- قصة قصيرة : * للكاتب /عبدالحليم أبوحجاج
سمعتُ الشوارعَ المنسيَّة تئن وتنتحب، ورأيتُ البيوت في قريتي قبوراً يلفها ثوب الظلام ويبكيها السائحون. السكون يرتع في أنحائها، والوَحشة تسري بين أطنابها، لا ساكنين فيها ولا قيام، فكلهم نيام، وكلهم يتكومون فيها عظاماً فوق عظام. قريتي مغلَّقة الأبواب؛ قد انزلقت مفاتيحها في قاع بئرعميقة، وهي ما زالت تتوجع من طول الانتظار، ومن حُرقة الحنين لغرباء غادروها ولمَّا يعودوا بعد.
في الصباح تستيقظ قريتي ريحانة تتمطَّى، تتنسم الهواء المغادر من فوق حقول السنابل، ثم تغتسل بالندى، وتنفل شعرها بفوضوية تسرُّ الناظرين، وتكحل عيونها، وترسم على شفتيها بألوان الورد ابتسامة تحتضن الحياة، وترسلها إلى محبي الحياة. وحين تنهض قريتي وتُطل على ضفاف الدنيا تسمع نبأة حزينة، فتشرئب فيها أعناق الأسئلة، فيتساقط الموت مع قطرات المطر، وتمتلئ الشوارع والساحات بأشباح الخوف وروائح الدمع. ويختفي الأحياء إلا من كهنة السياسة، وأصحاب العمائم واللحى، وعواهر أخرى مهجَّنة؛ تتناكب وتتزاحم وهي ترتقي درجات اللذة في سباق محموم، بُغية الجلوس على العرش.
كل شيء في قريتي هادئ وجميل، وكل هوائها نسيم عليل، وكل ما فيها كان مضاء بشموع البهجة، فليلها نهار طويل تتسامر في سمائها النجوم والأقمار بأحلى الحكايات. وفي غفلة من الزمن ينصرم عنها الماضي، ويحتضر نبض الصور، ولم يبقَ فوق حاجبيها إلا بصماتٌ لحوافر خيل أصيلة كان قد تركها الفاتحون الأوائل الذين انطلقوا وهم فوق متونها إلى مدائن أصبهان وأدغال السودان وجبال الصين والهند والباكستان، وشواطئ بلاد الأسبان .
قريتي اليوم تتشح بالسواد، وتردد ترانيم الغُربة. قد صارت قطعة لحم مشوية على قصعة شهية ، يتخطفها الآكلون، وكان لكل منهم نصيب، ولرجال الإصلاح في" أوسلو " نصيب، ولم يتبقَ لأهل قريتي إلا نصيبٌ من كذبة كبرى: غزة " سنغافورة " الشرق الأوسطي .
صدَّقنا كُبراءنا فهلَّلنا ، سحَّجنا، طبلنا ، زمَّرنا، غَنَّيْنا، ورقصنا في الشوارع المغسولة بدموع الثكالى والأرامل، نستقبل الفاتحين بأحلى الألحان وبأجمل الورود، ونودِّع المحتلين بالحَمام الأبيض وهو يحمل في مناقيره أغصان الزيتون، ليرانا المشاهدون عبر شاشات التليفزيون، لعلهم يصدقون أننا بشر مثلهم، نستحق الحياة .
ومرت الأيام ... وجاءت أيام ، وانكشف الغطاء عن وجه صُبحنا ، فانتبهنا إلى أنفسنا ، فإذا نحن حُفاة عُراة جوعى، مجردين من كل ما يستر انحطاط عيشنا، فلا يُرى فينا شيءٌ مما تعارفتْ عليه آدمية الإنسان في إنجيله الحقوقي.
- ماذا حدث؟.
- لقد تخلى عنكم الأشقاء والأصدقاء، الأقرباء والأباعد.
- إذاً أعيدونا إلى ما كُنا عليه قبل مجيئكم إلينا؟.
- لا تختصر حياتك بضياع وقتك، فلا عودة للأموات.
- وسنغافورة؟.
- أما زلتَ تذكرها؟!.
- لا أذكر منها إلا الاسم والوعود.
- اِنسَها.
- ببساطة؟.
- كانت أكذوبة.
- ومَن أطلقها؟.
- بل قل: مَن اصطنعها؟.
- مَن هو؟.
- لا تسأل.
- أليس من حق من يسدد أقساط الوهم أن يسأل؟.
- مَرَّ الكثيرون ولم يسأل أحد إلا أنت.
- يا خسارة!.
- يحسن بك ألا تأسَى على شيء مضى، واقبَلْ بحكم الأقوياء.
- هذا ظلم.
- غيِّرُه إن استطعت!.
- ألا تُقِرُّ أنه ظُلم؟.
- دعكَ من المعايير النسبية، فالظُلم عندك هو عدل عند غيرك، وصرخات توجعك هي زغاريد تشنِّف آذان غيرك، وجراحُك النازفة هي شموع تضيء عتمة النفس عند غيرك، وانظر إلى نفسك ؛ فأنت تشرب كَدَراَ وطينا، وغيرك ينتخب كؤوس الويسكي المعتقة .
- وسنغافورة ... ما خبرها؟!.
- صارت صومال.
- وهل كُنا على ضلال؟.
- بل كنتم مغفلين...انضحك عليكم.
- كأنها أسطورة!.
- هي كذلك، واعلم أن الأسطورة قصة مستحيلة التحقق بالمنظور العقلي؟.
- إذن قصتي مستحيلة التحقق؟ .
- ها أنت بدأتَ تفهم.
- يا لأحزاني!.
- لا تولول.
- ألا تريدني أن أرثي حالي بعد انصراف البواكي عني؟.
- اطمئن فحقوق الحزن محفوظة.
- ولكني خرجتُ من القبر بكفالة " أوسلو". فلِمَ تخلتْ عن شرفها؟ .
- ستعود إلى قبرك هذه المَرَّة بكفالة " المقاطعة " مدفوعة الضرائب.
- وغزة، ما مصيرها بعد أن تهشَّم وجه الوطن؟.
- غزة ! لمن غَلَب .
- وهل فينا غالب ومغلوب؟ .
- بل فيكم قاهر ومقهور، سارق ومسروق.
- وأين أذهب؟.
- أنصحك أن ترجع إلى قبرك، وتوفرعليك عناء الكشف عن شخصيتك.
- وهل يقبل رجوعي إليه؟.
- جرِّبْ، فموتك يا صديقي أفضل، وأنت تستحق موتاً أفضل.
- وهل برأيك ينفع التجريب؟.
- أظن ذلك! . ما دمتَ بلا ذاكرة.
- يا حيف عليك! أتجردني من ذاكرتي أيضاً؟.
- بل هم الناهبون وأنت عنهم راضٍ؟.
- أنا ؟! مستحيل أن أكون كما تصف .
- نفيك هذا يؤكد أنك صاحب ذاكرة منهوبة .
- إذن دعني أبحث عن تربة صالحة أغرس فيها شجرة .
- التربة إن لم تستصلحها بفأسك، لا تعيش ولا تنمو فيها شجرة .
وحين جاء الموت يزورنا تذكرت قريتي، وأخذتُ أَعدُّ على أصابع يديَّ كم مرة ماتت، ثم قامت منتصبة القامة مرفوعة الرأس، تنفض عن حواكيرها تراب الصمت، ويملأ صدرها حب الحياة، وهي تغني: سوف أحيا رغم الداء والأعداء ورغم الأقرباء والأنسباء... يريدون موتي، وأنا أريد الحياة، وستبقى راية فلسطين علماً واحداً يرفرف في سماواتنا رغم الداء والأعداء والأقرباء والأنسباء، ولسوف أبقى أنا وقريتي أحياء يرزقون، والأجنة في بطون أمهاتنا ستعيد دورة الحياة، فلا ولن تُنسى بيَّارات وبيادر قريتنا، سنستردها يوماً وسنرجع حتماً إليها.* ا.هـ النصيرات 5 / 6/ 2021 *
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت