البُعد الإسلامي في الصراع

بقلم: مصطفى إنشاصي

مصطفى إنشاصي
  • مصطفى إنشاصي

القدس كلمة السر لوحدة المسلمين!
نصح الباحث الأمريكي (توماس ريكس) من جامعة (فيلانوفا)، الذي مخاطباً الفلسطينيين بقوله:
"هل تعرفون ما هي قوتكم كشعب؟ إنها القدس، لقد كنت في منطقة نائية في أقصى جنوب أفغانستان، والتقيت نساءً وشباباً في مقتبل العمر، وكذلك شيوخاً أوشكوا على الموت، ما كان يأتي ذكر اسم هذه المدينة المقدسة على لساني إلا وانهمرت دموعهم" !
ذلك السر أول مَن أدركه كان السلطان عبد الحميد الثاني، الذي اليوم 27 نيسان/إبريل هو ذكرى عزله عام 1909، سأكتب من اليوم حلقات عن البُعد الإسلامي في الصراع الذي أدركه مَن ضحى بإمبراطورية وعرشه ولم يفرط فيها، فكان أول قرار اتخذه بخصوص القدس بعد توليه الحكم، أن اختص القدس بسنجق خاص بها اسمه سنجق القدس، وألحقه بالباب العالي مباشرة حتى يمون تحت إشرافه! وآخر قرار اتخذه في مثل هذا اليوم 27 نيسان/إبريلعام1909، أن تنازل عن العرش وقبل النفي وعناءه وقهره عن أن يتنازل عن فلسطين والقدس لبني صهيوني! وأنتم فلسطينيين وعرب مقاومة ومفاوضة بِعتموها!
على الرغم من ضعف المعلومات والتوثيق عن الحضور الإسلامي في الكتابات القومية والوطنية العربية والفلسطينية، مقارنة بما حشدوه من كم هائل عن الحركة القومية والوطنية ودورهما في قيادة الصراع ضد الهجمة، إلا أن الباحث يجد في طيات تلك الكتابات كماً لا بأس به عن دور الإسلام والحركة الإسلامية وفاعليتهما في التصدي للهجمة، بل وقيادتهما في الوقت نفسه، وإن كان الحضور الإسلامي للصراع ومواجهة الهجمة جماهيرياً وشعبياً لم يغيب عن ميدان المعركة. ونحن هنا لسنا في معرض التوثيق أو التأريخ لدور القيادات الإسلامية في قيادة الجماهير والشعوب العربية والإسلامية، أو لدور الإسلام في تحريك الشعوب للتفاعل مع قضية الأمة المركزية بأشكال وصور مختلفة، ولكننا نريد التذكير فقط في عناوين قصيرة بالحضور الإسلامي في مراحل الصراع الأولى، ونركز على حضور هذا البُعد في عقل وفكر ومخططات العدو الصهيوني، وكم هو الرعب الغربي والصهيوني من حضور هذا البُعد، فكيف إذا قاد هو المعركة؟! لذلك عملوا جهدهم على تغييبه.
وقد كان أول من أدراك هذا البُعد من أصحاب القرار، وخطر الهجمة على الأمة والوطن، هو السلطان عبد الحميد الثاني، فقد كان يتمتع بحس ووعي إسلاميين جعلاه يدرك النوايا الشريرة التي يضمرها اليهود والغرب من وراء أطماعهم في فلسطين. فقد حكم السلطان عبد الحميد الثاني في الفترة من (1876-1909)، وقد كان مؤمناً بفكرة الجامعة الإسلامية، التي أثارت الغرب وأرعبته كثيراً، وخشي معها عودة الروح والتماسك للأمة الإسلامية من جديد. وكان السلطان عبد الحميد متميزاً بتقواه وغلبة الوازع الديني عنده، واعتزازه بالإسلام وتاريخه الإسلامي، وكان طموحه كبيراً ويتركز على إعادة وحدة المسلمين ونهضتهم، وإعادة بناء قوتهم تحت راية الخلافة الإسلامية، ليستطيع الإسلام ممارسة دوره الحضاري، وليعود المسلمين لعطائهم الحضاري للحضارة الإنسانية كما كان أسلافهم. وليتمكنوا من مواجهة غزو الحضارة الغربية لهم ووقف أطماع الغرب واليهود الصهاينة في وطننا، وقد كان جمال الدين الأفغاني وكثير من المفكرين في ذلك الوقت يشاركونه الرأي نفسه. فالسلطان عبد الحميد كان يرى:
"أن الإسلام هو القوة الوحيدة التي تجعلنا أقوياء ونحن أمة حية قوية ولكن شرط أن نصدق في ديننا العظيم" .
وفي المقابل كان الإسلام العدو المشترك الذي اجتمعت عليه كلمة الغرب واليهود الصهاينة، وكانت فلسطين مركز هجمتهما، التي من خلال انتزاعها سيتم تحقيق أهدافهما ضد الأمة والوطن. وقد كان جوهر تحالفهما يقوم على أساس:
أن الإسلام، والعروبة بمعناهما المترادف وليس المتناقض! بمعنى أن تكون العروبة والقومية العربية بديل عن الإسلام ونقيض له، هما العدو المشترك لهما، الذي يهدد وجودهما قبل غاياتهما وطموحاتهما للسيطرة والهيمنة على العالم انطلاقاً من هيمنتهما على وطننا.
من الإنصاف أن نقف بعض الشيء مع سيرة هذا الرجل الذي ندر أمثاله في هذا العصر ونحن نعلم بداية أننا مهما تكلمنا عنه فلن نوفيه جزء من حقه، ولكن محاولة نرد له فيها بعض فضله، وكلمة حق نقدمها كما قدمها غيرنا لنرفع بها بعض الظلم الذي لحق به من أعداء الأمة ومن بعض المسلمين، لأن مخطط تشويه سمعة الرجل والافتراء عليه وعزله لم يكن إلا جزءً من مخطط أكبر، وهو مخطط القضاء على الكيان السياسي والوحدة السياسية للمسلمين وتفتيت الأمة والوطن الإسلامي وزرع كيان العدو الصهيوني في فلسطيننا، ليكون "أداة" الحفاظ على "أنظمة التجزئة"، أنظمة سايكس- بيكو، التي أعلنت كونداليزا رايس أثناء العدوان الهمجي الصهيوني على لبنان عام 2006: "أنها لم تعد تؤدي الدور الذي أنشئت من أجله"! ذلك الدور هو حفظ أمن العدو الصهيوني، لذلك: "لا بد من إعادة تشكيل الخارطة السياسية لـ(الشرق الأوسط)". أي مزيد من التفتيت والتشطير لتلك الأنظمة، ما يعني أن الغرب مازال يخطط ونحن نيام.
وسوف أركز حديثي عن السلطان عبد الحميد تحت عدة عناوين ستكون ابتداء من المقالة القادمة عناوين للمقالة دون ذكر العنوان الرئيس "البُعد الإسلامي في الصراع"، ألقي من خلالها الضوء على فكر الرجل ورؤيته الثاقبة للخطر الذي كان يحدق بالأمة وقتها، ومحاولته منع وقوعه ولكنه للأسف لم يفهمه إلا القليل. وأتبعها بعناوين تكمل البُعد نفسه لدى علماء مسلمين، ولدى الحركة الصهيونية أيضاً!

مخططات الغرب للقضاء على الخلافة الإسلامية
لندرك كما هي المعاناة والمخاطر التي واجهها السلطان عبد الحميد وهو يحاول أن ينقض النظام السياسي الإسلامي (الخلافة) من الزوال، علينا أن نعرف كم يشكل الكيان السياسي الإسلامي خطراً على الغرب والمخططات الصهيونية!
كان من الدروس الكثيرة التي تعلمها الغرب الصليبي من هزيمته في الحروب الصليبية واندحار جيوشه أمام المسلمين، أن مصدر قوة الأمة الإسلامية لا يكمن في عددها ولا عدتها أو ثرواتها وموقعها الاستراتيجي، ولكن يكمن في قوة عقيدتها ووحدتها السياسية التي هي مصدر وجودها ومكوناته، وقد كان من أشهر وأخطر الوثائق التي وضعت أيام الحروب الصليبية، وثيقة (لويس التاسع) بعد خروجه من الأسر في دار ابن لقمان بالمنصورة، لازالت محفوظة في دار الوثائق القومية في باريس، وضع فيها خلاصة تجارب الغرب في حروبه الصليبية مع المسلمين، في نقاط دقيقة وخطيرة طبقها الغرب بعد قرون طويلة من وضعها بعد أن أصبحت له الكرة والغلبة، مما مكن له من استمرار وجوده في وطننا حتى بعد اندحار جيوشه العسكرية وآلته الحربية وخروجه من وطننا، وقد جاء في تلك الوثيقة:
إنه لا يمكن الانتصار على المسلمين من خلال حرب، وإنما يمكن الانتصار عليهم بواسطة السياسة وبإتباع ما يلي:
أ‌- إشاعة الفرقة بين قادة المسلمين وإذا حدثت فليعمل على توسيع شقتها ما أمكن حتى يكون هذا الخلاف عاملاً في إضعاف المسلمين.
ب‌- عدم تمكين البلاد الإسلامية والعربية أن يقوم فيها حكم صالح.
ت‌- إفساد أنظمة الحكم في البلاد الإسلامية بالرشوة والفساد والنساء حتى تنفصل القاعدة عن القمة.
ث‌- الحيلولة دون قيام جيش مؤمن بحق وطنه عليه ويضحي في سبيل مبادئه.
ج‌- العمل على الحيلولة دون قيام وحدة عربية في المنطقة.
ح‌- العمل على قيام دولة غربية في المنطقة العربية في المنطقة العربية تمتد حتى تصل إلى الغرب.
أدرك الغرب أثر الخلافة الإسلامية في وحدة المسلمين السياسية، وأنها تمثل الرابطة السياسية التي تربط بين المسلمين على اختلاف أجناسهم وأعراقهم ولسانهم وتجعل منهم كياناً سياسياً واحداً على رأسه الخليفة الذي له الكلمة المسموعة في كل شئون الحياة السياسية وغيرها، والخلافة هي الإطار الذي يحافظ على وحدة المسلمين وترابط الجسد الإسلامي مهما كانت عوامل ضعفه، ولقد ظلت الخلافة الإسلامية مع ضغطها القوة التي يخشاها الغرب في وطننا والتي تعيق تحقيق أهدافه وغاياته في بلاد المسلمين. وذلك ما عبر عنه (جوستاف لوبون) وهو يحذر وينذر الغرب الصليبي في العصر الحديث من خطر قدرة الإسلام على إعادة توحيد شعوب الأمة، رغم ما بينها من اختلافات، قائلاً: "رغم ما بين الشعوب الإسلامية من فروق عنصرية، فانك ترى بينها من التضامن الكبير ما يمكن أن يشدها ويجمعها تحت راية واحدة في أحد أيام"!
ولم ينفك قادة الغرب من السياسيين والمفكرين والمنصرين والمستشرقين وغيرهم من التذكير بخطر الخلافة الإسلامية عليهم طوال قرون، وأن عليهم القضاء على الكيان السياسي الإسلامي إن هم أرادوا السيطرة على المسلمين. فهذا القسيس المنصر (ليبسوس) في أحد تقاريره لمرؤسيه ينصحهم أن يوجهوا كل قواهم للقضاء على الخلافة الإسلامية، بقوله: "إن نار الكفاح بين الصليب والهلال لا تتأجج في البلاد النائية في مستعمراتها في آسيا وأفريقيا بل ستكون في المراكز التي يستمد منها الإسلام قوته، عاصمة الخلافة، فإن كل الجهود التي نبذلها لا تأتي بفائدة إذا لم يتم التوصل إلى القضاء عليها..."! لذلك كان يتوجب على الغرب القضاء على الخلافة الإسلامية لينفرط العقد وتتناثر حباته كلٌ في اتجاه مختلف.
وذلك كان هدف الحروب التي شنتها الدول الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين على دول الدولة العثمانية، تلك الحروب التي كانت متميزة بطابع ديني، يقول (لورنس براون): "وكذلك شنت الدول الأوروبية في القرن التاسع عشر والعشرين حرباً عدوانية على الحكومات المسلمة ثم انتزعت منها أرض ضمتها إلى سلطانها هي، ولقد كانت النتائج في أحوال كثيرة غير سارة لبعض الشعوب التي استعبدت وخصوصاً من المسلمين ولكن هذه الشعوب لم تصل بعد إلى درجة تشعر أنها مضطهدة أو أنها تعيش في حابورات "أحياء اليهود الجيتو" أما غاية الدول الأجنبية من محاربة الدولة العثمانية فكانت كما يراها المبشرون لعل الله الرحيم يضرب الأتراك بسيف قدرته الجبار"!
أما (لورانس العرب) فقد كان أكثر وضحاً وتصريحاً في طرح مخططاته للقضاء على الكيان السياسي الإسلامي (الخلافة العثمانية)، فقد كتب في أحد تقاريره: "علينا أن ندفع بالغرب لانتزاع حقوقه من تركيا بطريق العنف.. لأننا بهذا نقضي على خطر الإسلام وندفع به (أي الإسلام) لإعلان الحرب على نفسه وبذلك نمزقه من القلب. إذ ينهض في مثل هذا الصراع خليفة في تركيا وخليفة في العالم العربي. ويخوض الخليفتان حرباً دينية وبذلك يقضي على خطر الخلافة الإسلامية بصورة نهائية.."! والخليفة العربي الذي صنعه لورنس ودفعه لقتال الخليفة العثماني هو: حسين بن علي!
إن الرغبة الشديدة عند الغرب الصليبي للقضاء على الخلافة الإسلامية من أجل تفتيت الوطن الإسلامي هي التي اضطرته لتوحيد جهوده وجمع كلمته كما يقول (وديع تلحوق) في كتابه "الصليبية الجديدة في فلسطين": "إن الدول الأوربية اجتمعت كلها على هدف واحد برغم ما بينهما من تباين آراء وتضارب مصالح وهو القضاء على الإمبراطور العثمانية، وأذاعوا أن الأتراك المسلمين يضطهدون المسيحيين، وأن هذه الدولة تقوم على عنصر ديني، وتستهدف استئصال المسيحيين من سائر القارة الأوربية إذا تسنى لها ذلك، وعلى هذه الصورة امتدت أصابع الغرب الصليبي إلى صميم الشرق العربي رويداً رويداً. وقد رأينا جيوش الصليبية تغمر سواحل البلاد العربية، وقد حاولت أن تستغل حركة التحرر العربي حتى إذا تم لها الفتح وساعدها سكان البلاد كشرت عن أنيابها، ووقفت تقول للشعوب العربية أنتم جزء من الغنائم والأسلاب، لا شركاء في الظفر والفتح".
ذلك كان موقف الغرب من الوحدة السياسية الإسلامية المتمثلة في دولة الخلافة العثمانية، وذلك كان مخططه للقضاء على الكيان السياسي الإسلامي وتفتيت وحدة المسلمين ...!

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت