- بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
لم يعتبر الإسرائيليون أنفسهم بمنأى عما يحدث في أفغانستان، أو أنهم غير معنيين بها أو متضررين منها، كونها تقع بعيدة عنهم، ولا تشكل خطراً عليهم، ولا تؤثر على أمن كيانهم ولا على سلامة مستوطنيهم، ويلزمها الكثير من الجهد والوقت لتخرج من أزماتها، وتقف على أقدامها، بل وجدوا أنفسهم متأثرين بها جداً، ومتضررين من انعكاساتها كثيراً، ومتخوفين من تداعياتها أكثر، فقد جرت الرياح فيها بما لا تشتهي سفنهم، وبما تتعارض مع مصالحهم، فأقلقتهم على مصيرهم، وأهمتهم على مستقبلهم، ودفعت كبار مسؤوليهم للتعبير عن مخاوفهم، والتحذير من تداعيات الانسحاب الأمريكي الصادم منها.
وصف مسؤولون إسرائيليون كبار الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، بأنه يشبه انسحابها من لبنان عام 2000، وهو الانسحاب الذي مكن حزب الله في الجنوب اللبناني على حدودها الشمالية، وجعل منه عدواً شرساً لها، يهدد أمنها، ويستهدف وجودها، ويعرض مصالحها للخطر، حتى بات اليوم من القوة والتمكين ما جعل أمن الشمال مهدداً على مدى الساعة، إذ يستحيل استئصاله أو نزعه من محيطه ونسيجه الاجتماعي الذي انتشر فيه وتوسع.
لم يخفِ بعض الإسرائيليين حقيقة شعورهم من الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، ووصفوه بأنه انسحابٌ متسرعٌ مذلٌ مهينٌ وفوضويٌ، وأنه تم بالإكراه لا بالتراضي، وشبهوه بانسحابهم من جنوب لبنان، الذي تم بسرعةٍ وخفيةٍ ومذلةٍ، حتى أنهم لم يجدوا الوقت لجمع معداتهم وتفكيك معسكراتهم، والتخلص من بقايا وجودهم الطويل في لبنان، ولعل هذا الصورة منطبعة بقوةٍ لدى الكثير من جنودهم العائدين من لبنان، وهي صورة مؤلمة لا تنسى من ذاكرتهم، ولا تشطب من مخيلتهم، بدليل أن الكثير منهم اضطر لزيارة الطبيب النفسي للجيش لأكثر من مرةٍ، وبعضهم سرح من الجيش ولم يعد صالحاً للخدمة فيه.
لكن وزير الحرب السابق موشيه يعالون كان أكثر صراحةً ووضوحاً عندما قال "إن سيطرة طالبان على أفغانستان سيؤثر على أمن وسلامة بلادنا"، وأضاف "رغم أن أفغانستان تقع بعيدة عنا، إلا أن لسيطرة طالبان عليها تداعيات خطيرة علينا"، واعتبر أن انسحاب أمريكا السريع والمفاجئ من أفغانستان، دون ترتيب الأوضاع فيها أمرٌ مقلقٌ جداً ويضر بهم، رغم أن حكومته ارتكبت الخطأ نفسه في لبنان عام 2000، وانسحبت بالليل بسرعةٍ ودون تنظيمٍ، وخلفت وراءها آلاف المتعاونين معها، دون أن تقوى على حمايتهم أو ضمان سلامتهم، بعد أن عجزت عن نقل أو اصطحاب أغلبهم معها.
وفاقم مخاوفَ الإسرائيليين اللقاءاتُ التي جمعت قيادة حركة طالبان مع قيادة حركة حماس في العاصمة القطرية الدوحة، والتقارير التي تفيد بعمليات التنسيق وتبادل الخبرات بينهم، وحالة الفرح والسعادة التي بدت على قيادة حماس ومناصريها، والتي عبر عنها بيان تهنئتها لحركة طالبان، والرسالة التي أرسلها رداً عليهم رئيسُ مكتبهم السياسي الملا عبد الغني برادر إلى رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الأستاذ إسماعيل هنية، التي أبدى فيها تضامن حركته مع حماس، ودعمها للقضية الفلسطينية، واستعدادها للقتال إلى جانب الفلسطينيين، حتى يحققوا أهدافهم ويحرروا وطنهم.
كما أقلق الإسرائيليين كثيراً الرسائلُ الإيجابية المتبادلة بين حركة طالبان وإيران، التي استضافت قيادتهم، وأكرمت وفادتهم، وأحسنت نصحهم، وحرصت على توجيههم، وقدمت لهم التسهيلات التي تلزمهم، وربما أمدتهم بما ينقصهم، أملاً في تصحيح مسارهم وكسب ودهم، وقد بدا فعلاً أنهما تجاوزا خلافاتهما، ونسيا سنوات الجفاء بينهما، واتفقا على التعاون المشترك والتنسيق الدائم، وحفظ أمنهما وسلامة حدودهما، بما يحقق مصالحهما المشتركة والعامة، وهو ما يغيظ الإسرائيليين ويخيفهم، ويقلقهم من تنامي نفوذ إيران واحتوائها أفغانستان كما اليمن والعراق.
بعض الإسرائيليين يتهمون الإدارة الأمريكية بأنها المسؤولة عن توسيع محور "الراديكاليين"، وأنها بانسحابها غير المنظم، أظهرت ضعفها وأعطت الضوء الأخضر لإيران وحلفائها للحلول مكانها والاستفادة من غيابها، وهو ما من شأنه أن يزيد من قوة إيران ومحورها، الذي يدعو إلى إزال دولة إسرائيل، ويعمل على إرهاقها المستمر وتوترها الدائم، ويبدو من خلال الأيام القليلة الماضية، التي تلت انسحاب القوات الأمريكية، وسيطرة حركة طالبان على معظم الأراضي الأفغانية، أن إيران قد بدأت بنسج علاقاتها مع أفغانستان الجديدة، فأجرت لقاءات حدودية مع طالبان، وأعلنت استعدادها لتزويدها بالكهرباء، والآتي سيكون أكبر وأعظم.
ليس من المستبعد أبداً أن تصبح أفغانستان قاعدة جديدة لحركة حماس على وجه الخصوص، التي ستتعدد فوائدها من سيطرة حركة طالبان عليها، وهي التي التقت قيادتها على مدى سنواتٍ خلال إقامتهما المشتركة في قطر، ونسجت معها علاقاتٍ متينةٍ، يمكن وصفها بأنها طبيعية ومتوقعة، كما أن رصيد حركة حماس سيزيد لدى حلفائها، المعنيين بها والمستفيدين من علاقاتها، والمتطلعين إلى توسيع محور المقاومة، إذ أن من صالح إيران أن تطمئن إلى سلامة أمنها وضبط حدودها مع أفغانستان، وهذا ما يمكن لحركة حماس أن تلعبه بقوة، وأن تحقق فيه نجاحاتٍ كبيرةٍ، تحسب لها وتزيد في رصيدها.
ليس من صالح الكيان الصهيوني أن تتغير حركة طالبان، وأن تصبح حركةً ثوريةً نضاليةً متحررة، وأن تنظم إلى المحور المعادي لها، وأن تتخلى عن صورتها القديمة وشكلها السابق، فلا تتهم بالإرهاب ولا توصف بالتطرف، ولا يعود ينظر إليها العالم على أنها حركة ظلامية متشددة متطرفة، وتتوقف عن عزلها وحصارها، وتبدأ في نسج علاقاتها الدولية وبناء تحالفاتها الإقليمية، وتتمكن من الحصول على الاعتراف الدولي والتعاون الاقتصادي والسياسي، فهذا مؤشرٌ خطيرٌ وإنذارٌ كبيرٌ يتهددها، ويحرض الآخرين عليها، ويشجع "الإسلام الراديكالي" ضدها، فهي عمقٌ جديدٌ للمحور المعادي لها، وهي أرضٌ غنية بالإمكانيات وزاخرة بالثروات، ولديها قدرات عسكرية وتجارب قتالية عالية ومتنوعة.
يتبع....
بيروت في 25/8/2021
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت