- بقلم نهاد ابو غوش
لا يخفى على أحد، سواء كان ناشطا سياسيا أو مواطنا عاديا أو مراقبا خارجيا، أن حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) تواجه مشكلات برنامجية وتنظيمية معقدة، أثرت على شعبية الحركة وعلى مكانتها، بل وعلى درجة التزام اعضائها ومناصريها بتوجهات الحركة والتفافهم حولها، وبالتالي على دور الحركة في قيادة الشعب الفلسطيني كما برز مؤخرا في المواجهات الكبرى خلال شهر أيار الماضي والتي شملت الحرب الإسرائيلية على غزة والمواجهات في القدس المستمرة حتى الآن. ومن دون مبالغة أو مجاملة يمكن القول أن ما تتعرض له حركة فتح يؤثر على مجمل الحركة الوطنية للشعب الفلسطيني، وعلى نضاله من أجل استرداد حقوقه الوطنية، ولطالما ردد الوطنيون الفلسطينيون العبارة التي مفادها "إذا كانت حركة فتح بخير فمنظمة التحرير الفلسطينية بخير، والحركة الوطنية بخير"، والسبب لذلك بسيط ومفهوم، وملخصه أن حركة فتح لعبت على امتداد العقود الماضية دور القاطرة التي تقود الحركة الوطنية، وشكلت على امتداد 56 عاما العمود الفقري لهذه الحركة، فكانت هي من أطلق الثورة الفلسطينية المعاصرة، وشكلت الرافعة الأساسية لانبعاث الشخصية الوطنية الفلسطينية من رماد النكبة ومحاولات الطمس والتبديد، وهي التي خاضت وقادت العدد الأكبر من المعارك الوطنية ، وقدمت خلالها العدد الأكبر من الشهداء والجرحى والمعتقلين.
وما دامت حركة (فتح) تلعب هذا الدور الحاسم والمقرر، يصبح من حق جميع الوطنيين الفلسطينيين أن يدلوا بدلوهم، وأن يناقشوا هذه الظاهرة التي تؤثر عليهم وتساهم في رسم مستقبل شعبهم. والانطباع السائد الآن هو أن الحركة تخلفت عن قيادة المعركة الوطنية الأخيرة وهذا أمر يدركه الجميع ويقرّون به وتعكسه نتائج الاستطلاعات التي أجريت حتى الآن، مع ضرورة الانتباه إلى أن ثمة محاولات غير بريئة لشطب دور الجميع باستثناء حركة حماس، من خلال اختزال المعركة إلى الجانب العسكري فقط مع إنكار الجوانب الأخرى التي شهدتها كل تجمعات الفلسطينيين وكان لفتح كما لباقي الفصائل أدوار متفاوتة، كما أن اي تدقيق منصف سيخرج بأن جميع الفصائل والحراكات الشعبية والمجتمع المدني والقوى السياسية لشعبنا في الداخل وروابطه واحاداته في الشتات ساهمت في المعركة الأخيرة، لكن ذلك لا ينفي القصور القيادي الذي شاب أداء (فتح) سواء على المستوى الميداني أو السياسي.
يقفز البعض، وربما يعبر في ذلك عن رغبات كامنة، إلى أن عصر الفصائل ومنها حركة فتح قد ولّى وانتهى، وقد آن الأوان لكي تغادر الساحة لكي تحلّ محلها أجسام أخرى، وهي خلاصة أبسط ما يقال فيها أنها متسرعة لأن (فتح) هي بالأساس حركة تحرر من الاحتلال الذي ما زال قائما، وبالتالي فإن ضرورة وجودها مرتبطة بالخلاص من الاحتلال، فضلا عما تعكسه الحركة بفكرها وأدائها السياسي من خيارات ومصالح طبقية واجتماعية، وأي تغيير مبتسر أو مصطنع يعني القفز في الهواء والتسليم بخسارة معارك وطنية قبل خوضها، لكن ذلك لا يعني الركون لهذه الحقيقة والاتكاء عليها، لأن حركة الواقع والتغيرات المتسارعة كفيلة بأن تفرز ظواهر وحركات سياسية جديدة وأن تعيد ترتيب القوى وحجومها وادوارها، ودور أي حركة أو جسم سياسي منوط بقدرتها على تجديد نفسها والتصي للتحديات والاسئلة التي يطرحها الواقع.
تعرضت حركة فتح لأكثر من هزة عاصفة وخضّات كثيرة خلال العقدين الماضيين، أبرزها استشهاد مؤسسها وقائدها ورمزها التاريخي ياسر عرفات اغتيالا على أيدي الاحتلال، ثم خسارة الانتخابات التشريعية في العام 2006، وهو ما استكمل بخسارة قطاع غزة من خلال الانقلاب الذي نفذته حركة حماس في حزيران 2007. ويمكن اعتبار الحرب الأخيرة هزة ثالثة لا تقل في اهميتها عن سابقتيها، كما يمكن تعداد كثير من الأزمات الحادة التي أثرت على مكانة الحركة ودورها وأبرزها ما تعرضت له من انقسامات، ثم قرار قيادتها وقيادة السلطة والمنظمة بإلغاء الانتخابات التشريعية التي كانت مقررة في أيار الماضي، وهو القرار الذي بدت مبرراته عن عدم سماح الاحتلال بإجرائها في القدس، غير مقنع لقطاعات واسعة من الجمهور الفلسطيني.
وفي تفسير أزمة حركة الفتح يمكن العودة دائما إلى إشكالية العلاقة بين الثورة والسلطة، فحركة فتح في الأساس هي حركة تحرر وطني من الاحتلال، لكنها باتت بعد اتفاق أوسلو حزبا للسلطة، يحكم عليها الناس من خلال أدائها في القضايا المعيشية والاجتماعية، ونمط إدارتها للشأن الداخلي وما يرتبط بذلك من وجود أو غياب مظاهر الفساد والواسطة والمحسوبية، ومناخ الحريات العامة، فضلا عن مواقفها من العلاقة مع الاحتلال والتزامها بالاتفاقيات والتنسيق الأمني، وهكذا تظهر صور باهتة ومشوشة للحركة، متأثرة بصور القمع والفساد والامتيازات والتطبيع والتهاون بدل الصورة الناصعة الوضاءة التي جسدتها (فتح) لدى قيادتها لأزهى مراحل النضال الفلسطيني.
قيادة حركة فتح وهيئاتها لم تقم بالمراجعات الكافية للمسيرة السياسية التي بدأت منذ مؤتمر مدريد واتفاقات اوسلو ولم تتوقف حتى الآن على الرغم من إدراك فشل هذه المسيرة، وتنصل إسرائيل من كل التزاماتها ومحاولاتها اختزال دور السلطة بالتنسيق الأمني، ولا قيّمت الحركة أسباب الهزائم والإخفاقات وتراجع دورها القيادي ومنسوب الرضا الشعبي عنها، وثمة الكثير مما يمكن قوله عن الحال التنظيمية الداخلية وطغيان منطق التعيينات والاسترضاءات بدل الانتخابات وهي ملاحظات يفضل ان يتناولها مناضلو الحركة وفق تجربتهم ومعايشتهم مع أنها تطرح مرارا من قبل أصحابها الفتحاويين الذين يجهرون بها ويعبرون عنها بوسائل عديدة من بينها التظاهرات والاعتصامات، وبالتالي فإن استحقاقات برنامجية وتنظيمية كثيرة تفرض نفسها عند أي مراجعة هادفة لاستنهاض دور حركة فتح واستعادة دورها، أما مفتاح هذه العملية فهو من دون شك يتمثل في استعادة الحركة لهويتها التي نشأت من أجلها، أي كونها حركة تحرر قبل ان تكون حزب سلطة، حركة تحسب رصيدها وإنجازاتها وفق معاركها ضد الاحتلال لا حسب معارك نقابية وطلابية ضد شركائها في الوطن.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت