- علي بدوان
الإستلام اليومي لحليب الأونروا، وبياعي الحليب في شوارع اليرموك، من العناوين اليومية الجميلة والدافئة لتراث مخيم اليرموك في تلك السنوات العابرة من بدايات النكبة وحتى منتصف العام 1975، والتي كان فيها أبناء مخيم اليرموك، يتوافدون قبل الشروق لإستلام كمية الحليب المُقررة لكل أسرة وفق عدد أنفارها، ووفق عدد الأطفال فيها.
كانت وكالة الأونروا تعمل على توزيع الحصص اليومية من مادة الحليب على عموم العائلات الفلسطينية المُسجلة في قيودها، وهي العائلات التي تحمل مانسميه (الكرت الأزرق) والذي أصبح لونه مؤخراً لوناً أبيضاً. وذلك في مركز توزيع الحليب في المخيم والذي كان يقع على شارع فلسطين بالجوار من النادي العربي الفلسطيني مكان مركز الهاتف الآلي الحالي في اليرموك. حيث كانت منطقة المربع المذكور تتبع بكاملها للوكالة (كتلة المدارس الأولى في المخيم + مستوصف الوكالة المركزي باليرموك المعروف بمستوصف محمد الخامس + مطعم الوكالة + مركز توزيع الحليب).
كان حليب الوكالة، ومعه الخبز الفلسطيني السميك واللذيذ والمحضر من الطحين الكندي الأبيض والمفتوت في الحليب، والمضاف إليه القليل من الشاي السائل، مادة الفطور الأساسية لنا قبل الذهاب للمدارس، فيما كانت أمهاتنا تعمل على توفير قسم من حليب الوكالة من أجل صناعة اللبن واللبنة... وهكذا.
حليب الوكالة لم يكن بكافٍ للأسر والعائلات الفلسطينية في اليرموك في مُجتمعٍ فتي، كان تعداد أصغر عائلة فيه لايقل عن عشرة أنفار، فكان لابد من شراء الحليب اليومي الطازج من باعته من فلاحي القرى المحيطة باليرموك وخاصة منها قرى يلدا والقَدَم وببيلا وبيت سحم وعقربا وحجيرة والسبينة وحتى كفر سوسة وداريا وتوابعها ...
بيع الحليب في شوارع اليرموك وفي ساعات الصباح الباكر، كان أيضاً شكلاً من أشكال الموزاييك المجتمعي الذي ساهم بتلوين حياة وتقاليد المخيم. فالحليب كان يباع بطريقتين :
أولها طريقة البائع الذي كان يجلب معه (الحليب البقري) تحديداً، على وسيلة نقل في أوعية كبيرة يُطلق عليها فلاحي غوطة دمشق مُسمى (دبية)، في حين كانت وسيلة النقل إما (حمار) أو (دراجة عادية) أو (درجة نارية بثلاثة عجلات) تسمى بالشام وغوطتها بــ (الطرطيرة)، فيما تسمى في قطاع غزة على سبيل المثال (تكتوك).
وثانيها طريقة البائع الذي كنّا نسميه الحلاب، الذي كان يأتي لحارات وأزقة اليرموك وهو يقود قطيع من الماعز، منادياً الناس لشراء الحليب بعبارة واحدة (حليييوهيييييييب) كان يكررها جميع باعة الحليب الجوالين، حيث يتم إستدرار الحليب من ثدي الماعز مباشرة لوعاء المشتري. والماعر هنا ليس الماعز الجبلي المعروف بشعره ووبر السميك، وبقرونه، إنما الماعز الشامي المعروف بوبره الناعم ولونه الذهبي، وبوجود خواتم لحميه مكان قرونه، وهو من أغلى أنواع الماعز في العالم على الإطلاق، وقيل بأن ثمن الواحدة من تلك الماعز يعادل ثمن (100) من الماعز الجبلي، وهو ماعز نادر الوجود، وكانت غوطة دمشق أكثر الأماكن في العالم التي تضم هذا النوع من الماعز الجميل.
إن التحولات التي جرت في اليرموك، على صعيد المتغيرات التي طرأت على حياة الناس والمجتمع من كافة جوانبها، تجاوزت وألغت تلك الأشياء اليومية من حياة الناس، فالوكالة أوقفت توزيع الحليب منذ سنوات طويلة، وبات توزيعها فقط على العائلات المسجلة تحت قيود (العسر الشديد)، فيما بات بيع الحليب في السوبر ماركت مباشرة.
إنها قطوف من سيرة مخيم اليرموك، سيرة حياة شعبٍ كان ومازال ينبض بالحياة، شعبٍ لن تموت فيه الحياة مادام هناك رحمٍ فلسطيني واحد قادراً على الإنجاب.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت