المرابطة سميحة شاهين: عشق خاص لا يليق إلا بالأقصى!

بقلم: زهرة خدرج

سميحة شاهين في عشق الأقصى
  • د. زهرة خدرج
  • كاتبة وروائية فلسطينية

يا قدس يا حبي الكبير

يا وجه أمي يا كتاباً من عبير

كل الطير تعود في ذيل النهار

كل الوحوش تعود للأوكار

إلا أنا يا قدس أخطأني القطار..

(الشاعر: خالد أبو العمرين)

تسمعون كثيراً عن المرابطات في المسجد الأقصى، وتشاهدون مطاردات جيش الاحتلال لهن، ولكني متأكدة من أن تفاصيل كثيرة وتحديات تغيب عنكم، لذا سأختصر لكم حكاية عشق طويلة ملأتني لأقصانا الحبيب ودفعتني لأرتبط به وأرابط فيه رغم فداحة الثمن الذي لا أزال أسدده.. ولكن كرمى لمسرى سيد الخلق والمرسلين، كل شيء يهون!

اسمي سميحة شاهين وعمري الآن 58 سنة، ولدت ونشأت في قرية العيزرية شرقي القدس، لأب واسع الاطلاع حافظاً لكتاب الله تملأ الكتب رفوف بيته، جاهد وقاوم وأصيب بالشلل، وكأن حب الأوطان يوَّرث مثل كل الأشياء الأخرى.. فلا عجب أن أسير في طريق العشق والرباط.

زوجني والدي في سن صغيرة لشاب مقدسي، فاكرمني الله بشرف الإقامة داخل أسوار القدس القديمة وأصبحت قريبة من المسجد الأقصى.. وبسبب حادث عرضي دمر بيتنا، اضطررنا للانتقال للسكن في مخيم شعفاط، لم يكن بُعد المسافة ليبعدني عن المسجد الأقصى، فأخذت أحمل صغاري يومياً وأذهب بهم لنمضي يومنا في باحاته هم يلعبون، وأنا أتنقَّل من حلقة علم إلى أخرى حتى حصلت على إجازة في تجويد القرآن، وأنهيت دورات في فقه الأسرة وفقه السنة وغيرها.

قلَّ ذهابي للأقصى مع دخول أبنائي المدارس؛ لحاجتهم لوجودي معهم، ولكن ذلك لا يعني أنني انقطعت عنه.

في آب 2013 توافدت الأخبار الفظيعة والصور شديدة القسوة والبشاعة لفض اعتصام رابعة، ملأت الآفاق واشعرت كل شريف حرٍّ  بالقهر والذل. اشتعلت في قلبي نار لم أجد ما يُطفئ لهيبها، زاد من أوارها أخبار الاقتحامات اليومية وتدنيس الصهاينة للمسجد الأقصى.. شعرت بتقصير عنيف: فأين أنا مما يجري من حولي؟ هل سأقف متفرجة؟؟

قلت لنفسي: أبداً لا أقبل بذلك! لا بد وأن أدافع عن مسرى رسولنا بما أستطيع.

أخبرت زوجي بالرباط الذي يعتمل في نفسي، قائلة: في رابعة يموتون من أجل" لا إله إلا الله"، يدافعون عن نظام حكم اختاروه، والأقصى يُدنس، ويُعتدى عليه من الأنجاس ونحن نأكل وننام مثل البهائم!

لم يتردد زوجي.. لتبدأ مرحلة جديدة عنوانها: الأقصى كل حياتي!

انضممت للمرابطات، وأخذت أتواجد في المسجد الأقصى طيلة أيام الأسبوع حتى الساعة الثانية ظهراً أو بعد ذلك حين يستدعي الأمر! أنطلق من بيتي في جوف الليل، الساعة الثالثة صباحاً رغم الظلام الدامس وانعدام السابلة في الطرقات، ولكن رغبة التراجع لم تداهمني في أيما مرة.. فلدي هدف عظيم بالانتظار!

قبل أذان الفجر أكون على أعتاب المسجد القبلي أُصلي ما تيسر، ثم أصلي الفجر ، وأتجه بسجادة الصلاة وحدي الى منطقة باب الرحمة، أقرأ ورد القرآن وأذكار الصباح.

عادة ما يبدأ المستوطنون اقتحاماتهم اليومية للأقصى في السابعة والنصف تحت حراسة مشددة من جنود مدججين بالسلاح ليمارسوا طقوسهم في أقصانا قدوماً من باب المغاربة غرب المسجد الأقصى.. وما إن ألمحهم من بعيد حتى أبدأ بصلاة أطيل قراءتها أمام الدرجات التي يمرون منها، تضيق نفوسهم ويكسو الغضب معالمهم، فكيف لامرأة مسلمة تجلس بمفردها أن تعترض جمعهم وتعكر مزاجهم في هذا الصباح الباكر؟

يقفون أحياناً منتظرين، وأحياناً كثيرة يحاولون قطع صلاتي وإبعادي بالقوة، وفي أحيان أخرى يدوسون سجادتي بنعالهم وينطلقون لمآربهم، ولكن ما إن أنتهي  حتى أصرخ وأُقرِّع الجيش الذي يرافقهم: فكيف تدنسون سجادة صلاتي؟

كان أفراد الشرطة يلتقطون لي صوراً لعلهم يدينونني بها، ومرة تلو الأخرى شرعوا يعتقلونني أثناء خروجي من بوابات الاقصى ويسلمونني في كل مرة قراراً بالإبعاد يمتد لأسبوع أو شهر أو أكثر إضافة إلى غرامات مالية وكفالات يضطر زوجي لتوقيعها، يجبرني ذلك إلى تحويل رباطي من الداخل إلى خارج بوابات المسجد الأقصى.

لم أكن وحدي طبعاً في مواجهة قطعان المستوطنين، فما إن تقترب الساعة من الثامنة صباحاً حتى تتوافد أخواتي المرابطات إلى المسجد الأقصى، لنتحد جميعاً في وجه الاقتحامات المتتالية التي تستمر حتى الظهر، نتبع المستوطنين مكبرات بكل ما أوتينا من قوة.. فيرتعبون، ويحثُّون الخطى إلى الخارج بغيظهم.. يريدون تدنيس أقصانا وممارسة طقوسهم، بلا إزعاج.. ولكن بُعداً عن عيونهم.. لن ندعهم يهنئون!

استعملوا هذه التكبيرات دليل إدانة ضدي وضد أخواتي المرابطات في كل مرة وسبباً للاعتقال، والإبعاد بقوة قوانينهم العنصرية.

وبين الاقتحام والآخر كنا نجلس في حلقة نتدارس القرآن والعلوم الشرعية وتاريخ القدس وتاريخ المسجد الأقصى، حتى حفظنا كتاب الله، وحفظنا المكان وحفظناه!

لم أشعر في أيما مرة بالخوف منهم، ولم يمنعني الاعتقال المتكرر والضرب والسحل والإبعاد من العودة مرة أخرى بعزيمة أقوى وإصرار لا يلين..

كان لي في مركز توقيف القشلة صولات وجولات.. تفتيش دقيق، تحقيق، توجيه اتهامات، وإلصاق تهم أنفيها جملة وتفصيلاً تبدأ بانتمائي لفصيل إرهابي يوجهني للتواجد في المسجد الأقصى، ويتبعها تهم أخرى كثيرة، ناهيك عن شتمهم للعرب والفلسطينيين بألفاظ نابية، وتحويل إلى سجن الرملة في مرتين منها، واستفزازات لا أول لها ولا آخر، وصلت إلى حد محاولة تحريض زوجي لمنعي من المسجد الأقصى واتهامهم له بأنه ليس رجلاً لأنه يسمح لي بالذهاب، ولكن زوجي لم يكن ليمنعني من حماية الأقصى، بل وقف دوماً إلى جانبي مسانداً وداعماً.. حتى أبنائي، كانوا على وعي ودراية بعِظم المهمة التي أقوم بها، لذا استوعبوا وقدَّروا تغيُّبي عنهم يومياً ولساعات طويلة، وشاركوني الرباط عندما كانت دراستهم وظروفهم تسمح لهم بذلك.

في إحدى مرات الاعتقال التي وصل عددها إلى 12 مرة اعتقلوني من داخل المسجد الأقصى.. حاول الرجال المتواجدين في الأقصى تخليصي من بين أيديهم، ولكنهم فشلوا.. سحبني الجنود إلى خارج باب السلسلة، وبدأوا بضربي بعنف وأخذ أحدهم يدوس على صدري ببسطاره، تسبب بحدوث كسور عدة في أضلاعي، ما أزال أجد آلامها حتى الآن في صدري عندما أتعرض للبرد، اقتادوني للتحقيق رغم أني بصعوبة أستطيع التنفس، لدرجة وصلت بالمحققة أن تقول لي: كفاك تمثيلاً!

عام 2016 اقتحموا وفتشوا بيت عائلة زوجي في جبل المكبر بعد منتصف الليل بحثاً عني، صرخ فيهم والد زوجي قائلاً: هي لا تسكن هنا.. ماذا تريدون من امرأة تذهب للصلاة في المسجد الأقصى؟ اتركوها وشأنها!

ولكنهم ادَّعوا بأنني سبب كل المشاكل التي تحدث في المسجد الأقصى!

 استُدعيت في اليوم التالي لمقابلة المخابرات الصهيونية، وبعد جدل طويل أخذوا يضغطون عليَّ لأوقع على قرار إبعادي عن المسجد والأبواب المؤدية إليه لمدة 6 أشهر.. فرفضت بإصرار.. صادروا بطاقة هويتي وتركوني أنتظر لساعات عدة.. ليعيدوها لي مرفقة بقرار الإبعاد المجحف وتحويلي إلى جلسة محكمة في اليوم التالي!

كان ذلك اليوم شديدة القسوة على نفسي، زاد من قسوته ورود نبأ اعتقال فتاتين من المرابطات في الأقصى وتمديد اعتقالهن الأمر الذي لم يعنِ في ذهني سوى التفتيش العاري والنقل المميت بالبوسطة التي تبدأ مع الفجر وترى فيها المعتقلة أصنافاً من العذاب!! شعرت آنذاك بكثير من القهر وفقدان الكرامة، فمن هؤلاء الغرباء ليحرمونا من أقصانا بينما يشرِّعون أبوابه لليهود المتطرفين بلا حساب؟ هذا أقصانا.. وليس لهم أي حق في ذرة تراب منه!

قفلت راجعة لبيتي منهكة شديدة التوتر أغالب دموعي، صليت العشاء وهجعت ينتابني شعور بالإعياء، استيقظت في الثلث الأخير من الليل شديدة العطش دوخان غريب يعصف برأسي، جررت نفسي للمطبخ لأشرب، ولكن قدماي لم تحملاني.. وقعت أرضاً فاقدة لكل اتصال بما يدور من حولي.. وفي المشفى اتضح وجود كسور في قدمي وإصابتي بسرطان الدم.

الحمد لله على كل حال.. فرض عليَّ ذلك الاعتكاف في المشفى لأشهر لتلقي العلاج الذي كان الكيماوي على رأسه.. وأُجِّلت جلسة المحكمة لتنعقد في اليوم التالي لإنهاءي العلاج، لتخرج بقرار: العمل 180 ساعة للدولة أمضيتها في الشؤون الاجتماعية في بيت حنينا، و 5000 شيكل غرامة، وحبس مع وقف التنفيذ لمدة 3 سنوات(تنتهي عام 2023) في حال تم ضبطي داخل الأقصى يتم  تنفيذ الحكم، إضافة إلى مخالفة بقيمة 1500 أدفعها للشرطي الملقب "بالمجعلك" الذي يعمل على بوابات الأقصى ولا يتوانى عن مهاجمة المرابطات والاعتداء عليهن.

لم يمنعني المرض وقرار السجن الذي ينتظرني، من الدخول خلسة للمسجد الأقصى في بعض الأحيان، مستغلة أوقات الاكتظاظ في أيام الجمعة، فهل يستطيع الحبيب أن يهجر حبيبه ويفارقه؟

سميحة شاهين في عشق الأقصى

 

سميحة شاهين في إحدى جولات الاعتقال


 

 

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت