- سري سمور
أحرر هذه المقالة في وقت تصطبغ فيه الضفة الغربية بدم الشهداء الطاهر؛ في بيتا/نابلس وبرقين/جنين وبدو وبيت عنان/شمال غرب القدس، وتلوح في الأفق بوادر تصعيد في مناطق مختلفة من الضفة الغربية، وقد يرتقي مزيد من الشهداء وتتفاقم الأوضاع.
كنت في المقالة السابقة قد استعرضت جوانب من أوضاع الضفة الغربية قبيل أوسلو وبعيد تنفيذ أجزاء منه؛ ولكن ماذا عن أهالي الضفة الغربية، أي جمهورها الذي هو مفتاح وخزّان المقاومة؟ كيف نظر إلى الأوضاع في وقت تصاعدت فيه عمليات المقاومة التي تنفذها حركتا حماس والجهاد الإسلامي، ووجود اتفاق تسوية مع الاحتلال برعاية دولية قوية؟
لقد وفر الجمهور الفلسطيني في الضفة الغربية حاضنة للمقاومة وأيّد -عمومًا- عمليات حماس، خاصة أنها جاءت ردًّا على جرائم الاحتلال والمستوطنين؛ ولكن في ذات الوقت عانى الجمهور كثيرًا من إجراءات الاحتلال الانتقامية وسياسة العقاب الجماعي، والتي أخذت طابع التجويع. صحيح أن الأمور لم تصل إلى درجة نزعم فيها أن الناس، أو حتى بعضهم، صاروا مثل بعض الشعوب الأفريقية التي كابدت المجاعات بسبب الجفاف والحروب الأهلية، ولكن كانت الأوضاع الاقتصادية صعبة جدًّا.
فبعد كل عملية تنفذها حماس أو الجهاد الإسلامي كان الاحتلال يفرض إغلاقًا وحصارًا يمنع بموجبه العمال من التوجه إلى داخل (الخط الأخضر)، وأعداد هؤلاء مع الأسر التي يعيلونها كبير لدرجة أن الدورة الاقتصادية المتواضعة أصلاً تتعطل بتعطل عملهم.
وهنا يطرح سؤال مؤلم نفسه: ألم يكن من الخطأ، بل الخطيئة، أن يعتمد شعب تحت الاحتلال على العمل عند المحتلين، مما ساهم في بناء اقتصادهم، بل إن الأجور التي يتلقونها ستعود إلى العدو، نظرًا لأن العمال وعائلاتهم سينفقونها داخل الأرض المحتلة التي تعتمد في السلع الأساسية على ما ينتجه أو يستورده المحتل؟ الجواب:نعم، كان هذا خطأ وهو يتكرر حاليًّا بطريقة أخرى، ولكن كان لا بدّ من خطة شاملة، ولا تلقى على عاتق الفرد العادي مسؤولية قد تكون أكبر من تفكيره، وهو يريد إعالة نفسه وأسرته، وأيضًا كان يفترض بشعب واقع تحت الاحتلال أن يتبع نمط حياة متقشف وأن يكون شعاره (اخشوشنوا)، وسواء قبل أوسلو أو بعده، فإننا دخلنا نمط حياة استهلاكي يجعلنا أسرى قرارات الاحتلال وتحت رحمته؛ فماذا لو قطع عنا التيار الكهربائي؟ وماذا لو توقف الاحتلال عن توريد المحروقات؟ أقول هذا وأنا مثل سائر الناس، اعتدت نمط معيشة يصعب عليّ التخلي حتى عن جزء منه.
وعامل الضغط الثاني على معيشة المواطنين كان من تبعات حرب الخليج الثانية؛ فقد تم طرد، أو إيقاف عقود عمل، مئات آلاف الفلسطينيين في الخليج، انتقامًا مما اعتبرته هذه الدول انحيازًا فلسطينيًا إلى جانب صدام حسين؛ علمًا بأن الناس هنا وقفوا مع صدام بسبب العدوان الأمريكي ولأنه قصف "إسرائيل" بالصواريخ، وليس شماتة أو تأييدًا لما قام به ضدّ الكويت وشعبها، وهذا يذكرنا بحقيقة مرة، وهي أنّ أيّ نزاع بين مكونات الأمة يدفع الفلسطينيون ثمنًا باهظًا له، وقد كانت تحويلات الفلسطينيين من الخليج، في وقت لم يكن فيه عولمة، وغلاء المعيشة أقل بكثير مما صار عليه اليوم، تعيل أقاربهم، بل بعض العائلات تعتمد عليهم في معيشتها حدّ الرفاهية؛ والآن توقفت التحويلات، بل إن من معه حق الإقامة عاد إلى البلاد، وهذا يعني مزاحمة الناس المقيمين على موارد هشة ضعيفة لأرض محاصرة من العدو ومصادر الرزق فيها شحيحة ومحدودة، بل اندلعت أحيانًا بعض المشكلات الاجتماعية العائلية، بسبب ملكية البيوت التي أراد القادمون الإقامة فيها بحكم ملكيتهم لها كليًّا أو جزئيًّا.
وثالثة الأثافي هي أن العقوبات الخليجية طالت الدعم المقدم إلى "م.ت.ف"، وهذه كانت تقدم عبر قنوات ومؤسسات دعمًا لسكان الداخل، وتوفر منحًا دراسية للعديد من الطلبة، إلى درجة يمكن القول إن كثيرًا من الأهالي لم يكونوا يحملون همّ أقساط الدراسة الجامعية لأبنائهم، سواء في الداخل أو الخارج، ولكن تلك العقوبات أدخلت المنظمة في أزمة مالية شديدة جدًا، فهي كانت تتلقى دعمًا من العراق ودول الخليج، وصار العراق محاصرًا جائعًا، ودول الخليج تمارس الانتقام، وعلينا هنا أيضًا أن نسأل:هل كانت العقوبات الخليجية بإيحاء أو توجيه غربي (أمريكي خاصة) لدفع "م.ت.ف" إلى قبول أي حلّ سياسي، خاصة أنها لم تعد تستطيع توفير رواتب ومخصصات منتسبيها والمتفرغين للعمل في مؤسساتها وأذرعها المنتشرة في البلاد العربية من مدنيين وعسكريين؟ كل المؤشرات تقول بأن هذا وارد جدًا، وقد تكشف لنا الأيام أسرار تلك العقوبات ومن ضغط، ومتى، وماذا كان هدفه!
في ظل الوضع الاقتصادي المذكور كان الاحتلال يزيد من عربدة قواته؛ فينشر الحواجز على الطرقات، والتي يتعرض فيها المواطن للإهانة المتعمدة، وكنت إذا اضطررت إلى دخول مقر (الإدارة المدنية) في أي منطقة لاستخراج بطاقة هوية أو تصريح أو غيره تتعرض إلى التفتيش المهين وصولاً إلى الضرب والشتم البذيء، مع انتظار قد يمتد إلى ساعات تحت أشعة الشمس الحارقة، أو زخات المطر.
وقد ابتكر الاحتلال عقوبات جديدة على المواطنين بهدف خنقهم وحصارهم وتحويل حياتهم إلى جحيم؛ وكنت إذا أردت السفر في حال سمح لك، فعليك استصدار تصريح، برسوم يجبيها المحتل، مدته شهر، وفي حال تجاوزت الشهر تمنع من العودة تسعة أشهر، ومع أن المواطنين قد تمردوا بدعم من قوى الانتفاضة وامتنعوا عن دفع الضرائب لسلطات الاحتلال، والتي كانت قد زادت قبيل انتفاضة الحجارة، ولم تفلح الحملات الأمنية في إجبار المواطنين على الدفع؛ إلا أن الاحتلال ابتكر وسائل عديدة، منها مثلاً إجبار المواطنين على تغيير لوحات سياراتهم الخصوصية العمومية، وهذا الإجراء مرتبط بحصول المواطن على براءة ذمة من الضرائب والرسوم وأثمان الكهرباء والمياه وغيرها، ومن أراد السفر أيضًا عليه فعل ذلك، أي أن سهم المقاطعة والتمرد قد ارتد بطريقة أو بأخرى إلى صدور المواطنين.
وعادت مظاهر الفوضى إلى الشوارع، وصار المواطن العادي يضيق ذرعًا بحالات (الزعرنة) هنا وهناك... كل هذا وهو ينظر بإعجاب إلى ضربات حماس الموجعة للاحتلال، وهي لا شك تفرحه وتسرّه، ولكن ضغط الواقع أقوى وأشد، وما أوردته في السطور السابقة غيض من فيض.
لذا أنا مع الرأي القائل بأنه لو تم تنظيم استفتاء شعبي حول اتفاق أوسلو فور توقيعه أو بعد التوقيع ببضعة أشهر أو في الأسابيع الأولى لبدء الانسحاب من المدن لكانت النتيجة هي أن الأغلبية ستصوت بـ(نعم) للاتفاق رغم كل ما يعرفه الناس أو يسمعونه عن مثالبه وعيوبه وخطورته على القضية.
فالمواطن أمام واقع معيشي صعب جدًا، مع أمل بإقامة دولة قنطرتها هذا الاتفاق، وليس هذا فحسب بل ثمة وعود برّاقة ليس فقط بتحسن الحالة المعيشية بل برخاء وازدهار وأن (سنغافورة) ستكون نسختها الثانية هنا؛ وكان التعليل الشعبي من المواطنين هو أننا شعب صغير العدد في الداخل، ولدينا عقول مبدعة، وكل العالم معني بنجاح العملية السلمية وخاصة الدول الغنية التي ستصب من خزائنها أموالاً تجعل حياة الفرد هنا مثل نظيره السويسري أو الاسكندنافي؛ ثم إن المدافعين عن الاتفاق في المهرجانات والندوات التي نظمت وكانت تبثها محطات تلفزة محلية وتابعها كثير من المواطنين كانوا يؤكدون على أنه (لا سلام دون القدس) وأن هذه مرحلة مؤقتة وانتقالية وفي حال عدم إيفاء الاحتلال بالتزاماته سوف نعود إلى الكفاح بكافة أساليبه.
وعليه كان المواطن الفلسطيني العادي لا يرى ما يقوله المعارضون دقيقًا بأنهم لو أيدوا الاتفاق فإنهم يستبدلون المال ورفاهية العيش الموعودة بثوابت وطنية.
إجمالا كان هذا حال الجمهور دون رتوش، بل حتى من عارضوا الاتفاق رغبوا في أعماق نفوسهم أن يتخلصوا ولو جزئيًا أو حتى شكليًا من الاحتلال الضاغط على حياتهم، وكان شعار(استراحة المحارب) يجد له تأييدا وصدى.. هذا مع أنك كنت تلاحظ أن المظاهرات والمسيرات والفعاليات المؤيدة والمعارضة للاتفاق في الشوارع والميادين تقريبًا متساوية في أعداد المشاركين، وهذا يعني أن الجمهور الفلسطيني دخل حالة استقطاب حادة صاخبة، للمرة الأولى في الداخل.
أما الفصائل والحركات والقوى الفلسطينية في خضم تلك الأجواء، فهي بمشيئة الله موضوع المقالة القادمة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت