ماهية الحروب الصليبية (1)

بقلم: محمد سيف الدولة

محمد سيف الدولة
  • محمد سيف الدولة

[email protected]

انتقل الى رحمة الله يوم الاحد الموافق 26 سبتمبر 2021 المؤرخ الكبير الدكتور/ قاسم عبد قاسم، الذى تعتبر كتاباته عن الحروب الصليبية وعن العصور الوسطى من اهم المراجع المنهجية والتاريخية فى المكتبة العربية، والتى تمثل بالنسبة لنا النافذة الاوسع والادق والاكثر مصداقية للتعرف على هذه المرحلة الهامة والمفصلية من تاريخ الامة، بالذات فى كتابه "ماهية الحروب الصليبية" الذى اصدرته سلسلة عالم المعرفة الكويتية، والذى قمت منذ بضع سنوات بتقديمه فى عدة حلقات.

واليوم أعيد نشر هذه السلسلة التى تتكون من أربع حلقات، تكريما للراحل العزيز، وتنويها للقراء الكرام بالذات من الاجيال الجديدة باهمية الاطلاع والانفتاح على الانتاج الفكرى والتاريخى لمفكر ومؤرخ ثقيل الوزن وغزير العلم.

***

وسأبدأ اليوم بالحلقة الاولى التى تتناول قراءة تاريخية عامة للحروب الصليبية.

ولكن قبل ان أبدأ، أود ان اعرض الاسباب التى دفعتنى الى ذلك:

·       كان السبب الاول هو تميز ودقة وموضوعية الدراسة المقدمة.

·       والسبب الثانى هو غياب الوعي الشعبى بالقصة الكاملة والحقيقة للحروب الصليبية، فقد نجد حتى الآن ان المصدر الرئيسى لمعلومات الكثيرين عن هذا الموضوع هو فيلم الناصر صلاح الدين للمخرج يوسف شاهين.

·       السبب الثالث هو ان نجاحنا فى دحر تلك الحملات الشرسة، كان بمثابة النجاح فى الاختبار الاول لاختصاصنا باوطاننا وامتلاكنا لها، وهو ما كان الغرب يشكك فيه منذ الفتح الاسلامى.

·       السبب الرابع والأهم هو التشابه الكبير بين ذلك العدوان القديم، وبين العدوان الذى لا نزال نعيش فيه منذ أن بدأ منذ حملة نابليون 1798 ولم ينتهِ حتى الآن 2021، وفى القلب منه المشروع الصهيونى الاستيطانى، واهمية ذلك فى استخلاص الاسباب والعناصر التى أدت الى انتصارات الاجداد، علها تفيدنا فى تحقيق التحرر والنصر فى المستقبل القريب.

***

مدخل تاريخى:

·       يمكن اعتبار يوم 27 نوفمبر 1095 هو البداية الفعلية لأحداث الحركة الصليبية، وهو تاريخ الخطبة الشهيرة التى القاها البابا "أوربان الثانى" فى منطقة كليرمونت بجنوب فرنسا، والتى وجه فيها الدعوة الى شن حملة تحت راية الصليب ضد المسلمين فى فلسطين.

·       وكانت هذه الخطبة بمثابة اشارة البدء لسلسلة من الحملات الصليبية، قادتها اوروبا الكاثوليكية للعدوان على العالم العربى تحت راية الصليب.

·       بدأت اولها عام 1096 ولم تنتهِ وتندثر الا عام 1291.

·       خلال هذه الفترة اسس المعتدون عدد من المستوطنات الصليبية على التراب العربى فى فلسطين وأعالي بلاد الشام والجزيرة.

·       وكانت هذه الحملات سببا رئيسيا من اسباب تعطل قوى الابداع والنهوض والنمو فى الحضارة العربية الاسلامية، والتى ادت فيما بعد الى ضعفها ووقوعها تحت السيادة العثمانية.

·       ورغم ان العثمانيين قاموا بحماية العالم الاسلامى من العدوان الغربى لقرون طويلة، الا انهم لم ينجحوا فى اعادة استنهاضه من التراجع الذى تم بسبب الحروب الصليبية، مما ادى فى النهاية الى سقوط العالم العربى تحت الاستعمار الاوروبى الحديث.

·       كما كانت هذه الحروب هى اول المشروعات الاستعمارية الاوروبية، وكانت السابقة او التجربة التى سبقت مرحلة الاستعمار الحديث.

·        فضلا على انها كانت الهاما للتجربة الصهيونية الاستيطانية.

***

مصطلح الحروب الصليبية :

·       تتمثل اشكالية مصطلح "الحروب الصليبية"، فى اقتران حركة استعمارية شريرة وعدوانية، بالصليب وما يمثله من رمز دينى تميز بالسلام والفداء والتضحية من اجل الآخرين، خاصة ما يمكن ان يثيره المصطلح من اشكاليات معاصرة بين عناصر امة واحدة تتشكل من المسلمين والمسيحيين. وهى الاشكالية التى عالجها يوسف شاهين فى فيلمه الشهير بتقديم شخصية البطل العربى المسيحى "عيسى العوام".

·       وقد أطلق العرب على هذه الحروب " حروب الفرنج " ولم يرتبط اسمها فى الكتابات المختلفة بالصليب الا بعد قرن ونصف من بدايتها.

·       بل ان اول ظهور لكلمة الصليبين كان وصفا للموسومين بالصليب لانهم كانوا يخيطون صلبانا على ستراتهم، ولم يكن وصفا للحركة.

·       ولقد اطلق الكتاب والمؤرخون الغربيون القدماء عليها مصطلحات متعددة مثل حركة الحجاج، رحلة الحج، الرحلة الى الارض المقدسة، الحرب المقدسة، حملة الصليب، الحملة العامة، مشروع يسوع المسيح..الخ

·       ولكن لم يستقر مصطلح الحروب الصليبية الا فى القرن الثامن عشر على ايدى المؤرخين الغربيين المحدثين.

·       وعندما تقدم الآلة الاعلامية الغربية الاستعمارية الحديثة، قصة الحروب الصليبية للراى العام، فانها تقدمها كمثال براق يوحى بالشجاعة والتضحية بالنفس فى سبيل المثل الاعلى.

·       وهو ما يكشف تناقضا كبيرا مع الصليب نفسه، بصفته رمزا للفداء والتضحية بالنفس فى سبيل الآخرين، وليس رمزا للحرب والقتل والعدوان.

·       ولكن فى جميع الاحوال لا يمكن التغاضى عن مصطلح الحروب الصليبية التى ترسخ فى الدراسات العربية وأصبح له مدلول تاريخى، والذى قد يكون المعنى الادق له هو: "تلك الحملات الاستعمارية الاستيطانية التى قام بها الغرب على اوطاننا متذرعا بذرائع دينية فى القرنين الثانى والثالث عشر."

***

جذور الايدولوجية الصليبية:

اولا ـ الحج والحرب الصليبية:

·       ظهرت فكرة الغفران الصليبى والنظام الكنسى المبكر للتكفير عن الذنوب. والغفران له ثلاث خطوات هى الاعتراف بالذنب والرضا والمصالحة بمعنى العودة الى الجماعة المسيحية. وكان الحج هو احد الوسائل الهامة للتكفير عن الذنوب (الحج التكفيرى)

·       لم تتوقف رحلات الحج الى الاراضى المقدسة عبر العصور، فى ممارسة دينية هادئة وطبيعية، وتنامت هذه الرحلات فى القرن الحادى عشر كوسيلة للتكفير عن الذنوب، كما أسلفنا، بتوجيه من الكنيسة او بفرض منها، او الحج للرغبة فى الخلاص قبل نهاية العالم، وفقا لبعض الاساطير والخرافات التى سادت، عن نهاية العالم بعد الالفية الاولى من ميلاد السيد المسيح. المهم ان حركة الحج ظلت حركة متصاعدة.

·       ولقد استثمر اصحاب الدعوة الصليبية، حركة الحج التى وصلت فى القرن الحادى عشر الى مجموعات يصل عددها الى عدة آلاف.

·        ثم تطورت فكرة الحج فيما بعد الى فكرة الحرب الصليبية، انطلاقا من افكار مثل: ان الارض التى شهدت قصة المسيح وفيها ضريحه لابد وان تكون تحت سيطرة اتباعه، وضرورة تخليص الارض المقدسة من المسلمين، وحملات الحج المسلحة او عسكرة الحج. ومما جاء فى خطبة البابا الشهيرة:

((اننى اخاطب الحاضرين، وأعلن لاولئك الغائبين، فضلا على ان المسيح يامر بذلك، انه سوف يتم غفران ذنوب اولئك الذاهبين الى هناك اذا ما انتهت حياتهم باغلالها الدنيوية سواء فى مسيرتهم على الارض او اثناء عبورهم البحر، او فى خضم قتالهم ضد الوثنيين. وهذا الغفران امنحه لكل من يذهب بمقتضى السلطة التى اعطانى الرب اياها))

·       ولقد منح البابا الغفران الجزئى من الذنوب الى كل الذاهبين للحملة الصليبية ضد الوثنيين.

·       وطور البابا اجينيوس الثالث الغفران فى الحملة الثانية 1145/1149 الى غفران الخطايا والاعفاء من التوبة والتكفير.

·       وتطورت مسالة الغفران لتشمل الحملات ضد اعداء الكنيسة داخل اوروبا نفسها.

·       ولقد أصبح الغفران بعد ذلك سلعة تباع بالمال فيما عرف من صكوك الغفران، ولكن هذه مسألة أخرى.

***

ثانيا ـ الحرب العادلة و الحرب المقدسة:

·       كان مفهوم الحرب المقدسة من اهم روافد الايدولوجية الصليبية.

·       وكان موقف آباء الكنيسة حرجا وهم يواجهون مشكلة التوفيق بين تعاليم المسيحية الداعية الى السلم ونبذ الحرب من ناحية، وبين مقاومة الشر الحتمى فى الحياة الدنيا من الناحية الأخرى.

·       ولقد ادان اللاهتيون فى العالم البيزنطى، الحرب باعتبارها عملية قتل جماعى، ولكن فى الغرب اللاتينى كان الموقف مختلفا، تحت تاثير الغزوات الجرمانية التى اجتاحت اوروبا بين القرنين الخامس والسابع الميلادى. مما ساعد على تقديم تبريرات دينية لضرورة الحرب.

·       وكان القديس اوغسطين 354-430 م هو اول من طرح فكرة الحرب العادلة ووضع لها 3 شروط:

1)   ان يكون هناك سبب عادل لشن الحرب مثل رد العدوان او الاعمال الضارة.

2)   ان يصدر قرار الحرب من سلطة شرعية.

3)   سلامة القصد بمعنى انه يجب على كل مشارك فى الحرب ان تكون دوافعه نقية سليمة، وان تكون الحرب هى الوسيلة الوحيدة المتاحة لتحقيق هدف عادل.

·       وكان مما دعم فكرة ضرورة الحرب كوسيلة دفاعية من ناحية اخرى، هو اطماع جماعات الغزاة فى اوروبا فى ثروات الكنائس والاديرة.

·       وحيث ان المغيرين والغزاة لم يكونوا مسيحيين، لذا اقترنت فكرة الحرب العادلة بفكرة الحرب ضد الوثنيين اى غير المسيحيين عموما، وهو ما حول فكرة الحرب العادلة الى فكرة الحرب المقدسة.

·       وهو المعنى الذى صاغه فى صيغته النهائية جريجورى السابع 1073-1085 م ولقد استخدم تعبير " جيش المسيح " لاول مرة.

·       من ناحية ثالثة تاسست حركة تحمل اسم "سلام الرب" فى مواجهة المنازعات والحروب الاقطاعية الكثيرة التى سادت اوروبا فى هذه المرحلة. وتاثرت بها الكنيسة ومن ثم تورطت فى تنظيم الحملات العسكرية ضد كل من يعكر صفو السلام. واعتبرت بهذ المعنى بمثابة حروبا مقدسة.

·       ولقد استثمرت فكرة الحرب المقدسة على أكمل وجه فى الحملات الصليبية المختلفة.

·       ورويدا رويدا، صارت الكنيسة الكاثوليكية قوة عسكرية اقطاعية استخدمت قواتها فى الدفاع عن الدويلات البابوية.

·       وكذلك كانت الحرب ضد المسلمين فى الاندلس، هى الأخرى، أحد المقدمات التاريخية للحروب الصليبية.

·       كل ذلك مثل سوابق وتجارب عملية مهدت للحروب الصليبية.

·       وبحلول القرن الحادى عشر صارت البابوية قوية بالقدر الذى يجعلها تفكر جديا فى تجريد حملة عسكرية ضد الشرق العربى الاسلامى.

***

واخيرا كان لطبقة الفرسان الاقطاعيين التى تطورت ونضجت فى اوروبا عبر احداث القرون الماضية دورا رئيسيا فى الحروب الصليبية، من خلال مصالحها ونفوذها وقوتها العسكرية.

***

تناولنا اليوم جذور الحركة الصليبية فى مسائل مثل الحج والحرب المقدسة وتطور الفكرة الصليبية.

ولكن لا شك ان العوامل الاقتصادية والاجتماعية كان لها اهميتها البالغة فى فهم وقراءة الحروب الصليبية وهو موضوع الحلقة القادمة باذن الله.

*****

القاهرة فى 27 سبتمبر 2021

 

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت