- بقلم سند ساحلية
من لا ماضي له لا مستقبل له، ومن نسي تاريخه نسيه التاريخ، لذلك يبدو عجيبا وغريبا تغييب وجهل كثير من العرب والمسلمين بجزء مهم ومفصلي من تاريخ المشرق، والقصد هنا هو التأثير المسيحي، أو مساهمة المسيحيين وتأثيرهم على الحضارة العربية الإسلامية، الذي تتجاهله مناهج التعليم العام، والرواية الرسمية لدولنا ومؤسساتنا، بل يكاد يغيب عن الدراسات الأكاديمية في جامعاتنا!
لماذا إذن يغيب من تاريخنا العربي مسيحيو المشرق، وتأثيرهم البارز والريادي على الحضارة والثقافة واللغة والعمارة والفن العربي الإسلامي، والتعليم، وحركة الترجمة وبناء مؤسسات الدولة في كل العصور العربية والإسلامية المتلاحقة بما في ذلك العصر الأموي والعباسي وفي الاندلس، والفاطمي والمملوكي والصفوي والعثماني، وعلى النهضة العربية الحديثة في العالم العربي المعاصر؟!
لماذا لا يتم تناول وطرح مسألة الحضور المسيحي وغيره من مكونات المشرق، من خلال مفهوم العيش المشترك، قبل الدولة الاسلامية والإسلام السياسي، وعبر مفهوم المواطنة مع نشوء الدولة الحديثة، خاصة في ظل ما يسود هذا المشرق من توترات ونزاعات واقتتال على خلفيات مذهبية واثنية وسياسية؟
لقد اعتمدت الدولة الإسلامية على المسيحيين في العديد من الصنائع والفنون بما في ذلك بناء الأسطول البحري، وإدارة الدولة وإنشاء وتعريب الدواوين، وأبقوهم على رأس وظائفهم، ولم يقتصر الأمر على موظفي الإدارة، بل تعداه إلى الوظائف الكبيرة في الدولة، فقد عمل السريان اليعاقبة والنساطرة خلال العصر العباسي في الترجمة والعلوم والفلك والطب فاعتمد عليهم الخلفاء والوزراء وسائر رجال الدولة.
ولذلك فإن من الإنصاف للحقيقة والتاريخ، تعريف اجيالنا بمساهمات مسيحيي هذه البلاد الريادية والفعالة في حضارة المشرق بشكل عام وفي الحضارة العربية الإسلامية تحديدا، خاصة خلال فترة نشوئها المبكرة. وان ألمسيحيين ساعدوا في التهيئة للإسلام وانتصاره على المعتقدات الوثنية القديمة، وعملوا منذ القرن الأول الهجري على تدعيم أركان الدولة الإسلامية إبان موجات الفتوحات العربية، وفي تثبيت أركان الحكم، دون التخلي عن ديانتهم وأرضهم ومعتقداتهم، واستمروا في أداء أدوارهم الحضارية فكريا ومعرفيا وتوعويا في المشرق بأكمله، فبقي التغالبة في منطقة الجزيرة وعموم بلاد الشام، والموارنة في لبنان، والأقباط في مصر وكان مسيحيو الشام من القبائل التغلبية التي شكلت سندًا للأمويين في الجيش.
وكان للمسيحيين العرب، أو المتعربين في الشام والعراق ومصر، إلى جانب المسيحيين الآشوريين والسريان والأرمن والروم دور كبير في بناء الحضارة الإسلامية، وتعليم اللغات كاليونانية للمسلمين، وترجمة أعمال الفلاسفة اليونانيين الى السريانية ثم الى اللغة العربية، حيث برع المسيحيون في الفلسفة والعلوم واللاهوت والطب. لسبب غاية في البساطة يجدر بأجيالنا الناشئة أن تعيه وتعرفه وهو ان المسيحيين جزء لا يتجزأ من نسيج هذه الأمة وماضيها وحاضرها ومستقبلها، وان الحفاظ على استمرار وجودهم يمثل حفاظا على مصدر للقوة والإضافة كما أنه ضرورة وحاجة لبناء الدول الحديثة التي تقوم على قاعدة المواطنة، ولا يمكن الاستغناء عنهم، وان الخاسر الأكبر من هجرتهم الى الغرب هم العرب والمسلمون، فبهجرتهم يغدو العالم العربي أكثر ضعفا ووهنا على وهن.
أما مسيحيو المشرق العربي، فعليهم ان يتوقفوا عن النظر لأنفسهم بأنهم "أقلية"، ففي ذلك تجاهل وتصغير لكونهم عربا، وكيف ذلك والعرب أكثرية في اوطانهم. ان هذه النظرة لأنفسهم تضعهم على هامش التاريخ، وتعزلهم عن الدور السياسي والوطني والتنويري والثقافي الذي لعبوه في المنطقة.
يخبرنا التاريخ أن نبي الاسلام محمد «ص» لم يأتمن على أصحابه إلا لملك مسيحي في الحبشة هو النجاشي، وذلك خلال البحث عن مكان آمن للمسلمين المضطهدين من قومهم وبني جلدتهم من قريش، بعد ان ضاق بهم تيار الشرك في مكة ورفض عتاته وجودهم آنذاك، فأشار النبي عليهم بالهجرة الى الحبشة، وهو يراها ارض عدل، بعين الأمل والاطمئنان لأن فيها ملك عادل! (لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن فيها ملك لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه). ولم يسبق أن مدح النبي محمد «ص» ملكا في حياته كلها لا قبل النبوة ولا بعدها سوى النجاشي. من جانبه لم يخذل النجاشي النبي وظنه الحسن به، فأكرم أصحابه وأحسن إليهم وآواهم ووفر لهم الأمان ورفض كل المغريات، ووقف في وجه المؤامرات، ورد وفد قريش خائبا.
لذلك يبدو غريبا الآن سكوت العرب والمسلمين وغضهم الطرف عما يتعرض له المسيحيون في المشرق من قتل وتهجير واضطهاد وتشريد! والأغرب ان يقف العرب والمسلمون مكتوفي الايدي امام مشاهد التشرد والجوع والذل للمهجرين والمشردين من منازلهم الى مخيمات اللجوء في المشرق ومآوي اللجوء في الغرب!
من المفيد في هذا المقام تذكير الأجيال برمز الكرم عند العرب جميعا عبر تاريخهم كله، وهو حاتم الطائي، ذلك الشاعر والزعيم القبلي المسيحي العربي، وارث صفات الجود والسخاء والكرم، ودائم الحث على مكارم الأخلاق، الذي كان يضحي بأغلى ما لديه من أجل عابرين لا يعرفهم حلوا بجواره! وهو الذي يقول في قصيدته مخاطبا زوجته ماويا بنت عبد الله:
أيا ابنة عبد الله وابنة مالك..
ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد..
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له..
أكيلاً فإني لست آكله وحدي..
أخا طارقاً أو جار بيت فإنني..
أخاف مذمات الأحاديث من بعدي..
وإني لعبد الضيف ما دام ثاوياً..
وما فيّ إلا تلك من شيمة العبد...
ويخبرنا التاريخ أيضا أن النبي «ص»، وعندما جيء بسبايا قبيلة طيء بعد هزيمتهم وفرار زعيمهم عدي بن حاتم، تكلمت من بينهم امرأة فصيحة بليغة، ودعت النبي «ص» إلى أن لا يُشمت قبائل العرب بها، وحين علم أنها سفانة بنت حاتم الطائي أمر بإطلاق سراحها ومن معها، وقال " أطلقوا من معها كرامة لها ولأبيها" وردّ عليهم ما غنموه منهم وأرسل معهم علي بن أبي طالب.
لقد كان للمسيحيين أيام الرسول «ص» الحق في ممارسة شعائرهم الدينية ولم يكرههم على الدخول في الدين الإسلامي، وعقد المعاهدات معهم مثل معاهدة نصارى جرباء وأذرح ونصارى نجران ونصارى أيلة، بحيث يأمنون فيها على أنفسهم وأموالهم من الاعتداء، وكانت أبرز سمة اتسمت بها معاهدات الرسول «ص» مع المسيحيين هي روح المحبة والتقدير والتكريم للآخر.
أين الذين يريدون الترويج لثقافة الكراهية والذين لا يناسبهم التاريخ المشترك، من أخلاق النبي «ص» في تعامله مع الآخر؟!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت