الاحتلال، على الانصياع لقواعد القانون الدولي.
- مطالبة وزارة الخارجية باستنفار كامل طاقاتها لحث المحكمة الجنائية الدولية، على فتح تحقيق دولي في هذه الجريمة الاسرائيلية بحق كرامة الضحايا، بما يعزز استقلالية وفاعلية المحكمة الدولية كملاذ أخير للضحايا.
انتهى ،
- قائمة المراجع:
1-موقع الصليب الأحمر الدولي، الاحتلال والقانون الدولي الإنساني: أسئلة وأجوبة، 4 أغسطس 2004، https://cutt.us/oWXWn
2-وكالة معاً الإخبارية نقلاً عن صحيفة هآرتس: إسرائيل احتجزت جثامين 68 شهيدًا منذ عام 2016، 1 ديسمبر 2020، https://cutt.us/Fjqie
3-الأناضول، فلسطين تطلب تدخلا أمميا لاستعادة جثامين شهداء تحتجزهم إسرائيل، 28 أغسطس 2020، https://cutt.us/z7dCr
4-عربي21، قرار الاحتلال احتجاز جثامين الشهداء .. نهج انتقامي بربري، 02 سبتمبر 2020، https://cutt.us/Awmrz
5-الجزيرة، محكمة إسرائيلية تجيز للجيش استمرار احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين، 10 سبتمبر 2019، https://cutt.us/bOD65
6-مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلّة- بتسيلم، حتى هذا يحدث بموافقة المحكمة العليا: إسرائيل تحتجز جثامين فلسطينيّين لغرض التفاوض، 22 أكتوبر 2019، https://cutt.us/3kb6g
7-المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية- عدالة، تعقيب مركز عدالة على قرار وزير الأمن والكابينيت الأمني السياسي حول مواصلة احتجاز جثامين الشهداء، 2 سبتمبر 2020، https://cutt.us/744WY
8-الغد، احتجاز جثامين الشهداء .. جريمة حرب إسرائيلية للابتزاز والمساومة، 28 نوفمبر 2019، https://cutt.us/QKWai
9-أنظر المــادة (42) من اتفاقية لاهاي الخاصة باحترام قوانين وأعراف الحرب البرية 1907، "أرض الدولة محتلة حين تكون تحت السلطة الفعلية لجيش العدو، ولا يشمل الاحتلال سوى الأراضي التي يمكن أن تمارس فيها هذه السلطة بعد قيامها.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت