- نبيل عودة
*كنا ضحية حلم جميل، اسمه الاشتراكية، حلم انساني، لم تنشأ القاعدة المادية والثقافية لتطبيقه* واجب الدولة يجب ان يتعمق أكثر بأن تكون الضامن باتجاه توزيع عادل للثروة الاجتماعية. هنا يجب ان يبرز دور اليسار الاجتماعي*
لفت انتباهي موضوع التطور الاقتصادي وارتباطه بتطبيق الديموقراطية، لدرجة اني بت استنتج الكثير من المواقف التي لم اطرحها بوضوح كامل بعد، خوفا من التسرع قبل الفهم الكامل لما يجري من تحولات في عالم اليوم، خاصة بعد فشل التجربة الاشتراكية. هذا الفشل بجوهره هو فشل اقتصادي، فشل سياسي وفشل فكري لنهج وإدارة اقتصادية، اجتماعية وسياسية.
بعض الأفكار التي تراودني منذ فترة، كلما تعمقت بالاطلاع على تطور الدول وارتباط التطور الاقتصادي المؤكد بتطور النظام الديموقراطي، يجعلني على قناعة اننا عبرنا سنوات عجاف فكريا، جعلوا من نظرية ماركس الاشتراكية نصا مقدسا يجب قبوله بدون تفكير، رغم وضوح إشكاليات في النهج الماركسي غير قابلة للتطبيق لأسباب عديدة وهامة وكثيرة تحتاج مني الى المزيد من المراجعات والتحليل والكتابة.
ما أعنيه ان الفكر الماركسي الاشتراكي كان بجوهره حلما طوباويا، اكثر مما هو نظرية ثورية لبناء مجتمع جديد أكثر عدلا، وأكثر ديموقراطية بالمقام الأول. لكن ستالين حول النظام الاشتراكي الى نظام استبدادي يفتقد للحريات والرأي المختلف وارتكب جرائم تصفية رهيبة ضد الشعوب السوفييتية، تقدرها بعض الأوساط بأكثر من 30 مليون ضحية. ونفي مئات المفكرين والادباء الى الغولاغ السيبيري الرهيب، منهم الروائي الروسي سولجنيتسين مثلا مؤلف الرواية عن الغولاغ الرهيب. لذلك وصف اشتراكية ماركس بالعلمية هو أشبه للضرب في المندل!!
راجعت في السنوات الأخيرة فصول أساسية من كتاب “رأس المال ” لكارل ماركس، وكتابات مختلفة أخرى منها “البيان الشيوعي”، وكتاب “المجتمع المفتوح واعداؤه” لكارل بوبر، ومقاطع من كتاب “الرأسمالية -المثال” لأيان راند، للأسف أقول انني اكتشف إننا كنا ضحية حلم جميل، حلم انساني، لم تنشأ الظروف، او القاعدة المادية والثقافية لتطبيقه.
أن أسلوب عرض النظام الرأسمالي حسب الادبيات الفكرية الاشتراكية، كانت تفتقد لرؤية الحقائق الاقتصادية للنظام الرأسمالي التي تدفع المجتمعات نحو نهضة شاملة تطول السياسة أيضا، وتغير الواقع الاجتماعي من واقع فقر إلى واقع نمو لا يتوقف، والتنمية هي الأرباح، وبدونها لا يتطور الاقتصاد ولا العلوم ولا الأرباح التي هي الهدف الجوهري للنظام الرأسمالي وللطبقة البرجوازية. البرجوازية عبرت من واقع نظام قمع الى واقع نظام سياسي يطور الشكل الديموقراطي بما فيه توفير الحماية للمواطنين، الذين بدونهم لا إنتاج وبدون تطورهم العلمي والمهني لا يتطور النمو الاقتصادي والأرباح.
نقد الرأسمالية الناشئة كان أقرب لحلم انساني يراود مجموعة من الثوريين الانسانيين في مرحلة متقدمة جدا من بداية المرحلة الرأسمالية، (يمكن تسميتها بالمرحلة السوداء) كان الخطأ بعدم الفهم إن النمو سيقود المجتمع الرأسمالي الى واقع سياسي واجتماعي ورفاهي غير مسبوق. والى تغيير عميق للغاية بجوهر التركيبة الطبقية للعمال، مرحلة لا شك ليست سهلة، وغير واضحة المعالم بمسارها التاريخي، طبعا أقرت الحركات الشيوعية مواقف وايديولوجيا دون أن تأخذ حقائق أساسية .. ودون ان يجري تطوير المفاهيم بناء على التغيرات العميقة التي بدأت تبرز بقوة واتساع في النظام الرأسمالي وفي تركيبة الطبقة العاملة التي لم تعد مجرد بائعة لقوة عملها من اجل لقمة الخبز، بل أضحت طبقة تكنوقراطية، تكنولوجية ولم تعد الصناعة الرأسمالية تحتاج لعمال سود غير مهنيين وغير مجهزين علميا وتكنولوجيا، فنرى أن الطبقة العاملة تغيرت تركيبتها المهنية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية واتسع مجال عملها نحو وظائف اكاديمية وإدارية واسعة جدا تشمل كل مناحي المجتمع الإنساني. حتى تسمية طبقة عاملة فقد جوهره كما صاغ ذلك ماركس وما زالت الحركات الشيوعية تتمسك دون تفكير بجوهر التغير الذي قلب واقع ومكانة الطبقة العاملة، وأضحت طبقة مجتمع مدني غيرت العلاقات المهنية التي سادت بداية التطور الرأسمالي، أضحت قوة داخل المجتمع الراسمالي تشكل القوة الثالثة في المجتمع، إلى جانب السلطة والاقتصاد برزت قوتها كمجتمع مدني داخل دولها وفيما بعد امتد تأثيرها إلى المجال الدولي.
الفكرة التي طرحها ماركس في كتابه “رأس المال” في أواخر القرن التاسع عشر حول الطبقة العاملة (البروليتاريا) لم يجر تطويرها بناء على فهم التغيير الاجتماعي الهائل الذي أحدثه الانتقال الى الاقتصاد الرأسمالي الصناعي المتطور علميا وتكنولوجيا والذي ضاعف الثروة الاجتماعية مرات عديدة، عجز عنها الاقتصاد الاشتراكي لأسباب عديدة تحتاج الى مقال خاص.
أما الشيوعيين فقد واصلوا التهريج باتهام الرأسمالية باستغلال الضعفاء، وخلق اغتراب اجتماعي، ونهج غير انساني ومدمر للمجتمع .. متجاهلين ان الرأسمالية كانت تحقق إنجازات اجتماعية ورفاه إنساني غير مسبوق يتجاوز النظام الاشتراكي بنسب كبيرة جدا.
كان تجاهلا تاما من أن الأسلوب الاقتصادي الوحيد الذي عرفته الإنسانية (الرأسمالية في بداياتها) حيث الثراء لم يكن بالنهب (كما كان حال المجتمع الإقطاعي) إنما بالإنتاج والتجارة (طبعا باستغلال قوة العمل، هل من طريقة عبقرية أخرى لدى المنظرين الماركسيين؟). هنا بدأ ينشأ داخل المجتمع الرأسمالي نظام دولة يوفر شروطا أولية لحماية الإنسان وحقوقه، كشرط لحماية النظام نفسه. طبعا تلك كانت البدايات، لكن لم يجتهد المنظرين الاشتراكيين بفهم مجراها التاريخي، واتجاهها نحو بناء مجتمع ديموقراطي يضمن بقوانينه حماية حقوق هامة للعمال والمواطنين عامة. وتواصل التعامل مع المجتمعات الرأسمالية بنفس الذهنية المشوهة التي سادت المرحلة المبكرة للرأسمالية التي تناولها ماركس في نظرياته عن مجتمع رأسمالي لم يعد قائما بنفس التركيبة التي عالجها.
النظام الرأسمالي لم يكن نظاما يستند الى نظريات مسبقة جاهزة، النظريات الاقتصادية للنظام الرأسمالي جاءت بمرحلة متأخرة من بداية بروز الإنتاج الرأسمالي.
الرأسمالية نظام تطور ويتطور ضمن الممارسة والتجربة، مما يلزم المفكرين الماركسيين بالأساس، الى إعادة عقلنة الكثير من المفاهيم التي ثبت بالتجربة أنها بعيدة عن الواقع الرأسمالي كما ارتسم بالأدبيات الماركسية في القرن التاسع عشر والعشرين وبعضه متداول بعقلية مغلقة حتى أيامنا
ان تواصل النظر اليه حتى اليوم من قوى تسمى باليسار، وخاصة اليسار الماركسي، بطريقة سلبية جدا لا تتمشى مع الواقع، رغم اني على قناعة أنه لا شيء كامل تماما في المجتمعات الرأسمالية .. لكن بالمقارنة مع النظام الاشتراكي، التفوق الحاسم كان للرأسمالية، ليس فقط بتطور نظام ديموقراطي، بل بمضاعفة الثروة المادية للمجتمع التي وفرت شروطا لم تنشأ اطلاقا بالنظام الاشتراكي من حيث مستوى الحياة والحرية الشخصية.
اعتقد أكثر من ذلك ان اكتشاف ماركس للقيمة الزائدة، لم يكن اكتشافا عبقريا، لأنه مسألة تلقائية لكل انتاج كان، ولا يمكن إحداث نهضة اقتصادية بدون المردود الذي يسمى بالقيمة الزائدة ــ وللتسهيل تعالوا نسميها الأرباح، هل من منتج ومستثمر وتاجر يبني يوظف أمواله بدون حساب الأرباح والقيمة الزائدة على رأسها؟ وواضح ان منتجي القيمة الزائدة هم العمال، وهذا أمر بجوهر تطور النظام الرأسمالي كبديهة من البديهيات.
يواصل اليسار الماركسي الترديد بشكل ببغاوي لصياغات لم يعد لها مكانا في عالمنا الذي تسوده الرأسمالية اليوم، بصفتها النظام الاقتصادي والسياسي الوحيد الذي يواصل التطور ويوفر نظاما ديموقراطيا، رغم كل السلبيات التي يمكن سردها (وهي كثيرة).. لكنها مهما كانت تلك السلبيات، إلا أن ما كان يجري في الأنظمة الاشتراكية، كان أكثر سوءا وإستبدادا وقمعا بما لا يقاس .. لذا سقطت الاشتراكية وسادت الرأسمالية .. ومن المهم الإشارة ان رأسمالية اليوم ليست رأسمالية ماركس من القرن التاسع عشر. وهنا الفرق العظيم!!
أقول بوضوح، وهو قول أولي، إن الأسلوب الرأسمالي، اثبت انه الأسلوب الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الأفضل والأكثر عدلا ورقيا ودفعا للمجتمعات نحو الرفاه الاجتماعي من أي نظام اشتراكي منافس. والدولة الرأسمالية في النظام الديموقراطي، بظل تنامي قوة المجتمع المدني، أخذت على عاتقها (والأصح فرض عليها لصيانة نظامها) توفير الحماية الاقتصادية للمواطنين، وهذا ما يجب أن يتطور أكثر.
من ناحية إنسانية أيضا، الرأسمالية كنظام اقتصادي وسياسي، كانت الأكثر عدلا، لا يمكن الحكم على بدايتها، مرحلة المانيفاكتورة مثلا، او الصناعة ببداياتها. ارتكبت تجاوزات مؤلمة؟ أجل .. لكن البداية لا تشكل اليوم قاعدة فكرية لكيل التهم لنظام يوفر الرفاهية والديموقراطية والأمان لمواطنيه… حتى لو تضاعف مردوده من “القيمة الزائدة” لأنها بحد ذاتها تشكل ثروة اجتماعية يوظف جزء كبير منها، عبر النظام الضريبي لضمان نظام رفاه اجتماعي ومختلف التأمينات الصحية والاجتماعية.
واجب الدولة يجب أن يتعمق أكثر دورها بأن تكون الضامن باتجاه توزيع عادل للثروة الاجتماعية. هنا يجب أن يبرز دور اليسار الاجتماعي من تعميق التوزيعة الاقتصادية بشكل أكثر عدلا. ومن هنا اقول لا يهمني اسلوب الانتاج رأسمالي او اشتراكي، بل الجوهر يبقى بالتوزيع العادل للثروة الاجتماعية.
الأنظمة الرأسمالية المتطورة أصبحت قبلة لجميع المضطهدين والمقموعين والفقراء، لذا رجال العلم والأبحاث يهجرون أوطانهم المتخلفة باقتصادها ونظامها الديموقراطي إلى البلدان الرأسمالية المتطورة.
في قول مشهور من عام 1994 للرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون حول الصين، التي عمليا تخلت عن مبادئ المفاهيم الاشتراكية في الاقتصاد وتطبق نظاما رأسماليا لا يخجل أكثر الدول الرأسمالية تطورا (اقتصاد السوق) قال:” القوة الاقتصادية الصينية اليوم، تجعل محاضرات الولايات المتحدة للصين عن حقوق الإنسان عملاً وقحاً، وفي خلال عقد من الزمان لن يكون لها لزوم، وبعد عقدين ستكون شيئاً مضحكاً”.
إن انتشار الديمقراطية، لن يتحقق بظل غياب التنمية الاقتصادية، ولا اعرف اليوم تنمية أفضل وأكثر انطلاقا من الأسلوب الرأسمالي.
بالتالي نجد اليوم أن مساحة الديمقراطية تتعمق مع تعمق النمو الاقتصادي وتطور العلوم والتكنولوجيا وازدياد قوة الدول الاقتصادية وانعكاس ذلك على مكانة المجتمع المدني والرقي الحضاري للمجتمع.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت