- بقلم الشيخ الدكتور/يوسف جمعة سلامة
تمرّ بنا في هذه الأيام ذكرى عزيزة علينا جميعاً، إنها ذكرى تحرير القدس على يد القائد صلاح الدين الأيوبي-رحمه الله-، ففي اليوم الثاني من شهر أكتوبر سنة 1187م حرّر القائد صلاح الدين الأيوبي مدينة القدس من الاحتلال الصليبي، وطَهَّرَ المسجد الأقصى من دنسهم، بعد أن كانت هذه المدينة المقدسة أسيرة لثمانية وثمانين عاماً في أيدي الاحتلال الفرنجي (الصليبيين)، دون إراقة المسلمين لقطرة دمٍ واحدة من الغُزاة، وهي التي سبحت فيها خيول الصليبيين في دم المسلمين، وقد تحرَّرت مدينة القدس في ذكرى إسراء الرسول- صلّى الله عليه وسلّم-من مكة المكرمة إليها وذلك في يوم الجمعة 27/رجب /583هـ وفق 2/أكتوبر/1187م.
من المعلوم أنَّ القائد صلاح الدين الأيوبي –رحمه الله- يُعَدُّ من أشهر الشخصيات العسكرية والسياسية التي يتناولها الدَّارسون في تاريخ الإسلام، فقد حَمَلَ هموم الأمة في قلبه وعقله، فجمع الشمل، وَوَحَّدَ الكلمة ،ورتَّب الجيوش، فكان النصر حليفه، ولمّا استعصى فتح مدينة عكا على القائد المسلم صلاح الدين، استعان بإخوانه من بلاد المغرب العربي الذين أرسلوا أسطول المُوَحِّدين لمساندته، وفعلاً تمَّ فتح مدينة عكا، وشارك هؤلاء الجند مع القائد صلاح الدين في فتح المدينة المقدسة، وأوقف عليهم القائد صلاح الدين وولده الابن البكر عليّ وقفيةً في المدينة المقدسة عُرِفت بوقفية الملك الأفضل تقديراً لجهودهم في تحرير المدينة المقدسة، وأسكنهم حارة المغاربة بجوار المسجد الأقصى، هذه الحارة التي هدمها الاحتلال الإسرائيلي وأزالها عن الوجود بعد احتلاله للقدس عام 1967م.
وها هو التاريخ يُعيد نفسه، لنعيش نحن أبناء هذا الجيل، أقسى مراحل تاريخنا، مرحلة النكبة المشؤومة، وضعف وتفكُّك الأمة العربية والإسلامية ، وكيف عَدَا عليها الحاقدون من كلّ حدب وصوب، فاستباحوا أرضها ، ونهبوا ثرواتها، وَدَنَّسوا مقدساتها، وها هي القدس يسعى المحتلون الإسرائيليون لتكون عاصمة لهم، ويعملون على تهويدها، حيث إنهم يُخَطِّطُون لمدينة القدس أنْ تندثر وأنْ يندثر أهلها ، ولكنّ القدس ستبقى إسلامية الوجه، عربية التاريخ، فلسطينية الهوية، ولن يسلبها الاحتلال وجهها وتاريخها وهويتها مهما أوغل في الإجرام وتزييف الحقائق.
إِنّ القدس في هذه الأيام تتعرض لِمِحْنَةٍ من أشدّ المِحَن وأخطرها، وما يحدث من جرائم في حيّ الشيخ جراح وحيّ البستان وفي سلوان والعيساوية وغيرها إلا دليل على ذلك، كما يتعرض قلب المدينة المقدسة المسجد الأقصى المبارك لاعتداءات عديدة، فاقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى في الأيام الأخيرة قد تصاعدت وتيرتها، حيث قاموا برفع العلم الإسرائيلي وأداء الطقوس التّلمودية والنفخ في البوق داخل المسجد، تحت حماية قوات الاحتلال الإسرائيلي التي تسعى لفرض سيطرتها عليه، وتنفيذ مخططاتها الإجرامية بالتقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى المبارك-لا سمح الله-.
وتأتي ذكرى تحرير القدس هذا العام في ظِلِّ الظروف الصعبة التي يمرّ بها شعبنا الفلسطيني ومدينتنا المقدسة وقضيتنا العادلة؛ لذلك فإنّ عاصمتنا الأبدية مدينة القدس الحبيبة تُخاطب الأمتين العربية والإسلامية، قائلة لهم: لقد طردوا أبنائي وَنَكَّلُوا بهم، وَشَوَّهُوا صورتي العربية والإسلامية، وَحَالُوا بين أحبائي من العلماء والخطباء والسّدنة والمرابطين من الوصول إليّ لتكتحل عيونهم بالصلاة في المسجد الأقصى والدفاع عنه، وَعَزَلُوني عن مُحيطي الفلسطيني بجدارِ الفصل العنصريّ الذي قَضَمَ الأرض، وبإقامة آلاف الوحدات الاستيطانية لِطَمْسِ الهوية الإسلامية العربية الفلسطينية داخل أَحْيَائي، وفرضوا الضرائب الباهظة على أهلي، كي يُجبروهم على الرّحيل من أرض الآباء والأجداد، وهدموا البيوت، وصادروا الهويات، وَزَيَّفُوا التاريخ، و ما زالوا يعملون على تهويدي بكافة السُّبُل المُتَاحة، من خلال إقامة الكُنُس، وعملهم الدؤوب لهدم وإزالة لؤلؤتي المسجد الأقصى المبارك، كي يُقيموا هيكلهم المزعوم بدلا ًمنه، وما اقتحاماتهم اليومية للمسجد الأقصى تحت حماية قوات الاحتلال عنا ببعيد!.
لذلك فإنني أناشدكم يا أبناء الأمتين العربية والإسلامية أَلاَّ تنسوا مسرى نبيكم محمد- صلّى الله عليه وسلّم- وأهله، وأن تعملوا جاهدين على المحافظة على هذه المدينة المباركة و حماية أقصاها ومقدساتها، فهي بحاجة إلى خُطوات فعلية تُسهم في المحافظة على عروبتها وإسلاميتها ودعم صمود أهلها، فالواجب عليكم دعم أشقّائكم المقدسيين في شَتَّى المجالات كي يبقوا مرابطين ثابتين فوق أرضهم المباركة؛ لأنّ المواطن المقدسي وشقيقه من فلسطينيي الداخل هم الذين يدافعون عن الأقصى والقدس والمقدسات صباح مساء.
إِنَّ شعبنا الفلسطيني اليوم وفي ظِلِّ الظروف الصعبة التي يَمُرُّ بها أحوج ما يكون إلى الوحدة، فالقدس لم تُحَرَّر عبر التاريخ إلا بالوحدة، ولن تتحرّر إلا بالوحدة، فإذا كنا مُوَحَّدين فإنّ جميع المؤامرات ضدّ شعبنا الفلسطيني سيكون مصيرها الفشل بإذن الله، فعلى صخرة الوحدة تفشل التهديدات وتتحطَّم المؤامرات الخبيثة التي تُُحاك ضِدّ شعبنا المرابط وأرضنا المباركة.
إننا على ثقة ويقين بالله سبحانه وتعالى بأنّ بلادنا المباركة ستلفظ هذا المحتلّ إن شاء الله، فما زالت الآيات القرآنية تتردّد على مسامعنا: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا }، لتقول لنا جميعاً: سيأتي الفرج بعد الضيق، واليُسْر بعد العُسْر، فلا نحزن، ولا نضجر، فلن يغلب عُسْرٌ يُسْرَين بإذن الله، فديننا الإسلامي الحنيف حرَّم اليأس وأوجد البديل وهو الأمل ، وهذا ما علَّمنا إِيّاه رسولنا محمد –صلّى الله عليه وسلّم- عندما قال لِسُراقة بن مالك يوم لَحِقَ به أثناء الهجرة: عُدْ يا سُراقة وإنني أَعِدُكَ بسوارىِ كسرى، ما الذي دفع الرسول – صلّى الله عليه وسلّم – إلى قول ذلك ، إنه الأمل والثقة بنصر الله عزَّ وجلَّ، لأنّ الله لا يُخلف وعده، فالليل مهما طال فلا بُدَّ من بزوغ الفجر، وإِنّ الفجرَ آتٍ بإذن الله ، فقد لفظت فلسطين المحتلين عبر التاريخ، فعلى أرضها المباركة هُزِم الصليبيون في معركة حطين، كما وهُزِم التَّتَار في معركة عين جالوت، ووقف نابليون بونابرت القائد الفرنسي عاجزاً عن احتلال مدينة عكا، وألقى بِقُـبَّعَتِهِ من فوق أسوارها، فهذه المدينة المُـقدسة ستلفظ إن شاء الله هذا المحتل كما لفظت مَنْ سبقه من المُحْتلين، ويسألونك متى هو ؟! قُلْ عسى أن يكون قريباً .
نسأل الله أن يحفظ شعبنا والقدس والأقصى والمقدسات وفلسطين من كلّ سوء
وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت