- د. فايز أبو شمالة
حين زرته في المستشفى، رحب بي، وهو يقول: هل رأيت أمواتاً يرزقون؟ إنهم أولادي، هم أحياء عند ربهم يرزقون! واصل المهندس محمد شراب حديثه: لقد صدّقت الخبر الذي أعلنته إذاعة الاحتلال الإسرائيلي عن رفع حظر التجول لعدة ساعات، أثناء الحرب على غزة، فركبت سيارتي الساعة الثانية عشر ظهراً، وتوجهت مع اثنين من أولادي، الكبير اسمه كساب، عمره 28عاماً، والصغير اسمه إبراهيم، وعمره 19عاماً، توجهت من منطقة "الفخاري" إلى بيتي في خان يونس، ولكن عندما صرت على مسافة كيلومتر واحد شرق المستشفى الأوروبي، فاجأنا جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي بالرصاص.
توقفت السيارة بعد أن اصطدمت بحائط، لقد أصيب الأب محمد شراب بيده، وأصيب ابنه كساب في ساقه، في حين سارع الابن غير المصاب إبراهيم بالنزول من الكرسي الخلفي للسيارة، لمساعدة أبيه وأخيه، فكانت رصاصات الجيش الصهيوني أسرع، ففارق الحياة أمام عيني أبيه وأخيه!
تحامل الوالد محمد شراب على جرحه، ونزل من السيارة إلى قارعة الطريق، وهكذا فعل ابنه الجريح كساب، وراحا يتأملان جثمان إبراهيم الممدد أمامها، يبكيانه لحظة، ويتوجعان من جراحهما لحظة، وينظران إلى جنود الاحتلال الإسرائيلي؛ الذين تصببوا شماتة، ونزفوا لا مبالاة، وواصلوا إطلاق النار على كل ساكنٍ ومتحرك!
قال لي م. محمد شراب: تحدثت مع الجيش الإسرائيلي باللغة الإنجليزية، وطلبت منهم المساعدة، ولكن دون جدوى، واتصلت هاتفياً من مكاني بكل من أعرف من الناس، طلباً للمساعدة، وجاءتني عدة اتصالات من بعض الإذاعات، وتحدثت من مكاني مع عدة فضائيات عربية وأجنبية، ومن ضمنها فضائية الجزيرة، وإذاعة لندن، وإذاعة الأقصى، وكانت حالتنا الصحية تبث على الهواء مباشرة، وكان المكان الذي يحاصرنا فيه الجيش الإسرائيلي معروفاً للجميع، ولكن لم تستطع أن تصل إلينا أي سيارة إسعاف!.
يضيف محمد شراب: حل المساء، وأنا وابني الجريح "كساب" تحت السماء والطارق، يصبر أحدنا الآخر، ونتبادل أطراف الحديث في برد شهر يناير كانون أول من العام 2009، كانت الحرارة 6 درجات مئوية، وكان ابني كساب يرتجف، ومع ذلك كان يحدثني، ويشد من أزري حتى الساعة الثانية عشرة ليلاً، حين خيم الصمت على المكان لفترة، فسألت ابني كساب عن أحواله، ولكنه لم يرد، سألته ثانية، ولم يرد، فمددت يدي إليه، لأجده قد فارق الحياة!.
ظل المهندس محمد شراب ينظر إلى جرحه النازف مرة، وينظر إلى جثتي ولديه الممددتين على الأرض مرة أخرى، حتى الساعة الثانية عشرة من ظهر اليوم التالي، عندما سمح جيش الاحتلال لمنظمة الصليب الأحمر الدولي بنقله مع الجثتين إلى المستشفى.
لم تنته الدراما الفلسطينية، ففي شهر 9 من عام 2012 أعلن المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان: أنه نجح في التوصل إلى تسوية مع النيابة العسكرية الإسرائيلية، لدفع مبلغ 430 ألف شيكل، أي ما يعادل "مائة ألف دولار أمريكي" تعويضاً لعائلة شراب، مقابل إغلاق ملف القضية.
وهنا جاء رد المهندس محمد شراب والد الشهيدين مدوياً، لقد قال بصوته الفلسطيني الواثق: "أي مالٍ هذا الذي سيعوضني إياه اليهود الصهاينة عن فقد أولادي؟ وهل سيضيف لي المال بضع لقيمات! إنا الفلسطيني صاحبُ الوطن، أنا وليّ الدم، أنا لا أقبل إلا بالقصاص، يجب أن يقتل من قتلني، وإذا لم يكن بمقدوري أن أقتله الآن، فإنني أفوض أمري إلى الله، عسى أن يريني فيمن قتل أولادي شيئاً يخفف النار التي تشتعل في داخلي، ورفض شراب أن يغلق ملف القضية!.
أيام معدودات، وبينما كان المهندس محمد شراب يتناول طعام الإفطار وحيداً، ويفكر بالقصاص العادل، غمس لقمة الخبز بزيت الزيتون، ووضع نصفها في فمه، ولكن نصف اللقمة الآخر ظل يشهد بعد وفاته: أن الدم والعرض والأرض لا تعوض بكل أموال الدنيا!.
لقد فارق المهندس محمد شراب الحياة ولسان حاله يقول:
لا نريد مالاً مقابل الوطن، أولادنا الذين قتلهم الصهاينة أغلى من كنوز الأرض، وقضيتنا ليست مساعدات، ولا هي تعويضات، ولا هي خزائن السلطة الخاوية من الأموال، وتعيش تحت رحمة المقاصة، قضيتنا ليست رواتب، ولا هي مراتب، قضيتنا سياسية، نحن أصحاب الوطن، نريد تحرير الأرض، وتحرير الإنسان، ومن اختار طريق الحرية عليه أن يدفع الثمن، واجبنا أن نقاتل من أجل الحرية، لا أن ننتظر المساعدات والهبات والعطايا، واجبنا أن ننفجر، لا أن ننتظر، ونحن نشكو الجوع والعطش وسلاسل الحصار.
هذا المقال نشرته في شهر 9 قبل عشرة أعوام، وبنفس العنوان، وأعاود نشره اليوم كي يتعرف الفلسطيني على عدوه الحقيقي، عسى ان يتعظ زعماء التنسيق والتعاون الأمني، وعسى أن يفيق من جهالته كل أولئك المطبعين العرب.
فبعضُ حزنٍ قد يوقظُ الضمائرَ!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت