•     خالد  أحمد

عدد ( 5 صفحات )

تمر هذه الأيام الذكرة الثالثة والسبعين لنكبة فلسطين التي جسدها مسلسل التغريبة الفلسطينية ،والذي ُقدم باللهجة الفلسطينية ،و أرخ للرواية الفلسطينية في مواجهة سردية المحتل ، ويُعد هاذا المسلسل مِن أشهرِ ما أنتجتهُ الدراما العربية في تُسلّيط الضّوء على القضية الفلسطينية حسب العديد من النقّاد ،وحظي المسلسل بشعبية ونجاح كبيرين على الرغم من مرور 16 عامًا على عرضه ،ولم يتوقف بثه عبر الفضائيات حتى يومنا هذا وما زالت منصات التواصل الاجتماعي تحقق مشاهدات مرتفعة ومعد هذه السطور شاهده مرات عديدة  .

 

كتبه د. وليد سيف وأخرجه الراحل المبدع حاتم علي وكلاهما عاشا حياة اللجوء والاحتلال والاغتراب فاتحد الوجع والهم بينهما فرسم قلم وليد سيف معالم الرواية بدراية وحنكة مغموسة بالتجربة ليصوّرها واقع المهارة والحنكة والمقدرة نفسها تجسيدًا صادقًا وتعبيرًا عما يختلج صدورهما من هدف وأمل ورغبة في تحرر العقل والذات من الشوائب التي أصابتنا منذ زمن بعيد إلى يومنا هذا.

                              

أفضل عمل على مستوى الوطن العربي

 

نال عدة جوائز تقديرية من مختلف البلدان العربية واعتبر أهم عمل تاريخي على مستوى الوطن العربي يحكي عن القضية الفلسطينية بواقعها الإنساني ، أنتجته شركة سوريا الدولية للإنتاج الفني، وجرى تصويره بالكامل في سوريا في منتصف العام 2004 م، وبُث للمُشاهد في نفس العام عَبر 31 حلقة طوال شهر رمضان  ،وفي تعليقها على ذلك أشارت صحيفة الحياة اللندنية إلى ان المسلسل استطاع  أن يلامس جوهر القضية الفلسطينية.

 

واستغرقت فترة التصوير نحو أربعة أشهر والتي جرت في العديد من الأماكن السورية الشبيهة بطبيعة فلسطين وإطلالاتها على الجبال والأحراش و أشجار الزيتون و الغابات ومن أهم أماكن التصوير مدينة صافيتا وهي إحدى مدن محافظة طرطوس في سوريا ومنطقة عمار الحصن في ناحية الناصرة في محافظة حمص، ومدينة حلب، وتدمر.

 

 

 

         

 

فلسطين لا تنسى من يقف بجانبها وتطلق اسمه على أحد شوارعها

 

وعند الحديث عن مسلسل التغريبة الفلسطينية لا بد لنا ان نستذكر  مخرج هذا العمل الراحل المبدع الذي غيبه الموت في التاسع والعشرين من كانون أول ديسمبر من العام الماضي أثر ازمه قلبيه عن عمر 58 عاماً ،وقد هاتف  الرئيس محمود عباس زوجته وعائلته مقدماً لهما التعازي ، بينما نعته وزارة الثقافة ،وعددًا من الفصائل والأحزاب الفلسطينية، فيما كرمته محافظة طولكرم  بإطلاق اسمه على أحد شوارعها، ونقشت صورة لعلي على لوحة من الرخام وضعت على واجهة أحد المباني الملاصقة للشارع في رسالة للعالم بأن فلسطين لا تنسى من يقف بجانبها .

 

إحياء للذاكرة الفلسطينية

 

تكمن أهمية هذا العمل في أنه نشّطَ الذاكرة الفلسطينية وصنعَ مخزونًا قِيميًّا يبقى للأجيال القادمة، بعدما راهن الاحتلال الإسرائيلي على طمس الذاكرة الفلسطينية من عقول الأجيال المتعاقبة ، ولم يكتفي بتلخيص تاريخ تلك المرحلة، بل استعرض كذلك الحياة الاجتماعية الفلسطينية بأطيافها وطبقاتها المختلفة، إذ تميز بتنوع شخصياته، فضم الفلاح والعامل     والشاعر والمثقف والثائر والإقطاعي وهو يقدم المأساة الفلسطينية في صيغة قريبة من فهم شرائح واسعة من الجمهور العربي تعجز وسائل تعبيرية أخرى عن إيصالها وهو ما من شأنه أن يساهم في حفظ الذاكرة الفلسطينية أمام المؤامرات والتشويه التاريخي الذي يعمل عليه الاحتلال الإسرائيلي من خلال الدعاية الإسرائيلية.

 

طَرَح الكاتب منذ البداية فكرة لفت الانتباه لكل المجاهدين والثوار الفلسطينيين المجهولين الذين قضوا حياتهم في العمل الجهادي و الكفاحي لتحرير فلسطين، ويُلاحظ ذلك في أول مشاهد المسلسل، فقد تعمّد صُنّاع المسلسل ذلك، مثلاً لم يظهر أي مشهد عن دور القائد فوزي القاوقجي ولكن ذُكر اسمه فقط دون أن تظهر شخصيته، ولم يظهر الشيخ عز الدين القسام إلا في مشهد واحد ،ويمكن الملاحظة أن القرية الفلسطينية في المسلسل لم يكن لها اسم، فقد كانت مجهولة طيلة حلقات المسلسل، فقد ظهرت في الحلقة الأولى عبارة  (قرية فلسطينية) فالعمل لا يَقصد تحديد منطقة بعينها في فلسطين، فالتعميم في اختيار أماكن الأحداث إشارة إلى عمومية مقاومة المحتل وشمولها لكل مناطق فلسطين ، فالقرية هنا

 

 

 

نموذج يمكن القياس عليه حالُ كل القرى الفلسطينية التي قدمت الكثير من التضحيات في مسيرتها الجهادية.

ولأن المسلسل يغطي مراحلَ زمنيةً طويلةً وأحداثًا كثيرةً، فقد لجأ الكاتب إلى استخدام راوٍ للأحداث للاختصار، والراوي هنا هو "علي" مثل دوره "تيم حسن"، وهو يروي بصوت الرجل الذي لم يكبر أو يظهر بعد، وهذه الرواية هي الحالة الوحيدة التي نسمع فيها اللغة العربية الفصحى في هذا العمل، وقد اُختِيرت شخصية "علي" في ذلك إشارة إلى ما سيحوزه في المستقبل من ثقافة حيث سيحصل على درجة الدكتوراه.

 

أحداث المسلسل

 

تتمحور قصة المسلسل بشكل عام حول عائلة "اليونس" الفقيرة التي تعيش في الريف الفلسطيني وتتركز أكثر حول شخصية "علي" وهو الراوي في المسلسل ،وأخيه الأكبر "أبو صالح" وأدّى دوره الفنان جمال سليمان حيث  يبدأ المسلسل بشكلٍ رجعي، فجاءت وفاة "أبو صالح" وعودة الأخ الأصغر للعائلة "علي" من أمريكا بعد أن نال درجة الدكتوراه، ثم يقف الأخ الأصغر "علي" أمام جثمان "أبو صالح" في تلخيص يسرد جوانب المأساة محدثاً نفسه بمرارة عن بطولة "أبو صالح" وخوفه على الذاكرة الفلسطينية، ثم يتبع ذلك المشهد شارة المسلسل.

 

تبدأ الحكاية في قرية فلسطينية غير محددة عام 1933م في عصر الانتداب البريطاني لفلسطين، تزامناً مع عصر الإقطاع وما يعانيه الفلاح الفلسطيني، والعديد من الأزمات في حياة تلك العائلة وعلى رأسها ربّ الأسرة "أبو أحمد" -يؤدي دوره الممثل الراحل خالد تاجا من ظلم واستغلال طال كل مناحي حياتهم حتى على صعيد دراسة أبنائهم.

 

تتطور الأحداث مع الزمن وتتغير حال تلك الأسرة في كل فترة بين أفضل وأسوأ، ويتابع المسلسل تطور كل شخصية على حدة، ففي زمن الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936م والهجرة اليهودية، يتحول "أبو صالح" إلى قائد فصيل يأمر وينهي في القرية مما يُحوّل حال الأسرة كلياً للأفضل في هذه المرحلة يستشهد "العبد" -يؤدي دوره خالد القيش- في معارك الدفاع عن القرية، وهو زوج "خضرة" الأخت الوحيدة في الأسرة التي تؤدي دورها نادين سلامة، وتضطر "خضرة" للزواج لاحقاً مرة أخرى ، ثم سرعان ما يعود وضع الأسرة ليسوء بعد نهاية الثورة، ثم تتلاحق الأحداث لتشمل حرب التطهير العرقي لفلسطين 1947/1948، وبداية الغزو اليهودي لفلسطين في 1948 ،و في خضم الأحداث يضيع الطفل "رشدي" وهو ابن "خضرة" ، وينتهي أمر الأسرة بعد الحرب في مخيمات اللاجئين.

 

 

ومن تلك المرحلة تبدأ نقطة انطلاق جديدة لأحداث المسلسل مع جيل جديد من الأحفاد الذين كبروا في أسرة عائلة "اليونس" في مخيم اللاجئين، الأستاذ "علي" يصبح أستاذاً جامعياً، و"أبو صالح" يعمل في دكانه الصغير في المخيم، وتظهر بهذه المرحلة شخصيات جديدة، ثم ما تلبث الأحداث أن تتسارع حتى تأتي نكسة حرب حزيران 1967 فيُهجّر أهل المخيم من جديد، ويرفض "أبو صالح" الهجرة مرة أخرى.

 

ثم تبدأ أحداث نهاية المسلسل التي تركت مفتوحة مع عودة روح المقاومة من جديد، حيث كانت النهاية مع الحفيد الذي كَبر "رشدي"  في كنف أخواله ولعب دوره المخرج  حاتم علي نفسه  فقبل توجهه لا خراج بندقيه والده الشهيد "العبد" من مخبئها قام بتمزيق قبول الدراسة في كلية الهندسة في باكستان ليكون المشهد واضحاً بالتعبير عن الاستمرار في مواصلة المقاومة من خلال التجذر في الأرض وعدم مغادرة الوطن مهما تكن الأسباب .

 

القصة والسيناريو والحوار

 

شرعت في التحضير له وفي كتابته في الثمانينيات وقد أنفقت فيه ثلاثة أعوام من عمري بحثًا ودراسة ومعالجة درامية ثم الكتابة للنص التلفزيوني وطبعًا البحث قد استغرق مني وقتا طويلا لأن هذه القضية لا يمكن العبث بتفاصيلها وبحقائقها...

هذا ما قاله كاتب المسلسل الدكتور وليد سيف وهو فلسطيني عايش وعائلته ما يُشابه أحداث المسلسل واستوحى معظم أحداثه مما شاهد وسمع، فالكاتب من أبناء مدينة طولكرم وعايش المعاناة بنفسه، ولعل هذه التجربة بتفاصيلها قد انعكست على المسلسل وعلى قُدرة الكاتب في الكتابة عن الأحداث بدقة، وله العديد من الأعمال السورية التي تهتم بفلسطين لذلك لم يكن المسلسل من محض خيال الكاتب بل استند إلى أحداث حقيقية موثقة شبيهة تتبعها ووثقها حتى خرجت في هذا العمل الفني الرائع .

 

المخرج يتحدث

 

صورة حقيقية للاجئين فلسطينيين في شمال فلسطين في حرب 1948، حيث ظهر مشهد تهجير الشعب الفلسطيني في المسلسل شبيه لحد كبير بالواقع .

يقول مخرج العمل حاتم علي: « أنا لست فقط أحد أبناء “الجولان” المحتل الذين عاشوا تجربة تتقاطع في كثير من تفاصيلها مع تجربة شخصيات مسلسل "التغريبة الفلسطينية" ولكنني أيضاً عشت طفولتي وشبابي في مخيم اليرموك وكنت في عام 1967 بعمر

 

 

 

“صالح” الذي كان يحمله خاله “مسعود” وكنت أيضاً محمولاً بالطريقة نفسها على ظهر أحد أخوالي ، وبشكل أو بآخر استطعت أن أستحضر الكثير من هذه التفاصيل الواضحة أحياناً والمشوشة في أحيان كثيرة والملتبسة في بعض الأحيان وأوظفها وأعيد تركيبها مستكشفاً إياها في أحيان كثيرة من خلال العمل نفسه وكثيرا ما سُئلت نفس السؤال وهو كيف يمكن لمخرج غير فلسطيني أن يقدم عملاً عن هذه القضية، وأنا شخصياً كنت أقول أن القضية الفلسطينية هي قضيتنا جميعاً كعرب».

 

الف شخص شارك في العمل

 

تم بناء ديكور لقرية فلسطينية بكل تفاصيلها المشابهة لفترة التمثيل، ثم كان لاحقاً بناء الخيام حيث بُنيت نحو 300 خيمة لمشاهد تدفق اللاجئين في المسلسل، قبل ان يتم بناء بيوت الطوب للتعبير عن المرحلة التالية للاجئين ، وشارك بالعمل العديد من الفنانين والأشخاص من سوريا وفلسطين والأردن حتى وصل عدد الكومبارس والحشود والممثلين الإضافيين إلى نحو 1000 شخص لإضفاء واقعية وخلق مناخ طبيعي للمشاهد ،ونظراً لأهمية العمل فقد ابدي عدد الممثلين الأردنيين رغبته للانضمام لهذا العمل مجاناً لإتقانهم اللهجة الفلسطينية ، أما كلمات الشارة فهي للشاعر الفلسطيني الراحل إبراهيم طوقان      ( 1905ـــــ1941م) وهي جزء من قصيدة "الفدائي" من ديوان "فلسطين" والتي يقول فيها :ـــ

لا تَسلْ عن سلامتِهْ            روحه فوق راحتِهْ

بدَّلَتْهُ همومُهُ                   كفناً من وسادِتهْ

 

اللهجة الفلسطينية واللباس التقليدي

 

اُستخدمت الملابس الفلسطينية والزي التقليدي الفلسطيني في المسلسل بشكل واضح  فقد شاهدنا الممثلة جوليت عواد في دور "أم أحمد" وهي تلبس الثوب الفلسطيني الذي يحتوي الألوان والزخارف عند أهل الريف الفلسطيني، ، أما لباس الرجال من الريف فكان من خلال الكوفية الفلسطينية والقمباز والشروال، أما أهل المدن فكان من خلال الطربوش.

 

أما بخصوص اللهجة الفلسطينية فقد كانت واضحة بأداء الممثلين في مختلف أماكنهم وأنواعهم وكانت اللهجة الفلاحية التي يتحدث بها أبطال العمل هي الغالبة ،وتحديدًا لهجة  أهالي طولكرم و منطقة الشمال الفلسطيني وكذلك لهجة أبناء المدينة التي ظهرت من خلال عائلة "أكرم السويدي"، وعائلة زوجة "أبو صالح" من حيفا، مع العلم أن اللهجات الفلسطينية تختلف وتتنوع حسب المنطقة الجغرافية .

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت