- بقلم: د. عصام يوسف – رئيس الهيئة الشعبية العالمية لدعم فلسطين
تثير الأزمة الإنسانية التي تشهد تدهوراً في لبنان تساؤلات حول منهجية أداء مؤسسات العمل الخيري والإنساني إزاء المأساة التي لا يمكن لهذه المؤسسات أن تجد لنفسها الأعذار والتبريرات أمام ضرورات تكثيف وجودها، وزيادة حجم التدخل الإغاثي بحجة تعقيدات تشابك خيوط الأزمة سياسياً، سيما في ظل إشهار "فيتو" دولي بانعكاساته الإقليمية في وجه تقديم الدعم للبنان.
وليس لمؤسسات العمل الخيري أن تنقسم حول فكرة الأولويات الإغاثية، كما هو حاصل في مشهد الانقسام والتشرذم الذي أتى على كل ما هو لبناني، من تخندقات سياسية داخلية، باصطفافاتها الإقليمية والدولية، وبما تحويه المعادلة الداخلية من عناصر الفساد المالي والإداري، والطائفية، والارتباط بالأجندات الخارجية، حيث الضحية في النهاية الإنسان اللبناني البسيط، ودولته بكينوناتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية على حد سواء.
وإن كان من السهل على البعض التضحية بالدولة والمجتمع، وربما الهوية الوطنية، فإن لمنظمات المجتمع المدني، والمؤسسات الأهلية، بما فيها الخيرية أن تلتزم بمبادئها الأخلاقية في الاصطفاف بشكل واضح وصريح، لا لبس فيه، إلى جانب حق الشعب اللبناني، وكل من يعيش على الأرض اللبنانية، بالحياة، سيما وأن الأزمة الإنسانية المتصاعدة باتت تهدد حياة الناس بشكل مباشر، مع وصول ترددات تدهورها لنقص المواد الأساسية كالخبز والدواء ومياه الشرب، وغيرها. لم يكن من المتخيل أن تتخذ الأزمة في لبنان منحى التدهور التصاعدي الحاد، بينما يقابلها صمت مريب للمجتمع الدولي، وكأن هنالك حكم قد صدر بإعدام لبنان، في حين تفصح مظاهر الأزمة عن حجم المأساة الإنسانية، حيث لا كهرباء ولا وقود ولا دواء ولا طبابة ولا خبز، في وقت تقف على الطريق معالم تعطيل العملية التعليمية، وتوقف خدمات الاتصالات والانترنت، وغيرها.
ولسنا في صدد البحث في أسباب وصول الأزمة إلى هذا الحد من التدهور، سواء أكان داخلياً أم خارجياً، بأيدي الطبقة السياسية اللبنانية أم قوى دولية، نتيجة سوء الإدارة واستفحال الفساد أم معاقبة الدولة اللبنانية بسبب ارتباطات القوى السياسية المختلفة فيها بمعسكرين يقفان على طرفي النقيض، فإن الحديث في الشأن الإنساني يختلف في خطابه عن السياسي إذا ما وصلت الأزمة حدود الهاوية، فإن الفيصل يكون بمدى الالتزام بالمبادئ الأخلاقية التي تشكل المحددات والضوابط للعمل الإنساني والخيري بصورته المجردة، والنقية، والنأي بعيداً عن أية استقطابات سياسية أو فئوية أو طائفية أو جهوية، وغيرها، وتكريس الاستقطاب الأوحد إلى جانب الإنسان، ومعاناته، أي كان وأينما كان.
لتجد المؤسسات الإنسانية في هذا الواقع المعقد نفسها أمام تحديد شكل ومنهجيات التدخل الإغاثي، بما يتوافق مع إتباعها للجوانب القانونية المعتادة في عملها، وأهمية تنسيق جهودها بهدف توفير المواد والاحتياجات الأساسية للحياة، والتخفيف من معاناة الناس، ومنع وصول الأزمة إلى حافة الكارثة الإنسانية، حيث لا فرضيات أخرى سوى الإسراع في تقديم يد العون للمحتاجين.
ولتفكيك بنية الأزمة أهمية في تحديد مواضع الخلل، وبالتالي لا بد من تناول لمحات ومحطات رئيسية للأزمة بهدف تحديد طبيعتها وشكلها، في وقت يكاد اللبنانيون يُجمعون بأنهم يعيشون وضعاً معيشياً أخطر مما عاشوه إبان الحرب الأهلية عام 1975، التي استمرت لما يزيد عن 15 عاماً، رغم ما جرته من مآسٍ للشعب اللبناني، حيث حصدت أرواح نحو 150 ألف شخص، بجانب 300 ألف جريح ومعاق، و17 ألف مفقود.
فالكثير منهم بات يردد عبارة "أيام الحرب أهون من هالأيام"، سيما وهم يستذكرون ما عايشوه خلال الحرب في ذكراها السنوية في شهر ابريل الماضي، يؤكدون في مقارنة لأوضاعهم المعيشية الحالية، بأن الغذاء والدواء لم ينقطع خلال فترة الحرب بالشكل المطلق، كما أن الدولار كان متوافراً، والقدرة الشرائية أفضل مما هي عليه اليوم، وعمل المصارف مستمر، على الرغم من المعارك والاضطرابات وتقسيم المناطق طائفيا بين الأحزاب والفصائل والميليشيات المسلحة، في حين إذا ما توافر النقد بأيدي المواطنين اليوم فلربما لا تتوفر المواد والسلع الأساسية كحليب الأطفال والأدوية..وغيرها من الاحتياجات.
ويمكن التأريخ للأزمة بخروج اللبنانيين للتظاهر رافعين شعارات مطلبية اجتماعية، وأخرى تنتقد الطبقة السياسية نتيجة تقاعسهم عن إنقاذ البلاد من الأزمة المتدحرجة، وإيصالها حد الشلل السياسي، وقد صنّف "البنك الدولي" أزمة لبنان الاقتصادية والمالية من بين أشدّ عشر أزمات، وربما من بين الثلاث الأسوأ منذ منتصف القرن التاسع عشر.
وبحسب التقارير الاقتصادية الصادرة عن منظمات دولية، فقد خسر عشرات الآلاف وظائفهم أو جزءاً من رواتبهم، وتراجع سعر صرف الليرة أمام الدولار تدريجياً، وبات أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر، وارتفع معدل البطالة، في أقل من عامين، لتكمل حادثة التفجير في مرفأ بيروت رسم قسمات البؤس على وجه لبنان الجميل، وتكون علامة فارقة أخرى في الأزمة المنفتحة على كل الاحتمالات، بعد اكتمال المشهد بالشلل السياسي الذي أحدثته استقالة الحكومة لينفتح الباب واسعاً أمام المناكفات السياسية، وكَيل الأطراف الاتهام لبعضها البعض تاركين سفينة البلاد في حالة الغرق التدريجي.
انفجار صهريج الوقود في قرية التليل في منطقة عكار، بدا كإفراز لتطورات الأزمة التي أخذت أبعاداً أكثر مأساوية حملت عناوين غياب المسؤولية السياسية والاجتماعية، وتعميق الأزمة الإنسانية، حيث أضفى عجز المستشفيات عن توفير الضمادات والمستلزمات الطبية والأدوية لعلاج ضحايا الحادث مزيداً من السوداوية على الحالة المأساوية في لبنان.
وباتت الأزمة اليوم تشهد مظاهر مختلفة، من بينها الارتفاع الهائل في الأسعار للسلع الأساسية، كالخبز وحليب الأطفال، والوقود..وغيرها من المواد الأساسية للحياة، بل وشح هذه المواد في كثير من الأوقات، إضافة لشح السيولة المالية في أيدي اللبنانيين مما جعل قدرتهم الشرائية في حالة ضعف كبير، بعدما فقدت العملة اللبنانية أكثر من 90% من قيمتها، وتجاوز معدل التضخم في أسعار السلع الغذائية عتبة 400%، حيث وصل الحال ببعض الأسر إلى حافة المجاعة، وقد أدت الأزمة فيما أدت إليه من زيادة لمعدل الجريمة في البلاد، سيما عمليات السطو المسلح والسرقات، وارتفاع نسب جرائم القتل وإطلاق النار، بحسب وزارة الداخلية اللبنانية.
وكان لوقع الأزمة الثقل الأكبر على اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وبصورة بدت مفاهيم البؤس فيها أكثر كثافةً، فأزمات اللاجئين الفلسطينيين المركّبة والمعقدة ليست بالجديدة، حيث يعيشها اللاجئ منذ عقود طويلة، إلا أن الجديد هو استفحالها، واتخاذها منحىً آخر من قسوة الحياة التي ما فتئت تطل بنابها، حيث بات اللاجئ منذوراً برؤية عبوسها وشراستها، ومحروماً من ابتسامة عابرة تطل عليه كنور عابر في حلكة أيامه ولياليه الطويلة، ولو سهواً. تاريخ بؤس اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وهشاشة أوضاعهم بدأ منذ تاريخ تواجدهم على الأرض اللبنانية، منذ النكبة عام 1948، دشنته قوانين صدرت عن حكومات لبنانية تقيّد حياة اللاجئ في الحركة والتنقل، وفي العمل، والمسكن والتملك والبناء، مما كان له الانعكاس الأكبر على حياة اللاجئين الذين ترتفع فيما بينهم معدلات الفقر، حيث وصلت إلى 65% قبل الأزمة الحالية، و90% بعدها، ونسبة البطالة التي كانت 56% قبل الأزمة، وتجاوزت 95% عقب جائحة كورونا، إلى جانب أشكال أخرى من المعاناة كارتفاع نسب سوء التغذية التي وصلت لنحو 63%، ونقص الرعاية الصحية، حيث يفتقر 95% من اللاجئين للتأمين الصحي، إلى جانب رداءة المساكن التي يعيش اللاجئون الفلسطينيون فيها، حيث تصنف نسبة كبيرة منها كمساكن غير صحية، ولا تصلح للعيش البشري، بحسب "بيانات صادرة عن مؤسسات تابعة للأمم المتحدة".
هذا الواقع المأساوي يتطلب جهداً إغاثياً وتنموياً موازياً، يكون بحجم الأزمة الإنسانية، وحراك خيري يتسم بالكثافة والتواصل، تعمل من خلاله المؤسسات الخيرية بروح ودافعية عالية، تنطلق من التزاماتها ومسؤولياتها الأخلاقية التي تمثل أهم ركائز العمل الخيري والإنساني، حيث يستوجب، بطبيعة الحال، إزاء أزمة كهذه رفع سوية العمل المؤسسي، والانخراط في ائتلافات وأطر مهنية الغاية منها تنسيق جهود مؤسسات العمل الخيري والإنساني، وتحديد بوصلتها باتجاه مساعدة المتضررين من الأزمة والتخفيف من معاناة الأسر الفقيرة واللاجئين. من جديد، تجد المؤسسات الخيرية نفسها أمام حتميات العمل الإنساني، إزاء أزمة خانقة تعصف بحاضرة من الحواضر العربية والإسلامية، وتثقل على كاهل الإنسان فيها، بما لم يعد له طاقة بها، حيث وجد الفقر والجوع طريقاً يسلكه لغالبية بيوت الأسر اللبنانية، واللاجئين الفلسطينيين والسوريين، مما يستوجب تحركاً خيرياً عاجلاً يمنع من أن تتحول منازل الغالبية العظمى للفقراء واللاجئين إلى أماكن يستوطنها الجوع والعوز إلى الأبد.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت