- نبيل عودة
قليلة هي القصائد التي اسرتني معانيها واعدت قراءتها مرات عديدة واكتشف مع كل قراءة عمق المعاني وقوة العاطفة التي تحركها او تنطلق من صاحب قلم اعياه البعد عن ملاعب صباه وعشقه للأرض التي رأى النور فيها وقضى سنوات عمره الفتية يجول باطرافها ويحفظ كل دعسة قدم خطاها في ربوعها، وها هو بجيل تجاوز الشباب ، يطل من شبابيك المهجر متجولا بذكريات لا تمحي، مستعيدا جمال ملاعب الطفولة التي اختلطت مع نبضات قلبه فانطلقت بقصيدة هي برأيي من اجل قصائد الحنين للوطن، ومن اجمل قصائد الذكريات لملاعب الطفولة ، لبحر الوطن وشاطئه وجباله ونسائمه وعصافيره وسمراواته.
في القصيدة نشعر بعمق الحزن وعمق الشوق وعمق الحب الذي يفتقده الشاعر في غربته ، كانه يقول انا لم أختار الغربة بل هي التي اختارنتي. وها هو في بلاد ليس له فيها عنوان. ولا يستجيب لندائه انسان. يتألم بصمت، ويحن بصمت بقوله: ان رجعت الى لبنان؟ تأملوا الجملة ، لا يقول عائد الى لبنان، فهو في عالم غير وطنه:" أقيمُ في خيمةٍ لا الشمسُ تدخلُها…/ ولا يجيبُ إذا ناديتُ، إنسانُ" ويواصل بحزن تنبض به كلمات قصيدته او الاصح اعترافاته: نِصْفي هناك، ولي نصْفٌ أعيشُ به / فكيف أمْشي، وكلُّ الدرب أحزانُ؟"
بنفس الوقت لا ينسى ايام الشباب:" وكان لي جارةٌ سمراءُ تغمزُ لي / ولم يكنْ بينَنا بحرٌ وشطآنُ…"
ويختتم قصيدته بلوعة الحزن والشوق: " هناك لي وطنٌ... لولا أغادرُه /
أصيرُ أعمى، وحولي الناسُ عميانُ".
اجل انه في الغربة ولكن قلبه ومشاعره وعقله ونبض قلبه وعينينه ترفضان ان تغادر الوطن!!
اجل ايها الشاعر: سترجع الى لبنان، وسيرجع لبنان الى روحك وعينيك ونبضات قلبك، وذكرياتك، وحبك لكل ذرة رمل وتراب ونبتة قمح ووردة في ربوعه وبسمة من سمراء تغمز لك ويشرب فنجانا من قهوتها!!
***********
نص قصيدة الشاعر د. جميل الدويهي: إن رجعتُ إلى لبنان
أمشي على البحر علّي ألتقي وطناً
فيه السماءُ عصافيرٌ وألوانُ
يردّني بعدما أمعنتُ في سفَري
وصار بيني وبين العطر جُدرانُ
أقيمُ في خيمةٍ لا الشمسُ تدخلُها…
ولا يجيبُ إذا ناديتُ، إنسانُ
عندي رداءٌ من الأوجاع ألبَسُه…
مرّتْ عليه أعاصيرٌ، وأزمانُ
ويسأل الناسُ عن إسمي، وعن بلَدي
وليس لي في بلاد اللهِ عنوانُ…
نِصْفي هناك، ولي نصْفٌ أعيشُ به
فكيف أمْشي، وكلُّ الدرب أحزانُ؟
وكيف يعْرفُني بيتي وأعْرفُه؟
وكيف يرقصُ بين الورد نَيسان؟
ومَن أنا؟ شاعرٌ طال الرحيل به
وفي مواعيدِه جوعٌ... وحِرمانُ
يشتاقُ للخبز أقماراً مدوّرةً
هل من رغيفٍ؟ وهل في الحيّ جيران؟
وهل أعود إلى الوادي؟ فلي شجرٌ
هناكَ يضحكُ… تفّاح ورمّانُ
والنَّهر طفلٌ على كفّي أهدهدُه
والقمحُ فوق التلالِ الخضرِ سلطانُ
كان الصباح شبابيكاً مشرّعةً
وتملأُ الدارَ من فيروزَ ألحانُ
كان الربيع جميلاً في حديقتنا
والآن ما فيه أزهار... وأغصانُ…
وكان لي جارةٌ سمراءُ تغمزُ لي
ولم يكنْ بينَنا بحرٌ وشطآنُ…
وكنتُ أشربُ من فِنجان قهوتِها
فكلّما استقبلتْني، قلتُ: عطشانُ
تلك التصاويرُ ما زالت بذاكرتي
والكلُّ من بعْدِها طينٌ، وأوثانُ
طيّارتي وَرقٌ، في الريح أتبعُها
إلى هضابٍ عليها الحورُ والبانُ
فإنْ رَجَعتُ إلى لبنانَ، لي سببٌ
فالحبّ عندي لبعض الناس إدمانُ
هناك طفل صغيرٌ لا يزال معي
ولو يغيبُ...فإنّ العمرَ نِسيانُ…
هناك لي وطنٌ... لولا أغادرُه
أصيرُ أعمى، وحولي الناسُ عميانُ.
د. جميل الدويهي اديب لبناني مغترب صاحب موقع أفكار اغترابيّة" للأدب الراقي - سيدني 2021
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت