- بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
لا يمكن لثورةٍ أن تصل إلى مبتغاها، وتحقق الغايات التي انطلقت من أجلها وضحت في سبيلها، وتنتصر على عدوها وترغمه، وتتغلب عليه وتطرده، ما لم تكن أهدافها واضحة، وخططها محددة، ومسارها دقيق، ومنهاجها نظيف، وأساليبها موثوقة، فوضوح الرؤية وتحديد الأهداف، والتمسك بها والثبات عليها، والبعد عن التشتت والفوضى، ورفض المساومة والتخلي عن العروض، ضرورة ماسة لتحقيق النصر، وشرطاً أساسياً لنجاح الثورة والحفاظ على مكتسباتها، وإلا عُد القتال عبثياً، والنضال تزجية وقتٍ، ووسيلة للتكسب والبقاء، وأعتبر خيانةً للشعب واستهتاراً به، واستخفافاً بتضحياته وهدراً لطاقاته، وتدميراً لأجياله ورهناً لمستقبله.
حركة طالبان، وإن بدت مهلهلة فوضوية، متعددة القيادات متفرقة المراكز، مغمورةً بأسمالها ومتنكرة بأشكالها، إلا أنها كانت واضحة وصريحة، وصادقةً ومباشرة، إذ أعلنت منذ عشرين عاماً وما زالت، عزمها على إخراج القوات الأمريكية وحلفائها من بلادها، ووصفتها بأنها قوة احتلال، غزت بلادهم وقتلت شعبهم، وعاثت فساداً بينهم، فينبغي قتالها والتصدي لها وإخراجها بالقوة، ولم يفت في عضدها أو يضعف عزمها أو يغيرُ قرارها، الفارقُ المهول في ميزان القوى، والتفوقُ الخيالي في الأسلحة والعتاد والعدد.
وصفت طالبان السلطة التي عينتها والحكومات التي نصبتها بأنها قوى الأمر الواقع، وأنها غير شرعيةٍ ولا قانونية، ورأت أنها تابعة للاحتلال ومنفذةً لأهدافه، وأداةً طيعة في يده، وعميلة تعمل عنده ومن أجله، وأن الانتخابات التي جاءت بها وهمية وزائفة، ولا تعبر عن إرادة الشعب ولا تمثله، وهي صنيعة أمريكا وحلفائها وأداتهم القذرة على الأرض، فكما يجب العمل على استئصال الاحتلال وطرده، وتحرير البلاد والعباد منه، ينبغي إسقاط كل سلطةٍ أنشأها، وكل حكومةٍ نصبها، وطرد كل قيادةٍ صنعها، كونها امتداداً لها، وجزءً منه لا تنفصل عنه ولا تختلف، لارتباط مصالحهم وتوافق أهدافهم، وحتمية مصيرهم، وهو ما تبين قطعاً وتحقق فعلاً بعد ذلك.
أخطأت الولايات المتحدة الأمريكية، وكل قوى الاحتلال الأخرى التي تحتل أرض غيرها، وتنتهج نهجها وتفكر مثلها، إذ ظنت أنها تستطيع تقويض إرادة الشعب، وثنيه عن أهدافه، وحرفه عن غاياته، وتزوير مستقبله وتزيين واقعه، وتجبره على القبول بها والسكوت عنها، واعتقدت واهمةً أن الأمر قد استقر لها، وأن العقبات التي تقف في طريقها قد سويت وانتهت، ولم يعد هناك ما يعرقل مشروعها أو يهدد وجودها، ونسيت أن البلاد لأهلها، والشعوب لا تسكت على سلب إرادتها ومصادرة حقوقها، ورهن مستقبلها وتزوير حقيقتها، وأن قوة الاحتلال مهما عظمت وتوحشت، فإنها أضعف من أن تفرض إرادتها، وأوهى من أن تستمر وتحافظ على وجودها، ومصيرها الحتمي وإن تأخر إلى زوالٍ وانتهاءٍ.
حاولت الإدارة الأمريكية بصورةٍ مباشرةٍ وعبر وسطاء ومتعاونين، أن تثنيَ حركة طالبان عن موقفها، وأن تقبل بالتغيير الحادث في بلادهم، مقابل وعودٍ يمنحونهم إياها، وتعهداتٍ يقومون بها، ففاوضت سجناءها في معتقلاتهم، وجلست مع قادتها في مغترباتهم، واستمعت إلى الوسطاء الذين اجتمعوا بهم واستمعوا إليهم، ونقلوا لهم العروض الأمريكية السخية، والأحلام الوردية، والمستقبل المشرق والاقتصاد المزدهر الذي يعدونه بهم ويضمونه لهم، شرط أن يلقوا السلاح ويتخلوا عن المقاومة، ويجلسوا على طاولة المفاوضات ويقبلوا بالحلول المطروحة والعروض الممكنة.
لم تكن حركة طالبان تمتلك غير بندقيتها المقاتلة، وشرعيتها المقاومة، وأرضها التي تقف عليها وترابط فيها وتقاوم منها، ويقينها الذي لا يتزعزع، وثقتها التي لا تضعف، إذ كانت مشردة في الأرض، وتائهة في الوديان، وهاربة فوق الجبال، ومطاردة من السلطات ومستهدفة من الاحتلال، بينما قادتها في السجون والمعتقلات يرزحون في قيودهم، ويعانون في أغلالهم، ورغم ذلك لم تتنازل عن أهدافها، ولم تقبل بالمساومة على حقوقها، وبقيت متمسكة بما أعلنت عنه وانطلقت من أجله وقاومت في سبيله.
لم تجدِ الإغراءات الأمريكية والوعود الأوروبية في ثني طالبان عن هدفهم، وحرفهم عن مسيرتهم، أو تشويه صورتهم وتغيير حقيقتهم، إذ عرضوا عليهم المناصب والمواقع، وقدموا لهم الامتيازات والهبات، والوعود والالتزامات، وراقبتهم الأجهزة الأمريكية في أماكن إقامتهم ومراكز اجتماعاتهم، فرأتهم بأثوابهم البسيطة وأسمالهم الشعبية يتسربلون، وعلى قصعةٍ واحدةٍ وطعامٍ بسيطٍ يجتمعون، وفي مكانٍ ضيقٍ وفراشٍ متواضعٍ ينامون، فلا تهمهم كثيراً تسهيلات الشخصيات المهمة، ولا امتيازات القادة والمسؤولين، بقدر ما كان يهمهم رحيل الاحتلال عن أرضهم، وتحقيق الاستقلال لبلادهم، وقد باتوا يحسنون التفاوض ويبرعون فيه، حسنهم في القتال وإبداعهم في المقاومة، وهو ما أرغم أمريكا على احترامهم ولو كرهاً، والاستسلام لهم، والخضوع لشروطهم، والقبول بطلباتهم.
وضوح الأهداف ضرورةٌ، والثبات عليها قوةٌ، والتمسك بها يفضي إلى تحقيقها، والمساومة عليها والتفاوض حولها يقود إلى الهزيمة والخسارة، ويؤدي إلى ضياع الحق وخسارة الأرض، والتراجع عنها خطوة يعني التراجع دوماً، والتنازل البسيط يقود إلى التنازل الكبير، ولا شيء يغيظ العدو أكثر من طفلٍ يطالب بحقه وهو الصغير، ومن أسيرٍ يصر على أهدافه وهو السجين، ومن لاجئٍ يتمسك بوطنه ويؤمن بحتمية العودة إليه وهو المشتت البعيد، فهنيئاً لشعبٍ صمدت قيادته، وصدقت ريادته، وحملت الراية بقوةٍ وسلمتها بأمانةٍ، وحافظت عليها بشرفٍ وصانتها بصدقٍ، تلك القيادة سَتُحمدُ، وعلى صدقها سَتُشكرُ، وبأمانتها سَتُذكرُ، ويقيناً عليها يتنزل النصر، وعلي يديها يتحقق الظفر.
يتبع...
بيروت في 22/8/2021
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت