- صالح حمدوني
- فوتوغرافي وكاتب من الأردن
منذ أكثر من عقديْن عَمَد بعض الأدباء والفلسطينيون منهم خاصة إلى إنتاج أدب يقدّمون فيه فكرتين متلازمتين : الأولى أنسنة العدوّ والثانية ـتقديم الحالة الفلسطينية في إطارها الإنساني البحت .
في الأولى تمحورت الفكرة حول أن العدو بشر عاديّ و ليس قوة لا تقهر ، وأن حياتهم الطبيعية تستحق الإهتمام و بالتالي تستحق الحياة و الاعتراف بها ، ذهبت هذه الفكرة بالمحصلة إلى محاولة كسر الحاجز النفسي مع العدو الصهيوني . تجلّى ذلك لاحقًا في الانفتاح على الإذاعات الصهيونية مثلا ، وعلى صفحات التواصل الاجتماعي الصهيونية و من ثم شاهدنا موجات التطبيع المتتالية .
في الثانية : تقديم الحالة الفلسطينية في إطارها الإنساني البحت . عمد هذا الأدب إلى التركيز على التفاصيل اليومية لحياة الفلسطيني وحقّه في الحياة الطبيعية بعيدًا عن مفاهيم الفعل اليومي المقاوم و ضرورة المواجهة و أصبح مفهوم الحقّ الفلسطيني يبتعد شيئًا فشيئًا .
رسم فنان الكاريكاتور الشهيد ناجي العلي لوحة فيها فاطمة تعلّم أبنائها : الدجاجة لها بيت اسم بيت الدجاجة القنّ الأرنب له بيت اسم بيت الأرنب الجُحر الحصان له بيت اسم بيت الحصان الإسطبل الكتائب اللي ذبحوا ولادنا في المخيمات إلهم بيت اسمو بيت الكتائب امريكا اللي بتدعم اسرائيل إلها بيت اسمه البيت الأبيض الفلسطيني يسكن المخيمات و ما عندو بيت ، بيت الفلسطيني اسمه بيت المقدس كيف بيعود الفلسطيني لبيتو بالوعي و و . غسان كنفاني الشهيد و القائد ركّز على الوعي في كل نتاجه الأدبي و البحثي ، وعي الواقع و التاريخ ، وعي الهزيمة و الموقف . وعي الإنسان و القضية .
على النقيض من أدب " الأنسنة التافهة " ، يأتي أدب أحمد أبو سليم .
الواقع الذي نعيش فيه يُثير الغضب .
من لا يغضب منه هو متبلّد الإحساس ومشوّه الوعي و " متَمْسِحْ " .
وأحمد يغضب بوعي ، غاضب ويُصرّ على محاولة تفكيك هذا الواقع لفهمه ونقده ، للوصول إلى طريق الخلاص .
في رواياته السابقة ، ينظر أحمد الى الواقع في كلٍ منها من زاوية مختلفة ، بعيداً عن تقديس الواقع أو التاريخ أو التجربة الفلسطينية وشخصياتها .
يسأل أحمد أبو سليم في بداية الرواية : " هل يمكن للذاكرة أن تُصاب بالصدأ أو تهترئ ؟ " . هذا السؤال هو الإجابة .
الذاكرة في معناها الفلسفي العميق هي محرّك الفعل ، أو لنقل هي صانعة ردّات الفعل . ماذا يعني أن تزخر الذاكرة بالمجزرة ؟ ، ذلك يعني بالضرورة العمل للتخلّص من أسبابها وآثارها ، من كلّ ما أدّى إليها وبها ومعها . وهذا يعني أيضا : كيف يمكن لذاكرة المجزرة أن تفهم أن العدوّ طبيعي ، ويمكن أن تتصالح معه ؟!
أبو سليم في سؤاله الأول يُؤسّس للحاضر عبر تقديم سردية المجزرة التي حدثت يوم 9 نيسان 1948 . وحين ينبش الذاكرة فإنّه يُؤكّـــــد حضورها المتواصل ، " الذاكرة انتقائية تُخزّن أحداثاً بعينها ، تُراكمها ، لتُشكّل فيما بعد حقيقة هويّتنا " ص9 .
في البوح والمكاشفة يحرر الراوي ذاته ، ويحرر أبطاله من هواجسهم التي تكبّل أفكارهم . مواجهة الحقيقة تحرر الذات وتضع العقل أمام حالة الوعي مباشرة . " أنا تحررت من نفسي ، وما تبقّى الآن ، ربما ، أن تتحرر نفسي مني ." .
هذه المواجهة مع الوعي ، تثير سؤال : " ماذا لو عادوا الآن وكسروا الباب ؟ ماذا لو تذكّر جنديّ ما أنه نسيَنا في خضم انشغاله بالقتل ، فعاد كي يُنجز تلك المهمة إلى هنا ، إلى المخيم ؟ " ص12 .
استند أحمد أبو سليم في روايته على وقائع موثقة في عدد من المصادر ، مذكرات المناضل الكبير بهجت أبو غربية ، المؤرخ وليد الخالدي ، وعدد من الحكايات الشخصية لفلسطينيين ، إضافة إلى ما رشح من الأرشيف الصهيوني ، والذي للآن لم يُكشف عن جزء كبير منه .
في الفصل الأول من الرواية ، يُسيطر إيقاع الموت ، رائحة البارود ، صراخ الأطفال والنساء . كمّ هائل من الدم يُغرق الصفحات ، وربما " يطَرْطِش " على وجه القارئ .
ياســـين ، الشخصية الرئيــــسة في الرواية ، من يـــسرد ذاكرته ، ولد قبل المجزرة بثمانية أيام مع شــــقيقه التوأم أمين . أثناء المجزرة ، لاحظت مجندة الشبه بينهما ، " فقرّرت تغيير قواعد اللعبة ، كان ذلك قبل رمـــي من تبقّى من الأطفال من فوق السور . سألت عن إسمينا ، ثم راحت تسأل أمي :
- كيف بوسعك أن تميّزي بينهما ؟
- رائحة الأمومة لا تُخطئ .
غطّــتا عينيها بعُصابة وأحكمتا ربطها . وضعتنا جميعاً أمامها ، ما تبقّى منا ، سبعة أطفال ، من منهم ياسين ؟
ربما اختارت واحداً غيري ، وقبل أن يفكّوا العصابة عن عينيها كانت أجساد الآخرين تطير في السماء وتهوي نحو الوادي ، وجبريل متعب وهو يقود الأرواح نحو الجنّة بلا توقف .
أمهلوها عشر ثوان لتحمل الناجي الوحيد – أنا – وتركض به . " ص31-32
هنا ندخل في الإحتمالات ، في محاولة متكررة عند الروائي ، لإعادة صياغة مسار التاريخ والتجربة ، عبر اقتراح أسئلة "ماذا لو" ...
في مصادفة نجاة ياسين : من هو ياسين ؟ ابن من ؟ . إنه ابن المجزرة ، احتمال واحد على 7 أو 10 أو ألف . ابن الذاكرة والصدفة . وبما أن المجزرة مستمرة ، فهو قد يكون أنا أو أنت أو أي أحد غيرنا .
حدثت المجزرة بعد استشهاد القائد عبد القادر الحسيني ، والذي بسقوطه سقطت القسطل ، وسقطت دير ياسين ، ومن ثم سقطت فلسطين كلها ... واستشهاد عبد القادر جاء بعد رفض الزعامات العربية تزويده بالسلاح .
المشهد واضح ، والتاريخ واضح ، والمؤامرة واضحة .
تأسست ذاكرة ياسين ، ابن الثمانية أيام حين نجا من المجزرة ، عبر ذاكرة أمّـــه التي نجت بعد بتر ساقها في المجزرة برصاصة جندي ، وعبر سيرة خاله الذي نجا أيضا بعد قطع لسانه واغتصاب زوجته ياسمين بشكل متكرر ووحشي على يد 40 جندياً من العصابات الصهيونية .
" كانت المجزرة حكايتنا الليلية التي لا تنتهي أبداً " .ص87
لأن المخيم ناتج عن المجزرة ، أو هو وجه من وجوه المجزرة ، فإن السارد يؤرّخ له بالحدث السياسي والإجتماعي :
- قبل وصول الكهرباء إلى المخيم .
- حين سقط أحد طلاب صفي في إحدى الحفر الإمتصاصية التي تقع آخر المخيم .
- حين جاء موظفو الأونروا ليحصوا الأسر ، لإصدار بطاقة المؤن . " في تلك الأيام بالذات عاد أمين – شقيقي التوأم – إلى قيد الحياة ، وأصبحنا هو وأنا نفرَيْن مسجّلين في كرت المؤن ." ص92 ، " من يدري ، ربما عادت دير ياسين كلّها في بطاقات المؤن ، ربما فرح الموتى قليلاً بعودتهم " ص94 .
- حين كان الاستماع الى صوت العرب تهمة .
- حين أُعلِنَت الهزيمة ماتت أمي ، التي كانت قد جهّزت بقجة أمتعتها بإنتظار العودة بعد أن أعلن عبد الناصر " حنحارب " .
بعد الكرامة ، يقرر ياسين الإلتحاق بالعمل الفدائي ، " فإن كان ثمّة ذكرى للمجزرة فعليّ أن أعمل جاهداً لتكون هناك كفّة أخرى ، كفة ذكرى محو المجزرة " . ص135 .
ولمحو المجزرة أعاد التساؤلات التي ربما كان من المفترض أن مسار التاريخ :
هل كان بوسعنا تجنّب المجزرة ؟
هل كنا سنبذل جهداً كي لا يموت عبد القادر الحسيني ؟
هل سنحصّن دير ياسين جيداً أو نستعدّ للمواجهة جيداً ؟
هل كنا مخدوعين ، أم كنا عاجزين ؟
لماذا رفض جيش الإنقاذ أن يدخل ؟ وماذا لو تدخل ؟
هل كانت المجزرة قَدَر ؟
طردوا ياسين من المعسكر مرتين بسبب مرضه ، أو بسبب رؤيته الأكثر وضوحاً في مؤشرٍ إلى الهزيمة المستقبلية .
كان ياسين مريض بوَرَمٍ في الدماغ يؤدي إلى رؤيته الأشياء مقلوبة .
إن الصورة المقلوبة التي تتشكل في دماغه هي الصورة الرافضة لواقع مهزوم ، بدءً من استشهاد القائد عبد القادر الحسيني الذي ارتكبت المجزرة بعد يوم من استشهاده .
مقابل هذه الصورة ، يورد أحمد أبو سليم كل تفاصيل المجزرة وكأنه يحاول أن يبني في ذاكرتنا صورة التناقض بين من شُرّدوا من أرضهم ، ومن يسعى لبناء مدينة فاضلة قائمة على الموت والتنكيل والإستباحة . " كنت افهم هذا وأعيه تماما ، فنحن على كل حال نقيضان مهما بدا الأمر غير ذلك ، إنهم يحتفلون بعيد استقلالهم يوم نكبتنا " .ص209 .
" لماذا نُقيم كل عام نُصُباً للمجزرة ؟ لنعلم أبنائنا ؟
نحن لا نعلمهم ، نحن نعيد إشباعهم بها .
لا أحد يقيم مَلْطَمة كل عام إلا المهزوم . سنصبح ذات يوم مهزومين ، لأنني أرى صور الضحايا على الجدار كل عام . ولا أرى صور من قاوموا واستشهدوا وهم يدافعون عن القرية كي لا يصبح الضحايا ضحايا.
العالم لا يُعطي أوطاناً ... حين أشفق علينا العالم عاملنا كضحايا وأعطانا طحيناً وخياماً .
ربما آن الأوان كي نخرج من البرواز ، من صورة المعركة إلى المعركة ، من صورة الوطن إلى الوطن .
المفتاح صورة مشوّهة للبيت ." ص232
في هذا الإحتجاج ، الذي جاء على لسان طالبة جامعية ، تحتجّ على معرض يستذكر النكبة والمجزرة ، يتجلّى وعي الهزيمة ، وعي الهوية ، والإيمان بحتمية الإنتصار .
لذا ، أعتقد أن العملية الجراحية الصعبة التي كانت مقترحة لياسين لتخلّصه من مرضه ، هي عملية مقترحة لنا نحن . نحن أبناء المذبحة المستمرة بكلّ الاشكال والوسائل والأوات ، علينا أن نعيد صياغة وعينا ، لنقول بوضوح وجديّة : إن هذا العدوّ الذي أسّس دولته على أشلاء شعبنا ، لا يمكن أن يكون طبيعياً بيننا .
قرار ياسين بالتخلّي عن كل ما يُثقل ذاكرته ليس تخلياً ، إنما وعياً بالهزيمة المستمرة ، ورفضاً لها .
إن عُرْيَـــــه إشارة إلى نزعِه كلّ الوعي الزائف الذي بُثّ في أذهاننا لنعيش المجزرة بسلام .
" رميتُ بكل شئ إلى الخارج بلا أسف .
وتركتُ البيت فارغاً ، وبقيت أنا الحقيقة الوحيدة فيه :
أنا وصورة خالي مع عبد القادر الحسيني وبهجت أبو غربية بسلاحهم " . ص240
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت