- سري سمور
فرحة كبيرة، وأمل ممزوج بروح التحدي وشعور بأن إمكانية تحقيق النصر ليست وهمًا، ملأت الشارع الفلسطيني في السادس من أيلول/ سبتمبر 2021 وهو تاريخ سيظل محفورًا في ذاكرة النضال الفلسطيني، ومحطة مهمة، ربما تكون فارقة، من محطات الصراع الطويل الذي زاد عمره على 120 سنة بين الحركة الصهيونية ومن يدعمها، وبين الشعب الفلسطيني الذي تُرك وحده يجابه قوة عاتية متفوقة عسكريًا وأمنيًا واقتصاديًا وتقنيًا.
مصدر الفرحة كان تمكن ستة أسرى، أربعة منهم حكمت عليهم المحاكم العسكرية الصهيونية أحكامًا بالمؤبّد، واثنان ينتظران أحكامًا عالية، من الفرار من سجن "جلبوع" شديد الحراسة والتحصين، والواقع قرب مدينة بيسان، من الفرار عبر نفق حفروه في حمام غرفة في السجن.
ولكن الفرحة انقلبت إلى حزن وكآبة مساء العاشر من أيلول/ سبتمبر، حين تمكنت قوات الاحتلال من إعادة اعتقال اثنين منهم، في مدينة الناصرة، حسب الرواية الإسرائيلية، وازداد الحزن فجر السبت الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر عندما اعتقل اثنان آخران قرب قرية أم الغنم في مرج بني عامر.
مع أنه منذ اللحظة الأولى لإعلان تمكن الأسرى الستة من الفرار، كان احتمال الإمساك بهم من جديد واردًا وبنسبة مرتفعة، بل كان الفلسطينيون يتوقعون إقدام قوات الاحتلال على تصفيتهم جسديًا؛ ولكن مع وضع هذا الاحتمال في الحسبان، كانت مشاعر الفرحة والأمل والتحدي والعواطف الجياشة غالبة على الحسابات الموضوعية الخاصة بواقع فلسطين المحتلة، وهذا طبيعي، في ظل ظروف عاشها ويعيشها الفلسطينيون؛ فعملية الهرب من سجن جلبوع جاءت مباشرة بعد تمكن مقاوم فلسطيني من قتل قناص يتحصن خلف جدار على حدود قطاع غزة، وبعد أشهر قليلة من معركة سيف القدس، وفي ظل واقع عربي مأزوم؛ فقد وحدة الخيارات، ولم تعد القضية الفلسطينية عنده أولوية، بل ذهبت بعض الدول العربية إلى مسار التطبيع العلني المواطئ للتحالف مع الكيان العبري.
حتى كتابة هذه السطور ما زال الاحتلال يبذل كل جهد أمني وعسكري للوصول إلى الأسيرين اللذين ما زالا حرّين (أيهم كممجي ومناضل انفيعات).
ويسود التوتر الميداني في عدة مناطق في الضفة الغربية، خاصة في منطقة جنين، التي ينحدر منها الأسرى الستة والتي شهدت اشتباكات مسلحة مع قوات الاحتلال، كما أن قطاع غزة يعيش حالة من التوتر والترقب، فقد أطلقت صواريخ وبالونات حارقة، إضافة إلى الفعاليات الجماهيرية كالمسيرات والوقفات التضامنية مع الأسرى، وكلمة مقتضبة بثها الناطق باسم كتائب القسام الذراع العسكري لحركة حماس(أبو عبيدة) أعلن فيها أن أي صفقة تبادل أسرى بين المقاومة والاحتلال لن تبرم إلا بتحرير أبطال (نفق الحرية).
هذا السرد الموجز للوضع الميداني يقودنا إلى أسئلة وملفات شائكة تتعلق بالمقاومة، وسأحاول تسليط الضوء والخروج بما تيسر من استنتاجات عبر هذه المقالة ومقالات تالية لها، حول المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة، من حيث الجدوى، والحاضنة الشعبية، والظروف الموضوعية، وإمكانية تحقيق إنجاز ملموس يقي الجمهور الفلسطيني أية مشاعر سلبية تجاه فكرة المقاومة، وأيضًا عن طبيعة ونوعية المقاومة المناسبة للحالة الفلسطينية في الضفة الغربية وخصوصيتها، وماذا يمكن للمقاومة في غزة ولبنان وغيرها أن تقدم لساحة الضفة الغربية، مع ضرورة الإشارة إلى أننا نحتاج دومًا إلى مراجعة وتقييم متواصل ومستمر يشارك فيه أهل الرأي يدًا بيد مع قادة أو من ينوب عن المقاومة لكل الأحداث والمجريات؛ كي لا نظل نجتر الأخطاء وندور في حلقة مفرغة، ونستنفد طاقاتنا دون إنجازات حقيقية.
أهمية الضفة الغربية
قبل أي حديث عن تفصيلات، أو حتى عموميات، تخص المقاومة في الضفة الغربية علينا أولاً أن نسلط الضوء على بعض الأمور المهمة المتعلقة بهذه المنطقة، وطبيعتها وأهميتها؛ فمعرفة وإدراك أين تقف وماهية الأرض التي تناضل من أجل تحررها أمر في غاية الأهمية، وإذا كنا عمومًا نعرف المعلومات التي سأذكرها، فلا فائدة من معرفة وعلم لا ينتفع بهما، فليس المقصود فقط إيراد إحصائيات وأرقام ومعلومات تاريخية أو جيوسياسية بقدر ضرورة استخدام هذه المعلومات ووضعها في الحسبان عند التفكير بالمقاومة.
- تبلغ مساحة الضفة الغربية حوالي 5860 كم2 أي حوالي 20% من أرض فلسطين الانتدابية(27009كم2) وصار لهذه المنطقة خصوصيتها وتميزها عن باقي المناطق الفلسطينية بعد نكبة سنة 1948، فقد خضعت للإدارة الأردنية وصار سكانها رسميًا مواطنون أردنيون شاركوا في الترشح والانتخاب لبرلمان المملكة الأردنية الهاشمية، ولكنهم أبرزوا هويتهم الوطنية الفلسطينية تدريجيًا خاصة في مرحلتين، الأولى بعد نكبة حزيران 1967 التي تزامنت مع ظهور حركة فتح (أعلنت انطلاقتها مطلع 1965) وخوض الحركة مع الجيش الأردني معركة الكرامة في 1968 وتجنيد حركة فتح لسكان من الضفة الغربية، وهو ما فعلته فصائل فلسطينية أخرى بطبيعة الحال، والثانية عند اندلاع انتفاضة الحجارة عام 1987 التي أظهرت مطالبة الفلسطينيين في الضفة الغربية كما في قطاع غزة بحقوق وطنية واضحة مثل التحرر من الاحتلال وحق تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس كحد أدنى من المطالب، وبعد شهور في 1988 أعلن العاهل الأردني الراحل الملك حسين عن قراره بفك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية، واستثنى التربية والتعليم والأوقاف، وصار المواطن الفلسطيني من أهل الضفة الغربية له وضع مختلف عن المرحلة السابقة فقد كان أردنيًا يعيش في أرض أردنية محتلة، والآن بعد القرار يمكنه فقط حمل جواز سفر أردني مؤقت لا يمنحه ما يخص المواطن الأردني، المقيم في الضفة الشرقية بغض النظر عن أصوله (كثير من سكان الضفة الشرقية من أصل فلسطيني)، وهذا الحال بالنسبة لأهل الضفة الغربية يختلف عن أهالي قطاع غزة فهناك خضع القطاع وسكانه لإدارة مصرية طابعها عسكري، ولم يكن الغزيّون يتمتعون بالجنسية المصرية، لذا هم كانوا عنوان الهوية الوطنية الفلسطينية الواضح، لاختلاف وضعهم القانوني والواقعي عن فلسطينيي الشتات، وعن الذين صمدوا داخل الخط الأخضر(خضعوا لحكم عسكري سنوات ثم حملوا الجنسية الإسرائيلية) ولم يكن هناك تواصل جغرافي بين الضفة والقطاع قبل نكبة حزيران 1967 حيث تفصل أراض فلسطينية محتلة سنة 1948 القطاع عن الضفة الغربية.
- تقع الضفة الغربية في قلب فلسطين الانتدابية، ولذا تشكل لدى كل أحزاب الحركة الصهيونية ومؤسساتها الأمنية والعسكرية ومراكز التفكير الاستراتيجي أهمية كبيرة، لأن الانسحاب منها سيجعل منطقة (غوش دان) تحت التهديد المباشر، بغض النظر عن أية اتفاقيات ومعاهدات سياسية قد تبرم سواء مع الجانب الفلسطيني أو غيره، كما أن الضفة الغربية فعليًا تضم شرقي مدينة القدس، وفي نظر كل الحركة الصهيونية فإن المدينة شرقها وغربها هي (العاصمة الأبدية الموحدة "لدولة إسرائيل") وهي لذا بؤرة الصراع المركزي غير القابل للتفاوض فعليًا، لأن شرق المدينة يحتضن المسجد الأقصى المبارك ثالث المسجدين وأولى القبلتين عند المسلمين، والذي تزعم "إسرائيل" أنه "جبل الهيكل" المزعوم، وبناء على ذلك وعبر سنوات الاحتلال التي تربو على نصف عقد من الزمن عمد الكيان الصهيوني إلى سلسلة من الإجراءات المدروسة المتدرجة للهيمنة على الضفة الغربية، فأنشأ المستوطنات التي بُنيت بطريقة مدروسة لتقطيع أوصال الضفة والسيطرة على تجمعاتها السكانية، وفصلها عن مدينة القدس، كما بني جدار الفصل العنصري الذي جعل مناطق وقرى وبلدات (بما فيها شرق القدس) خاضعة لإجراءات وترتيبات خاصة تمنع عموم أهل الضفة الغربية من الوصول إليها إلا بتصاريح خاصة لا تعطى إلا وفق فحوصات أمنية بيروقراطية معقدة جدًا، وتنهب المستوطنات حوالي 42% من أراضي الضفة الغربية وما يعرف بالمنطقة (ج/ C) ويشكل حوالي 60% من مساحة الضفة الغربية يخضع للسيطرة الإسرائيلية الشاملة لكل نواحي الحياة؛ ولا تمنح تراخيص بناء هناك إلا بموافقة إسرائيلية قلما يحصل عليها الفلسطينيون، فضلاً عما يعنيه هذا النهب من سلب ممنهج للمياه والمناطق الطبيعية والأراضي الزراعية.
- مع أن الضفة الغربية على حدود الأردن ولكن سفر المواطنين فيها إلى الأردن (ومنه إلى الخارج) خاضع تمامًا للأمن الإسرائيلي، فالحدود مع الأردن محروسة بتقنيات عالية ومجسات إلكترونية وحقول ألغام، وفرق من قصاصي الأثر المحترفين، والسفر فقط عبر (الجسر) ويمكن لسلطات الاحتلال منع من تشاء من السفر أو اعتقاله في ذهابه وإيابه والتحقيق معه والتحكم بأمتعته وما يحمله من أشياء، والجسر منطقة عسكرية إسرائيلية تخضع لتحصين معقد، والداخل والخارج يخضع للتفتيش والفحص الجسدي عبر أجهزة إلكترونية وكاميرات أو التفتيش الجسدي المباشر.
هذه باختصار بعض المعلومات المتعلقة بالضفة الغربية التي يقطنها أكثر من 3.1 مليون فلسطيني (بما فيهم المقدسيون الذين لهم وضع إداري خاص فرضته سلطات الاحتلال).
ونعيش هذه الأيام ذكرى توقيع اتفاق إعلان المبادئ بين "إسرائيل" و (م.ت.ف) في حدائق البيت الأبيض في سنة 1993 المعروف باسم (اتفاق أوسلو) وقد كان للاتفاق وما تلاه تأثيره على الواقع الفلسطيني عمومًا وواقع الضفة الغربية خصوصًا، وهذا ما سأتناوله بعون الله في مقالتي القادمة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت