عن التطبيع…

بقلم: سنية الحسيني

سنية الحسيني
  • د. سنية الحسيني

عندما نود الحديث عن التطبيع يتبادر إلى الأذهان مبادرة السلام العربية التي تقدمت بها السعودية لحل الصراع العربي الإسرائيلي، على أساس تنفيذ إسرائيل للقرار ٢٤٢ للعام ١٩٦٧، والذي يفيد بانسحابها من جميع الأراضي  التي احتلتها في ذلك العام، والذي يترتب عليه عندئذٍ إمكانية تطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل. وعلى الرغم من أن ذلك التطبيع قد بدأ قبل إعلان تلك المبادرة بسنوات، الا أنها وضعت أساساً مقبولاً لجميع الدول العربية للاتفاق حولها. ومن المفارقات أن قطار التطبيع انطلق، وشمل عدد كبير من الدول العربية، دون أن يتحقق الانسحاب الذي نص عليه ذلك القرار.

 

جاءت مبادرة السلام العربية من قبل المملكة العربية السعودية في إطار ظروف معينة، وحملت هدفاً محدداً. وقدمت السعودية المبادرة للولايات المتحدة كحسن نية، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام ٢٠٠١، في ذروة التنمر الأميركي على دول المنطقة، في ظل حربها على الإرهاب. وتقدم المبادرة بوصلة لحل الصراع العربي الإسرائيلي وتطبيع علاقات الدول العربية مع إسرائيل، على أساس ذلك الحل.  وكانت عدد من الدول العربية قد بدأت بنسج علاقاتها الرسمية وغير الرسمية مع إسرائيل، في أعقاب إتفاق أوسلو للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين عام ١٩٩٣ وإتفاق وادي عربه للسلام بين الأردنيين والإسرائيليين عام ١٩٩٤، على رأسها موريتانيا، التي أصبحت ثالث دولة عربية تعترف رسمياً بإسرائيل عام ١٩٩٩، إلى جانب مصر والأردن، بالإضافة إلى المغرب التي افتتحت وتبادلت مكتب اتصال مع إسرائيل عام ١٩٩٤. في أعقاب انتفاضة الفلسطينيين الثانية عام ٢٠٠٠، وبعد تكشف عدم نوايا إسرائيل بالانسحاب من الأراضي المحتلة وتسوية قضايا الحل النهائي مع الفلسطينيين، والحرب التي شنتها إسرائيل ضدهم، لتقويض قدرة ومكانة السلطة الفلسطينية ولردع المقاومة الفلسطينية بألوانها المختلفة، في عهد الرئيس الفلسطيني الراحل  ياسر عرفات، تعطل قطار التطبيع العربي مع إسرائيل، وجمدت الدول المطبعة كلياً أو جرئياً علاقاتها مع إسرائيل على رأسها المغرب، وجاءت المبادرة العربية كي تشكل بوصلة للتطبيع المستقبلي العربي مع إسرائيل.

 

ولكن ما الذي قلب المعادلة، وأوصل واقع التطبيع العربي مع إسرائيل إلى ما هو عليه اليوم؟ يرجع ذلك التطور إلى تبدل معادلات الصراع الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، والتي جاءت في إطار عهد "الحروب على الإرهاب"، والتي شنتها الولايات المتحدة في المنطقة، وكانت العراق أحد ضحاياه. مع سقوط بغداد عام ٢٠٠٣، بدأت معادلات الصراع في المنطقة تتغير، وباتت الولايات المتحدة تحشد ضد إيران، التي اعتبرتها أحد دول "محور الشر"، إلى جانب العراق وكوريا الشمالية. وتزامن ذلك مع توجهات إيران المعلنة بتطوير سلاحها النووي عام ٢٠٠٣، الذي اعتبرته إسرائيل تهديداً وجودياً لها. وأجبرت الولايات المتحدة الدول العربية، خصوصاً حلفاءها الأمنيين، ممثلين بدول الخليج، ليكونوا ضمن منظومة "الحرب على الإرهاب"، في ظل شعارها المعلن "من ليس معنا، فهو ضدنا. وجاء تنسيق تلك الدول العربية مع الشريك الإسرائيلي، ضمن ذلك السياق، والذي أصبحت فيه إيران العدو الرئيس لدول المنطقة وإسرائيل في تلك الفترة، حيث جرى تضخيم خطرها بشكل طردي مع تطور برنامجها النووي. وشكل الانقسام الفلسطيني، الذي جاء في سياق تلك التطورات الإقليمية، ذريعة لتجرؤ تلك الدول العربية لتطوير علاقاتها العسكرية والأمنية مع إسرائيل. وازدادت تلك المعادلة وضوحاً مع تطور الاحداث في المنطقة، وانفجار ثورات "الربيع العربي" مطلع العقد الماضي، وزيادة اعتماد الدول العربية السنية  في المنطقة على المنظومة العسكرية والأمنية الأميركية والإسرائيلية، لمواجهة تداعيات تلك الثورات، محلياً في بلدانهم، للتصدي لأي تحركات شعبية، واقليمياً في دول الجوار، لمواجه النفوذ الإيراني فيها.

  

ليس من الصعب رصد إرهاصات التطبيع غير المعلن بين دول عربية مع إسرائيل بعد مبادرة السلام العربية وقبل انفجار الثورات العربية، والتي كانت المملكة العربية السعودية، واضعة المبادرة العربية من بينها، وفتح ذلك باب التطبيع العربي غير المعلن واسعاً أمام دول عربية أخرى، لا تقع ضمن دائرة المنظومة الأمنية المحيطة بإيران، بل وبعيدة عنها. وتطور ذلك التعاون والارتباط العسكري والأمني السري أو التطبيع غير الرسمي لتلك الدول بشكل ملحوظ بعد الثورات العربية، والتي سعت إسرائيل لجني ثماره رسمياً، في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، عبر إتفاقيات التطبيع الرسمية. واليوم، تطبع معظم الدول العربية علاقاتها مع إسرائيل، وضمن مستويات مختلفة. هناك التطبيع الرسمي الكامل، وهو ما تتطلع اليه إسرائيل، والذي يشمل التطبيع الشعبي، إلى جانب التطبيع الرسمي، الذي يأتي على مستوى حكومات الدول. وتعتبر دولة الامارات العربية الدولة العربية الوحيدة التي وصلت لذلك المستوى من التطبيع. في حين تقع معظم الدول العربية الأخرى والمطبعة مع إسرائيل ضمن المستوى الثاني أو مستوى التطبيع الرسمي، بمن فيها مصر والأردن، اللتان ترتبطان مع إسرائيل بمعاهدات سلام. باستثناء دولة الإمارات العربية، فجميع تلك الدول التي تطبع رسمياً مع إسرائيل، بمن فيها البحرين، بالإضافة إلى المغرب والسودان، تقيم علاقات رسمية مع إسرائيل، في ظل عداء شعبي لدولة الاحتلال، الأمر الذي يسمح بوصف ذلك ب "التطبيع الخجول"، والذي يعكسه تجاهل إعلام تلك الدول لأي تطورات في ملف تطبيع بلادهم مع إسرائيل، لعدم اثارة الرأي العام فيها. كما أن الدول التي تطبع علاقاتها مع إسرائيل اليوم بشكل سري أو غير رسمي، مثل المملكة العربية السعودية وقطر وعمان وغيرها، تضع اعتباراً من بين اعتباراتها الأخرى لردة فعل شعوبها، التي تعادي إسرائيل علنياً.

 

رغم عدم انسحاب أي من الدول العربية المطبعة رسمياً مع الاحتلال من اتفاقيات التطبيع معها على خلفية تطورات حرب غزة الأخيرة قبل عدة أشهر، والتي اهتزت الأرض تحت أقدام المتعاطفين مع الفلسطينيين فيها، ليس في الدول العربية والإسلامية وحدها، بل في دول كثيرة من دول العالم، إلا أن على إسرائيل الا تطمئن تماماً إلى ذلك. لا يمكن اغفال دور الشعوب في عمليات التطبيع العربي مع إسرائيل، على الرغم من أن الأنظمة العربية القائمة في معظمها أنظمة غير ديمقراطية، أي لا تفرز الشعوب قادتها، ولا تعتمد سياساتها، حسب رأي الأغلبية. ويراعي الأردن، رغم علاقة الشراكة الأمنية والاقتصادية الكبيرة مع إسرائيل، توجهات الرأي العام فيه، فيما يتعلق بالعلاقة مع إسرائيل، وأثبتت أكثر من مناسبة، اهتمام الأردن اعلامياً بهذا الجانب. كما تستخدم مصر توجهات الرأي العام فيها والمناهضة للتطبيع، لتحصل على أكبر مكاسب إقتصادية وأمنية من علاقتها بإسرائيل، دون أن تتحمل في المقابل سلبيات تلك العلاقة، وذلك بالتطبيع على المستوى الثقافي والأكاديمي، ما يجعل مصر تحافظ على شكل "السلام البارد" مع إسرائيل. وترى الكويت نفسها أنها آخر الدول العربية التي يمكن أن تطبع علاقاتها مع إسرائيل، انطلاقاً من أن الكويت أكثر دول الخليج اهتماماً بالممارسات الديمقراطية، والتي يجسدها مجلس النواب الكويتي اليوم. كما أن الكويت يسودها نخب سياسية لاتزال متأثرة بالحس القومي العربي، والذي يحمله الكثيرون من الاجيال المتوسطة والكبيرة ليس في الكويت فقط وإنما في باقي الوطن العربي. ولا تخفي إسرائيل قلقها من خطر الرفض الشعبي لها على مستقبل اتفاقيات التطبيع مع الدول العربية، وتعتبر أن النموذج الأفضل لذلك التطبيع هو ذلك التطبيع الكامل الذي يجمعها مع دولة الامارات العربية، والذي يعتمد إلى جانب التطبيع السياسي والدبلوماسي والاقتصادي والأمني والعسكري، الجانب الثقافي والأكاديمي والديني. إن التطبيع الكامل الذي تنشده إسرائيل يمس العلاقة المباشرة مع الشعوب، ويحدث التغير الأيديولوجي الذي تتطلع اليه، حتى وإن استغرق  ذلك التغيير سنوات، خصوصاً وأنها تضع بعين الاعتبار أن التطبيع الرسمي لم ينجح، رغم مرور عقود، في إحداث التغيير الأيديولوجي الذي تريده، في عقول الشعوب العربية، والمثل المصري والأردني دليلاً على ذلك.

 

تعطي إسرائيل اهتماما بالغاً بالتطبيع مع الدول العربية، لأن ذلك التطبيع يغير معادلة الصراع مع الفلسطينيين، فلا يجبرها على حله في النهاية، في ظل تحييد عامل القوة العربي، الذي يمتلكه الفلسطينون. ويضمن وصول إسرائيل إلى الشعوب العربية تدريجياً، عبر عمليات التطبيع الرسمي، مستقبل ذلك الصراع، حتى وإن تغيرت الأنظمة. وربما ما كان لإسرائيل أن تتجرأ وتعلن صراحة عن موقفها بعدم نيتها حل القضية الفلسطينية، سواء في نهاية عهد بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أو في عهد نفتالي بينت، رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي، الا في ظل تلك الظروف التي تميزت بتوقيع إتفاقيات التطبيع مع أربع دول عربية العام الماضي، وتحسن علاقاتها مع الدول العربية عموماً. إن ذلك يفسر أيضاً كم "الهدايا" التي تقدمها إسرائيل للدول العربية المرشحة لتكون التالية على قائمة المطبعين الرسميين، أو تلك المطبعة معها بالفعل، واستخدام حليفها الأميركي في الأساس، الذي يمتلك قدرة خاصة لتقديم مثل تلك المحفزات أو حتى استخدام التهديدات، لاجل تحقيق ذلك الغرض. وتشهد المساومات التي عاشتها كل من المغرب والسودان قبل توقيع إتفاق التطبيع مع إسرائيل العام الماضي على ذلك. ورغم ذلك، يبقى الفلسطينيون في صراع مفتوح مع احتلالهم، لتحرير أرضهم، وستبقى الشعوب العربية، داعمة للحق العربي في فلسطين، ومدافعة عن مقدساتها الدينية وعن جزء أصيل من إرثها التاريخي والحضاري في فلسطين، كما أن معادلات الصراع لا تبقى ثابتة، فهي دائماً مؤهلة للاختلال والتبدل، وإنها لحرب مفتوحة، لا ينتصر فيها بالضرورة الأقوى.

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت