- — خالد بركات
تعيش الساحة الفلسطينية “أزمات” ومرحلة “انقسام” لا تنتهي. وحالة من التيه والضياع شارفت على عبور عقدها الرابع. فمنذ انعقاد مؤتمر مدريد التصفويّ “للسلام” في اكتوبر عام 1991 ونجاح الولايات المتحدة وأدواتها في إجهاض الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الكبرى في فلسطين ورعاية اتفاق أوسلو (اتفاق إعلان المبادئ 1993) والواقع الفلسطيني ينحدر من سيء إلى أسوأ. فما طبيعة هذه الأزمة التي لا تجد حلاً؟ ولماذا لا تصل القوى الفلسطينية إلى “الوحدة” و” المصالحة” المنشودة؟ هل هي أزمة مجتمع وثقافة أم أزمة طبقة فلسطينية مهزومة وفاسدة؟ طبقة فشلت في قيادة الثورة ومنظمة التحرير فأسست لنفسها مشروع الحكم الذاتي المسخ في الضفة وغزّة لتحفظ امتيازاتها وعلى يديها وصلت القضية الفلسطينية إلى هذا الدرك الأسفل.
مرّة أخرى، ليّست أزمة شعب ولا أزمة مجتمع وثقافة. كشفت لنا الشهور الأخيرة عن طبيعة القوى الطبقية /السياسية المسيطرة في منظمة التحرير والسلطة، والتي تعتبر “القضية” مزرعة خاصة وبقرة تحلبها. فالقيادة الفضيحة قدمت آخر ابداعاتها في “مسرحية الانتخابات” التي قررها وشطبها فرعون رام الله الصغير محمود عباس، وفق قوانين فبركها واخترعها كهنة رام الله ولجنته المركزية المنقسمة على حالها.
وكشفت مسرحية الانتخابات الفلسطينية، سواء إقرارها وطريقة اخراجها أو قرار تأجيلها، عن وجود عصابات ومافيات فلسطينية تتصارع في العلن على كعكعة السلطة، وقوى وشخصيات تبحث عن امتيازاتها الطبقية وتُمثّل مصالح المحاور المتخاصمة في الاقليم، لا صلة لها بتحرير فلسطين وعذابات الناس وحقوقهم. بعض هذه “القوائم الانتخابية الكبيرة” جرى تسمين ورعاية رموزها طوال العقود الماضية لتلعب هذا الدور التدميري وصار لها (إلى جانب قرونها) مرجعيات دولية وعربية رسمية، وبعضها مخابراتية قُح، غير أن فريق محمود عباس لا يزال حتى اللحظة يحظى بحصة الثور الكبير، ويهيمن على مفاصل المؤسَّسَة الفلسطينية ومفاتيح القرار السياسي والمالي ويتمتع بالرضى والقبول الاسرائيلي – الأمريكي – الأوروبي.
وكُلّما حاولت هذه الطبقة الوكيلة حل أزمتها الخاصة بسبب تصاعد الضغط الشعبي الفلسطيني أو ضغط العدو الصهيوني – الأمريكي والاتحاد الأوروبي لانتزاع المزيد من التنازلات، ترتكب المزيد من الحماقات وتُقدِّم التنازلات وتعمّق الشروخ بين الفلسطينيين وتهمش حقوقهم وتكرّس سطوتها على كل شيء. وتفعل ذلك لتأمين امتيازاتها على حساب الطبقات الشعبية الفلسطينية وتحديداً جموع اللاجئين الذين يُشكلّون الأكثرية الشعبية الفلسطينية، فالقرار السياسي الفلسطيني أصبح كُلّه في جيب فرعون المقاطعة وبعض شركائه من سكان القصور في رام الله ونابلس وعمّان.
وكشفت خديعة الانتخابات الفلسطينية عن عمق الاختراق الشامل الذي حَققهُ العدوّ الصهيوني وأنظمة النفط في الساحة الفلسطينية منذ انطلاق قطار مدريد – أوسلو، فما عليك إلا أن تنظر إلى رموز “القوائم الكبيرة” حتى ترى كيف تعمل أموال الامارات مقابل أموال قطر، وكيف تُنافس مصر والسعودية جماعة اسطنبول والاتحاد الأوروبي. فالمال السياسي، كما الإعلام الرسمي، ظهر كأحد أهم محركات هذه “العملية الديموقراطية” الفاسدة والعقيمة جداً.. وكان من الطبيعي مع حُمّى المنافسة أن يرتبك تيار محمود عباس أمام منافسيه من شركاء الأمس. فشطب الانتخابات بجرة قلم جديدة وهو يتباكى على القدس واهلها.
لا أحد يقوى على ردع الفرعون الصغير في رام الله. لا أحد حتى الآن. فالفصائل والتيارات الرافضة لقراره –تأجيل الانتخابات- يُمكنها أن تقف على دوار المنارة وتصرخ ..أو تلطم ساعة. ربما تردح قليلاً على الفضائيات، هذا أكثر ما ستفعله. محمود عباس يعرف هذه الحقيقة. ولذلك لا يحترم الفصائل ولا يحسب لها أيّ حساب. وإلا لما تعامل معها كأنها دمى وديكور يستجلبها في كل مسرحية عبثية ثم يركنها على الجانب.
وكشفت الانتخابات الفلسطينية أيضاً عن هشاشة وعفن النظام الأوسلوي واستعدادة توظيف القدس والمقدّسات من أجل مصالحه. فرعون أوسلو، مثل ملوك وامراء وسلاطين المنطقة، خاصة جاره عبد الله الثاني وملك المغرب وبن سعود وسلطان إسطنبول، يحب القدس جداً جداً !
وكشفت الانتخابات المَهزلة عن المسافة والهوة التي تتتسع وتكبر يومياً بين قيادة بعض الفصائل الفلسطينية وبين قواعدها وجمهورها. لقد تشظّت حركة فتح أكثر، صارت حركات وتيارات وقوائم انتخابية! أما قوى اليسار الفلسطيني فإن حالها لا يسُّر صديق ولا يُغيظ عدوّ.. وبعضها يقف على يمين اليمين.
وكشفت الانتخابات المسخرة كيف يجري إقصاء الشعب الفلسطيني في الشتات وتعطيل دوره ومصادرة حقوقه عن قصد. فالشعب الفلسطيني في المنفى، من منظور كهنة السلطة، لا دور له إلا الانتظار والصمت. إن من يصادر صوت مخيمات الجلزون والدهيشة وجباليا لن يكترث لمشاعر عين الحلوة والوحدات وشاتيلا واليرموك. والرسالة تقول: إفهموا، عباس أولاً.
يقول زواحف المرحلة في مقر المقاطعة: سندخل انتخابات الحكم الذاتي المضمونة في الجيبة، ثم نرى كيف نتصرف مع هؤلاء في الخارج ونهندس لهم “انتخابات بالتوافق الوطني!” ونُركِب لهم المجلس الوطني الفلسطيني على مقاسنا وطريقتنا، ولينتظر اللاجئين في الشتات جولات مصالحة جديدة في القاهرة والدوحة واسطنبول، لينتظروا في المخيمات ألف سنة، إلى أن ترتاح وتطمئن القصور والبنوك!
الشعب الفلسطيني .. في وادٍ آخر:
الشعب الفلسطيني الذي يعيش في جزر ومعازل، بين وطن ومنفى، لديه أولويات لا حصر لها، على رأسها رغيف الخبز. يبحث عن الوظيفة والتعليم والصحة والدواء والأمان وحياة كريمة مثل أيّ شعب آخر في الكون. قد تختلف هذه الأولويات بين تجمع فلسطيني وآخر، غير أن شعبنا، برغم كل شيء، لم ينقسم حول أهدافه وحقوقه الوطنية الكبرى، لم ينسَ حقوقه، لم يرفع الراية البيضاء، ولم يُسقِط القدس والعودة من حساباته، بل يدرك في أعماقه أن لا بديل أمامه اليوم إلا استناف العمل الفدائي واستعادة مسار التحرير والعودة.
لو سألت الناس في مخيمات الأردن ولبنان وسوريا واللاجئين الفلسطينين في الخليج وأوروبا سيقولون لك الجواب ذاته ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، ويسألوك: مين فرعنك يا فرعون؟ هذا موقف وليس سؤالاً يبحثون عن جواب له. وستسمع صرخة مكتومة تدعو للتغيير وانقاذ حقوقهم وقضيتهم من الضياع. وحديث حزين لا ينقطع عن الفقر والفساد والقمع والحصار، وعن مصير الذين ركبوا قوارب الموت إلى جزر اليونان ولا خبر عنهم حتى الآن، وعن تحرير أسراهم وابنائهم وبناتهم من سجون الاحتلال، وما تواجهه القدس من حصار وخنق، وكيف تُنتهك حقوق اللاجئين الفلسطينيين. عن فساد السفارات وقلة حيلة الفصائل، وستدرك كم يشعرون بالألم والخديعة والغضب.. وهذه اؤلوياتهم الوطنية وقضاياهم الحارقة التي يعرفوها جيداً.
هذا شعب لا يعيش أزمة. بل يحيا منذ 73 سنة في محرقة ونكبة مستمرة.
جماعة الانتخابات لهم منطق آخر وهموم أخرى لا تشبه هموم الشعب. وكل اللغو والهرطقة في صالونات المثقفين والساسة والتجار حول “بناء المشروع الوطني الفلسطيني بالانتخابات” مجرد مسخرة واجترار للفضيحة والفشل في آن واحد. فالمشروع التحرري الفلسطيني لا يأتي بصندوق انتخابات، ولا بقرار أو لقاء هزيل لا قيمة له تعقده فصائل أكثرها صورية في هذه العاصمة العربية أو تلك.. وتلتقي برعاية المخابرات العربية.
وبرغم رفضنا للانتخابات المسرحية واتفاقيات فتح – حماس في القاهرة واسطنبول والدوحة إلا أن إلغائها كان خديعة للناس أيضاً ولا تقل مرارة عن مرسوم أجرائها. ففي نهاية الأمر المشكلة ليست أزمة الناخب/ة الذي اشترى الوهم والبضاعة الفاسدة “وانضحك عليه”، المشكلة في تاجر وسخ باع الوهم للناس ويعبث بالشعب الفلسطيني وحقوقه ومصيره.
***
إعادة بناء مشروع التحرير والعودة يعني مهمة وطنيّة وقوميّة كفاحيّة تتحقق بالتراكم والنضال الدؤوب والتغيير الثوري والقيادة الجماعية والمشاركة الشعبية الفلسطينية والعربية. مهمة تاريخية قاسية تقوم عليها طبقات شعبية نقيضة لكيان الصهاينة وعصابة أوسلو.
ويعلم شعبنا جيداً الفرق الكبير بين من يسعى إلى تغيير الواقع وموازين القوى وبين من ييحث عن التكيّف مع شروط الواقع والعدوّ ويقدم له صندوق الانتخابات باعتباره الحل السحري!
المطلوب هو إطلاق المسار الثوري الفلسطيني البديل، المسار الشعبي الجديد الذي يُعبّر عن حقوق ومصالح الطبقات الشعبية المسحوقة صاحبة المصلحة في التغيير والتحرير، وطريق جديد تشارك فيه طلائع وقوى المقاومة الفلسطينية والعربية التي تناضل من أجل التحرير والعودة. ومسار ثوري ديمقراطي يهزم في الشوارع والميادين تجار المرحلة ويتجاوز كيان أوسلو وزواحف وادوات التصفية. فلا يمكن بناء جبهة وطنية فلسطينية مع قوى عميلة تقدم تقاريرها لوكالة الاستخبارات الامريكية والنظام العربي الرسمي، ولا يمكن أن تبني وحدة وطنية ثورية مع قوى واحزاب إستسلمت للعدوّ ومع فصائل صغيرة وتابعة وفاشلة.. فلا يُصنَع النصر مع جمع من المهزومين والفاسدين.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت