- بقلم تأييد زهير الدبعي
هز في الرابع من آب من العام الماضي، انفجار عنيف مرفأ الحبيبة بيروت، وجاء الانفجار كاشفا عن فظاعة الفساد المستشري في بلد كان يلقب بسويسرا الشرق، ربما أصبح الرابع من آب يوما دخل التاريخ اللبناني لا وبل العربي والعالمي لوطأة آثاره التي لم تقتصر على الضحايا المباشرين للانفجار من قتلى وجرحى، ولا على الأضرار المادية الجسيمة، بل على الضحايا غير المباشرين الذين يعانون الصدمة ويتجرعون مرارة شعور متزايد بالظلم والقهر، مما دفع بنسبة ليست قليلة من اللبنانيين للبحث عن بلد آخر، بعد أن أفقدهم الانفجار آخر أمل كان لديهم في مستقبل أفضل في لبنان الذي يستحق ويستطيع أن يكون أفضل وأسمى وأبهى.
حدث الانفجار في مرفأ بيروت في الرابع من آب من العام 2020، وسبقه في التاريخ نفسه قبل سبعة عشرعاما من الحلم، انفجار آخر حدث في قلب إنسان مقاوم، وحدث مثله في قلب أهله ومحبيه. ففي الرابع من آب من العام 2004، أمرت أمنا الحياة أبناءها بالتوقف لدقيقة إجلال وصمت، فلم يخفق طير بجناحه، ولم ترفرف فراشة بجانحيها، وانسحبت السناجب إلى جحورها، وعادت الزرافات إلى بيتوها، ولم تزأر الأسود، ولم تغادر نحلة قفيرها، ولم تهطل قطرة مطر، وانسحبت الغيوم لتجعل لهيب آب أكثر حريقا. ففي هذا اليوم حزنت أمنا الأرض على ابنها، ابن الحياة، الذي أمضى سنوات عمره الندي، في مقارعة محتل فرض نفسه على الشعب الفلسطيني، فقرر واعيا مختارا أن يكون ابن هذه الأرض ابن فلسطين "أم البدايات وأم النهايات"، وأن يقدم نفسه وعمره قربانا لها ولحريتها. ولأن الحرية فكرة ومبدأ، امتشق فكرته ومبدأه وسار شامخا في الوطن، مقاوما بما كان يحمل من فكر وقوة وايمان.
كان هو ومن سار على دربه من أبناء فلسطين الذين حملو وطنهم في قلوبهم قبل أن يحملهم على ترابه، وقرروا أن يقولوا لا للمحتل. عرفتهم مخابرات الاحتلال بسرعة، وأصبحوا من يطلق عليهم الاحتلال "مطلوبين" و"مخرِبين" وغيرها من المسميات. عانوا من مرارة البعد عن الأهل والجوع والبرد والتشرد بين الجبال والمنازل المهجورة، خوفا من أن يكتشف الاحتلال أمكنتهم فيقوم باغتيالهم أو اعتقالهم.
كان وجدي يعلم مصيره، "إما استشهاد أو اعتقال" خياران أحلاهما مر، سار نحوهما "مرفوع الهامة منتصب القامة"، رافضا عروضا قدمت من أهل يعتصر قلوبهم الخوف على ابنهم بأن يتوقف عن المقاومة ويختبئ، فربما يكون ذلك سبيلا وحيدا للنجاة من مصير محتوم.
إذا كان هذا هو مصيري فأنا ذاهب إليه وأنا فاتح ذراعي لعناقه، لأن هذا المصير ليس إلا ثمنا بخسا لحرية أمنا فلسطين وربما يؤسس لنهاية معاناة هذا الشعب الذي آن لها أن تنتهي، "هكذا قال".
اعتقل وجدي عزمي جودة في الرابع من آب من العام 2004، وهو يعلم أن انغلاق باب السجن خلفه يعني أنه قد فعل شيئا يستحق أن يقدم لفلسطين.
ثمانية عشر عاما مضت، ولا زال على قيد الوطن، نال وهو في محبسه الدرجة الجامعية الأولى في العلوم السياسية، ومثلها في التاريخ، ويعكف على دراسة الدرجة الثانية في العلوم السياسية أيضا. قارئ نهم، كتب عن الحب والجمال والسياسة والوطن. رغم الانفجارات الصغيرة التي تحدث داخله كل يوم، 6570 يوما من الأسر، لم ييأس يوما، ولم يندم يوما.
6570 يوما من الحلم والأمل والتشبث بالحياة، لأن الحرية هي الحياة، فاعتقال مناضل في سبيل حرية شعب ليس إلا شمعة تنير طريق الحرية للأجيال القادمة.
لماذا لا يسمع العالم صوت تلك الانفجارات الصغيرة في قلوب خمسة آلاف معتقل فلسطيني لم تتوقف انفجارات حب الوطن في أفئدتهم ، ولم تنطفئ في دواخلهم جذوة المقاومة. يربون الأمل بالحرية، حريتهم من سجون الاحتلال الصغيرة، وحرية شعبهم من سجن الاحتلال الكبير.
وجدي في ذكرى اعتقالك الثامنة عشر، وفي لحظة ذكرى لكل معتقل فلسطيني، الذين لو جمعنا سني أعمارهم في السجن لوصلت آلاف السنوات، خمسة آلاف حياة، يأسرها الاحتلال، من محابسها، من النقب والدامون ومجدو وجلبوع وهداريم، وكل سجون الاحتلال بمسمياتها البشعة، تبث الأمل والعزيمة والقوة. وأمام عنفوانهم، وعجزنا نقول لهم أنتم الأكثر حرية منا جميعا، وأنتم الأشجع والأجمل.
وجدي ابن الحياة، ابن فلسطين، في ذكرى اعتقالك الثامنة عشر، اعتقلت من أجل فكرة، وإن استطاعوا حبس جسدك فإن الفكرة لا يمكن أن تحبس أو تفنى أو تموت.
ولأنك جسًدت فكرة، فستفتح الحياة ممسكة بيد الحرية أبواب السجن لك، وتقبلانك ثمانية عشرة قبلة، وتقولان لك أنت ابننا فهنيئا لك دخول كتاب العظماء الذين ضحوا من أجلنا ومن يضحي من أجلنا لن يكون إلا منتصرا أبدا
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت