- نهاد أبو غوش
في الذكرى العشرين لرحيله، يستحق منا الشهيد فيصل الحسيني، كما يستحق شعبنا كله، أن نتوقف قليلا عند ذكرى هذا القائد المميز، لعل هذه الوقفة تنفع المناضلين والمرابطين، وتنفع شعبنا وكل من يتمسك بهوية القدس ومكانتها لدى عموم الفلسطينيين، وطابعها التاريخي العربي الإسلامي- المسيحي الذي عرفت به عبر كل العصور، ثم إننا جميعا ما زلنا نستشعر غياب فيصل، ونعرف جيدا ما هي الأدوار والوظائف والمهمات التي كان يتولاها، وشغرت ولا زالت شاغرة منذ رحيله المفجع حتى الآن.
لا يدعي كاتب هذه السطور أنه يعرف فيصل أكثر من غيره، ولا أنه الأقدر على رسم ملامح هذه الشخصية الفذة، ولكن، وبحكم مهام التنسيق الوطني والفصائلي في القدس، ولكون الراحل كان يمثل "مرجعية" مسلّما بها لدى الجميع، صادف أن جمعت الكاتب بفيصل الحسيني لقاءات علنية وسرية، وفعاليات نضالية، وسفرا جماعيا مطولا إلى سوريا، خلال فترة حرجة هي أواخر التسعينات ومطلع الألفية، مكّنت من التعرف اكثر على جوانب إنسانية وقيادية استثنائية في شخصية المرحوم فيصل الحسيني.
لا عجب أن آلاف المواطنين المقدسيين والفلسطينيين بشكل عام، يتذكرون "أبا العبد" بوصفه صديقا شخصيا لكل منهم، لأن حادثة أو أكثر جمعتهم به، ولأن الراحل كان في غاية التواضع والبساطة والانفتاح على الاخرين. وكل من يتعرف عليه يشعر بهذه الألفة التي تنشأ على الفور بينه وبين الناس، لم تكن بينه وبين الناس أية جدران وحُجُب وأسوار، فمكتبه مفتوح على الدوام وكذلك منزله، والأهم هو وجوده الدائم في الميدان يتحسس آلام الناس ومشكلاتهم، يتضامن معهم، يرفع معنوياتهم، ولم يقتصر الأمر على المجاملات الاجتماعية العابرة، بل كان الرجل قادرا على الدخول في تفاصيل حياة الناس ومعاناتها من الضرائب الإسرائيلية الباهظة، أو اعتقال الأبناء، وأوامر الهدم وغيرها من المشكلات اليومية، ليخرج معهم ببعض الحلول المتاحة.
في كتب الإدارة ثمة مبحث شائع عن الفارق بين القائد والمدير، ويشار عادة إلى أن الأول صاحب رؤية، وذو صفات طبيعية تُمكّنه من التاثير على مرؤوسيه، بينما الثاني يكتسب قوته من منصبه، ويحصر اهتماماته بالقضايا الراهنة والمباشرة ويفتقر إلى قوة التأثير الشخصية، وعند حديثنا عن بعض القادة يجدر بنا البحث في فكرة "الزعامة" التي هي صفة نادرة بين القادة، وتجتمع فيها عوامل طبيعية موروثة، وعناصر مكتسبة، وسجايا شخصية، ولحظة تاريخية فارقة تستدعي وجود هذه الشخصية المميزة.
وبهذا المعنى كان فيصل الحسيني زعيما حقيقيا، لم يستمد نفوذه وتأثيره فقط من الإرث العائلي والأمانة التي آلت إليه باعتباره ابن الشهيد عبد القادر الحسيني، وحفيد موسى كاظم الحسيني، ولا من المنصب الذي شغله سواء كمسؤول ملف القدس في منظمة التحرير الفلسطينية، وعضو في اللجنة التنفيذية للمنظمة، وفي اللجنة المركزية لحركة فتح، أو كرئيس لجمعية الدراسات العربية، بل من تلك الخلطة الفريدة من الصفات التي جعلته يتماهى مع مسؤولياته تجاه القدس، فيندمج فيها وتندمج فيه، وكذلك من قدرته على اشتقاق رؤية استراتيجية، للبقاء والثبات والصمود في القدس وبناء المؤسسات والتنمية. تبدو الرؤية بسيطة في الظاهر، لكنها عميقة وغنية، إنها "السهل الممتنع" في أبلغ صوره، وهي وصفة تنطبق كذلك على شخصية فيصل وعلى كثير من تفاصيل حياته.
تمكّن فيصل الحسيني من أن يجمع في شخصه عددا من الواجبات والمسؤوليات والمهام الفريدة، فهو مرجعية سياسية ودبلوماسية ليس فقط للمواطنين الفلسطينيين، بل للشخصيات والهيئات الأجنبية كذلك، لا يكاد يمر وزير خارجية أجنبي أو دبلوماسي دولي مهم من دون أن يقابل فيصل الحسيني، فكان بهذه الصفة صوت الفلسطينيين العالي في القدس. وهو كذلك مرجعية نضالية، تعود إليه قوى وفصائل الحركة الوطنية في كل شؤونها، وتنسق معه الفعاليات الكفاحية من اعتصامات ومظاهرات وإضرابات ومذكّرات وبيانات وأشكال احتجاجية مختلفة، فضلا عن الواجبات الاجتماعية التي كان يقوم بها تجاه الناس، وإلى ذلك كان فيصل مرجعية للمؤسسات الصحية والتعليمية والاجتماعية والخيرية والنقابية وغيرها، حريصا على نشرها وتعزيزها وإنقاذها من أزماتها، وبهذه الصفات كان فيصل عنوانا للحضور السياسي الفلسطيني في القدس، والحقيقة أنه كان حريصا على مأسسة وتنظيم هذا الحضور، وتكريسه عبر اشكال أعلى وأرقى بما في ذلك إيجاد شبكات فاعلة للتأمين الصحي، وفرض نوع من البلدية الفلسطينية كامر واقع، وفيصل بالذات هو الذي أطلق فكرة المؤتمر الشعبي للقدس ليكون مرجعية موحدة لكل الهيئات والمؤسسات في المدينة، لكن المنية عاجلته قبل ان يستكمل تحقيق أحلامه وأهدافه، ولا زال موقعه في وجدان الفلسطينيين والمقدسيين شاغرا.
أتيح لي أن أرافق المرحوم أبو العبد في رحلة جماعية بواسطة حافلة إلى سوريا، لحضور مراسم الذكرى الأربعين لوفاة الرئيس السوري حافظ الأسد، وعادة ما يمثل السفر المشترك فرصة طيبة للتعارف بين المسافرين الذين يقضون ساعات طويلة مع بعضهم، وقد ضم الوفد عددا من الشخصيات المقدسية وممثلي الفصائل والمؤسسات. كان فيصل حريصا على الاطمئنان على كل فرد من أفراد الوفد، على راحته وصحته وعلى حسن سير أموره، وتحضرني في هذه المناسبة عدة مشاهد مؤثرة منها أن جميع الوفود العربية والأجنبية، وفي مقدمتها نقاط الحدود ومؤسسات الدولة السورية بل والمواطنين السوريين العاديين، كانوا يتعاملون مع فيصل الحسيني كزعيم كبير، ربما لمعرفتهم وإدراكهم لمكانة فيصل في القدس وفلسطين، ومكانة القدس في وجدان مئات الملايين، كان التوتر والشكوك يخيمان على العلاقات الفلسطينية السورية كما هي حالها لسنين طويلة، لكن فيصل كان خارج معادلات التوتر هذه. في مخيم اليرموك بدمشق وخلال زيارة مرتجلة وغير معد لها، خرج مئات اللاجئين الفلسطينيين لاستقبال فيصل والترحيب به، أحد المسنين قال وهو يختنق بدموعه أنه حارب مع الشهيد عبد القادر، لم تتسع الأيام القليلة التي قضاها الوفد لكل جدول أعمال فيصل، لكنه تعمد زيارة مخيم اليرموك بالذات لتوجيه رسالة واضحة: انتم في قلب اهتمامنا.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت