- د. فايز أبو شمالة
سمعنا بقصة الحطّاب الذي اختار التضحية بولده ونفسه دفاعاً عن قريته، ورددنا القصة أمام الناس، وعلى مسامع طلابنا، وتحدثنا بها في غرف السجن المظلمة، وفي مجالسنا صباح مساء، دون أن نسأل بعض الأسئلة الهامة، عن السبب الذي جعل الحطاب يقدم على التضحية دون تردد، وبلا وجل!
فماذا تقول القصة؟
تعوّد حطّاب أن يصطحب معه ابنه إلى الغابة القريبة من قريتهم، يحتطب لأهل القرية بما يكفيه طعام أسرته، وفي يوم من الأيام، أمسك به الغزاة، وهددوه بالموت هو وولده أن لم يرشدهم إلى أقصر الطرق المؤدية إلى قريتهم، ليفاجئوا المدافعين، ويحتلوا القرية بسهولة!
وحين تأكد للحطاب جدية التهديد، أشار إلى ابنه الذي يقف إلى جواره وقال للغزاة: اذبحوا ابني هذا أولاً، بعد ذلك أدلكم على أقصر الطرق للقرية، لتفاجئوا أهلها، وتغتصبوا نسائها
تعجب الغزاة من الحطاب، وسألوه: كيف ترشدنا إلى القرية بعد ذبح ابنك؟
قال الحطاب: أخشى أن أرشدتكم إلى القرية أن يشي بي ابني هذا، ويعاقبني أهل القرية.
وذبح الغزاة ابن الحطاب أمام عينيه، وقالوا له: الآن أنت حر، ارشدنها إلى طريق القرية.
ابتسم الحطاب ابتسامة المنتصر، وقال للغزاة: كنت أخشى أن يضعف ابني، ويشي لكم عن طريق القرية.
أما الآن، وقد مات، فلن أدلكم على طريق القرية، حتى ولو قطعتم من لحمي.
فلماذا ضحى الحطاب بولده حماية لأهل قريته؟ لماذا استعد أن يتحمل عذاب الأرض، دون أن يشي للغزاة عن طريق القرية؟ لماذا لم يأخذ الحطاب أجراً على عمالته وخيانته لوطنه؟
لقد عثرت على الجواب من خلال الواقع الفلسطيني، فقد كان الحطاب واثقاً أن مختار القرية لن يستسلم للغزاة، وأنه على استعداد لأن يفتدي أهل قريته بماله وعياله، فكان مختار القرية هو النموذج الذي حاكاه الحطاب، ولو أدرك الحطاب أن مختار القرية ينسق ويتعاون أمنياً مع الغزاة، وسيبيعهم نساء القرية سبايا، وسيقبض مالاً مقابل أعناق شباب القرية، لكان الحطاب أولى بالرشوة، وأحق بالتجسس لصالح الغزاة، وبغض النظر إن كان هذا التجسس على دولة مثل تركيا أو إيران أو غزة أو حتى اليمن، فحين تصير الخيانة وجهة نظر، وتصير الخيانة فلسفة يحتمي بها المنتفعون، تضنُّ التضحية بالولد والنفس والمال، كي لا تغدو بلا جدوى.
والناس على دين مخاتيرهم، فإن كان المختار وفياً اتّبعه القوم، وإن كان المختار دنيّ النفس كان القوم منحطين في سلوكهم وفي تفكيرهم، وإن كان المختار متسولاً يمد يده للغازي والنازي، يصير التوسل من طباع الناس، ويفقدوا كرامتهم، وإن كان المختار صنديدا ًمقاتلاً، ذا عزم وبأس، يصير القوم أهل تضحية وفداء.
ولو كان الحطّاب متشككاً بنهج المختار، ويظن السوء بقراره السياسي، وأنه سيوقع الاتفاقيات مع الأعداء، ويتخلى عن بناته وأبنائه، ويخونهم، ويتركهم أسرى في سجون الغزاة لأربعين عاماً، لما أقدم الحطّاب على التضحية، ولو تأكد للحطاب ان شغل المختار الشاغل هو التربح المالي، وبناء المؤسسات والمصالح والشركات لأولاده، لما ضحى الحطاب بولده، ولو كان الحطاب يتشكك بأن المختار سيعترف للغزاة بما اغتصبوا، ويقر بحقهم بسلب الأرض والعرض، لما أقدم الحطاب على التضحية.
مختار القرية هو العنوان، وهو الذي يوقظ الهمم إذا غفلت الجماهير، وهو الذي يصنع المزاج العام، فإن كان صالحاً وفياً، صلح المجتمع، واعتاد التضحية العطاء، وإن كان فاسداً هاملاً، أصابت عدواه المجتمع، وصار شبابه يفتشون عن فرصة عمل في مزارع الاعداء، ويمسحون بقمصانهم بلاد المصانع، إلّا من رحم ربي، وشق عصا الطاعة على المختار، وامتشق الكرامة، ومشى واثقاً نحو المستقبل.
ملحوظة: لقد أدركت من خلال قصة الحطّاب؛ أن الساسة هم مفسدة السياسة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت