- المحامي علي ابوحبله
في كتابه «سيكولوجيا القطيع»، الصادر عام 1895، يحدد غوستاف لوبون أعراض تحكم القطيع بصناعة القرار من خلال نشر الشائعات وترويجها ورفعها إلى مرتبة الحقائق التي لا تقبل النقاش، وذلك عبر توسيع دائرة الشائعة من الوحدات الفرعية إلى الوحدات الرئيسة حيث تتمً صناعتها عبر الفرد فالأسرة ثم القرية والمدينة وصولاً إلى المجتمع كله. ولا شك أن تطور وسائل الاتصال والــتـــواصل الاجتماعي جعل بإمكان مجموعة محدودة من الأفراد صناعة عقلية القطيع في زمن قياسي من خلال إتباع الأساليب ذاتها التي أشار إليها لوبون.
إلا أن الجديد هنا أنه بينما كانت الجماهير لا تدعي المعرفة وتستند فقط إلى قوة التكاتف بين أفرادها اعتماداً على القـــوة العـــددية والشحن المعنوي، فإن التأثير العاطفي من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والقدرة على إثارة ومناقشة القضايا بعيداً من المــــنطق والموضوعية وضع تحديات عديدة أمام مؤسسات الدولة ونخب المجتمع. فبينما يفترض أن تُناقش القضايا المهمة والمصيرية في جو موضوعي، استناداً إلى آراء الخبراء والمختصين، من خلال تحليل وافٍ يأخذ في اعتباره الحجج والأسانيد، ويتيح الـــفرصة لذوي الشأن لتصدر المشهد، نجد أن وسائـــل التواصل الاجتماعي مدعومة بوسائل الإعلام وبرامج «التوك شو»، تقود المناقشة في أحيان كثيرة بعيداً من الموضوعية، ويصبح من السهل طغيان الجانب اللاموضوعي على المشهد لنجد المنتج النهائي مجرد خلاصة لأفكار وشعارات لا تبعد عن الغوغائية بقدر ما تقترب أكثر من فكر المزايدة والتخوين.
ومما يزيد من خطورة الأمر أن هذا السلوك الغوغائي كفيل بتجريد الأفراد من صفاتهم الإيجابية عبر دفعهم نحو عقلية القطيع التي لا تترك أي مجال لمرونة التفكير وعقلانية السلوك، إذ تظهر نتائج المسوح الاجتماعية في دول عدة أنه من الصعب جداً تراجع الشخص عن موقف اتخذه من خلال معطيات لا عقلانية إلا من خلال حدوث تغير نسقه الفكري كلية. وهو أمر نادر الحدوث في عالمنا، حيث لا تزيد نسب احتمال تغير النسق الفكري على 5 في المئة عالمياً.
ومن بين النتائج الخطيرة التي تترتب على هذه الحالة التي تختلط فيها مجموعة من الظواهر المتشابكة كالتشويش السياسي والاحتقان الاجتماعي واختلال الأولويات الاقتصادية، والرغبة في الخروج من سلطة المؤسسات الرسمية واستبدالها بهياكل جديدة تحت وهم الاعتقاد بأن الحرية لا تتحقق إلا بالتدمير... من بين هذه النتائج تآكل مفهوم المسؤولية الفردية والجماعية، حيث يعتمد الفرد على وجود ظهير سياسي وإعلامي يسانده في المواقف كافة بصرف النظر عما إذا كان منتهكاً للقانون أم لا، إذ تعوضه الشهرة التي تتحقق له عن أي ثمن يدفعه.
إن من أخطر الظواهر التي تتعرض لها مجتمعاتنا العربية تحول بعض الأفراد المنخرطين في مجموعات فوضوية إلى رموز تحاول التحكم في مصير الشعوب العربية من خلال الترويج لأفكار لا تجد لها مجالاً سوى في ما أشار إليه لوبون عن السلوك الغوغائي، ويظن هؤلاء في أنفسهم القدرة على الإدلاء برأيهم في المجالات كافة حتى لو وصل الأمر إلى حقول تتطلب خبرة متراكمة لا تتوافر إلا لمن خصص عقوداً من عمره للتخصص والتبحر، ومن بين هذه الحقول القانون الدولي والجغرافيا السياسية والمالية العامة وغيرها.
وللأسف الشديد فما يحوزه هؤلاء من شهرة سهلة تمثل أحد أهم المسببات التي يكون من شأنها على المدى البعيد خلخلة الدول من خلال إشاعة حالة من الإحباط والتخبط. فليس أشق على عالم حقيقي أن يرى من هم دونه علماً وخبرة يتصدرون للإفتاء في كل شيء. إن أحد أهم العوامل التي ساهمت في ظهور الفكر الغوغائي وأدت بنا إلى في متاهة الفكر وفقدان بوصلة الحقيقة هو ، اتساع دائرة الفتوى والتحليل السياسي وغيره من القضايا الملحة لدرجة كاد فيها الإفتاء والفكر الغوغائي أن يصبح مشاعاً، فتصدى له من ليسوا جديرين بالخوض فيه، وأصبح الدعاة الجدد الذين لم يدرسوا أصول الفقه والشريعة أو أولئك الذين نصبوا من أنفسهم أدعياء في السياسة وتوجيه الرأي العام وبعضهم اليوم نجوم فضائيات، واجتذبهم الغريب والمتروك والمهجور والملفوظ، وسادت حالة من التشوش أصبح معها الفرد العادي لا يعرف وجهته، ولا لمن يلجأ لطلب الرأي والمشورة، فظهر من أفتى وحلل وقال وشرح بغير علم فَضَلَّ وأضَلَّ، وكان من الطبيعي أن يظهر هذا الانحراف في الفكر الذي أصبح له مصطلح الفكر التكفيري أو الشعوبي وغيرها من التسميات إلى ما شاء الله . علينا أن نتفكر في الآثار البعيدة لحالة الخلل والمتاهة وفقدان البوصلة التي تمر بها مجتمعاتنا العربية ومجتمعنا الفلسطيني ، وأن نسعى للرصد المبكر لما يمكن أن ينتج عنها من بث للأفكار وتسميم للأجواء وهول الكارثة التي ستتحقق إذا استسلمنا للفكر الغوغائي ، ومجتمعاتنا العربية والفلسطيني تزخر بكفاءات تستحق أن تتصدر المشهد فتبني وتُشيِّد بدلاً من الهدم والتفكيك التي يخلفها الفكر الغوغائي بحيث بات يضرب مفاصل المجتمع وبنيته وبنيانه .
ويكتشف الفرد وهو في منتصف الطريق أنه أضاع بوصلة الاتجاه، فلا يدرك بعدها في أي اتجاه يسير، وربما يحاول أن يدرك الاتجاه الصائب، لكنه يخطئ مرة أخرى، فيعود صفر اليدين مشوش التفكير، بسبب إعادة الخطأ مرة أخرى.. فهل كان اختياره للطريق منذ البداية خاطئ أم أن هناك ما هو أعمق من ذلك؟ وهذا يدفعنا إلى ضرورة التصدي للفكر الغوغائي المدمر الذي يهدف لتدمير كل مكونات شعبنا وإخضاعه للاشاعه المدمرة والمعلومة الخاطئة التي تنتشر في المجتمع كالهشيم عبر مواقع التواصل الاجتماعي وغير من وسائل الإعلام المتاحة وحقيقة القول أن هناك من يحاول العبث بأمن وسلامة المجتمع واستهداف مكوناته بمختلف تسمياتها بهدف الوصول إلى حاله من الضياع والتفكك والتشكيك وهذا ما نشهده اليوم من حرب بيانات وتصريحات ومفبركات تهدف إلى أن تكون الاشاعه المغرضة هي الوسيلة لتدمير المجتمع والاشاعه وسيلتها عبر الفكر الغوغائي المضلل فهل من موقف يقود للتصدي للحالة التي وصل إليها مجتمعنا وتتطلب من الإعلاميين وأصحاب الفكر ورجال الدين والسياسيين للتصدي للغوغائية ووضع حد للغوغائيين الذين يضلون المجتمع ويخضعونه لحالة المتاهة في الفكر وفقدان بوصلة الحقيقة
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت