- بقلم: سند ساحلية
عندما احتلت فرنسا سوريا (1920 - 1946)، ودخل الجنرال غورو قائد الحملة الفرنسية الى دمشق، رفض فارس الخوري (1873 - 1962) وهو مفكر وسياسي بارز وزعيم وطني سوري وأحد الآباء المؤسسين للجمهورية السورية، مغادرة وطنه على غرار ما قام به الوزراء والنواب قائلا "نحن أهل البلد، ومن العار أن نتخلى عن مسؤولياتنا".
وعندما أبلغ الجنرال غورو الخوري بأن فرنسا جاءت لتوفير الحماية لمسيحيي المشرق، جاء رده بأن توجه إلى الجامع الأموي وصعد المنبر وقال مخاطبا المصلّين: "إذا كانت فرنسا تدّعي أنها احتلت سوريا لحمايتنا نحن المسيحيين من المسلمين، فأنا كمسيحي أطلب الحماية من شعبي السوري، وأنا كمسيحي من هذا المنبر أشهد أن لا إله إلا الله"، فحمله المصلّون على الأكتاف وخرجوا به في مظاهرة طافت أحياء دمشق، كما وخرج يومها المسيحيون في مظاهرات حاشدة يهتفون "لا إله إلا الله".
هذا هو النموذج الحقيقي للانتماء للوطن وقضاياه، وتجسيد لمفهوم المواطنة المشتركة، والتي جرى تعزيزها لاحقا حين استلم الخوري حقيبة وزارة الأوقاف الإسلامية، عندما تشكلت حكومة سورية في أواسط الاربعينات. وكان الخوري يحظى باحترام شديد لدرجة أن نواب الكتلة الاسلامية دعموه بالمنصب، وقال ممثلهم وقتها "عبد الحميد الطباع" أنهم يؤمّنون الخوري على مقدساتهم أكثر من أنفسهم.
ان الوجود المسيحي في المشرق سابق لوجود الدعوة الإسلامية، وجذور العرب المسيحيين ضاربة في هذه الأرض، وهم السكان الأصليون في بعض هذه البلدان، كبلاد الشام ومصر والعراق، وفي وقت لاحق تزامن الوجود المسيحي مع الوجود الإسلامي لأكثر من ألف واربعمئة سنة، وقد سادت ألفة وتعاون بينهم في مراحل عدة، وكان المسيحيون أول من حمى المسلمين الأوائل من بطش قريش وهجرتهم الأولى إلى الحبشة، فهم "أقرب الناس مودة للمسلمين"، وساهموا معا في بناء حضارة المشرق العربية والإسلامية منذ نشأتها.
المشهد مختلف الان؛ قلق متزايد وصرخات تعلو بشأن التراجع والانحسار الكبير للوجود والحضور المسيحي في المشرق، ولعل النزيف الصارخ والتحدي الاكبر لهذا المشهد هو الهجرة.
ان الهجرة المضادة للمسيحيين، تأتي على وقع أسباب عديدة ومتفاوتة من بلد الى اخر، ويمكن تركيزها في التالي: انكفاء ثقافة المواطنة وتنامي الأصولية الدينية والنهج الإقصائي، تراجع المشروع القومي والعربي، انتشار التوترات المذهبية والإثنية والسياسية والنزاعات الانفصالية والحروب الأهلية والإقليمية، الضائقة الاقتصادية وغياب سياسات التنمية المستدامة، تزايد الكراهية على أسس دينية ومذهبية، القتل وقصف المناطق السكنية وأماكن العبادة والخطف، وحدّث بلا حرج عن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
ومن الجدير بالتنويه بان الأسباب الآنفة الذكر أثّرت ليس فقط على المسيحيين بل وعلى المسلمين أيضا، ولكن الهجرة أكثر انتشارا بين المسيحيين لأنهم مواطنون يشكلون "أقلية" عددية، هذا دون اغفال للواقع بان مسيحيي المشرق تعرضوا ويتعرضون لحملات إساءة وتهجير في أكثر من بلد عربي بسبب انتمائهم الديني، وبأنهم تعرضوا لأعمال قتل وخطف وتهجير وتدمير لكنائسهم كما حدث في سوريا والعراق ومصر، من قبل جماعات تكفيرية وظلامية تدّعي انتسابها للإسلام.
للوهلة الأولى نستنتج انها أسباب موجبة لكافة أبناء المشرق من مختلف الأديان والمذاهب والقوميات، وليس فقط لمسيحييه! اذن لماذا تظهر عديد نتائج الاستطلاعات التي تشير إلى أن لدى المسيحيين رغبة في الهجرة بنسبة تفوق رغبة المسلمين؟
وهذا يقودنا إلى البحث في دوافع هذه الرغبة، والتساؤل: هل هذه هجرة جغرافية للبحث عن عيش كريم ومستقبل أفضل في مكان آخر، أم اغتراب بالجسد والذات وليس مجرد هجرة أعداد؟! وهل هي هجرة للمسيحيين من أوطانهم، ام هجرة للمسيحية من موطنها وجغرافية نشأتها؟! ولماذا ينظر كثير من مسيحيي المشرق لمجتمعاتهم بأنها لا تناسب تطلعاتهم الحضارية والاجتماعية، بينما يرون بالمجتمعات الغربية الأقرب لذاتهم، وبانها مجتمعات يمكن الاندماج فيها، حضاريا واجتماعيا وعلميا ودينيا وحتى علمانيا؟
عندما نشعر بعدم الانسجام والارتباط بالتاريخ والحضارة والمجتمع المحيط بنا، ولا نرى ذواتنا في الحاضر والمستقبل، وأننا مختلفون وغرباء، حينها تسقط صفة الانتماء، ويختل ارتباطنا بالمكان الذي ولدنا ونشأنا فيه، رغم ان الشعور بالانتماء هو شعور وراثي، ولكن دون تعزيز هذا الارتباط والانتماء بالتعليم والمعرفة والاطلاع على أصولنا وجذور أجدادنا القدماء الذين سكنوا الوطن من قبلنا، سيصبح هذا الانتماء هشا غير متجذر لا يركن اليه، وسيؤدي الى الضعف والتقهقر ويصبح اغترابا.
إذن المسألة تكمن في الانتماء بأنواعه، الوطني والديني والسياسي والفكري، وهنا يلتقي مفهوم الانتماء والمواطنة معا حيث لا يتحقق أي منهما بدون الآخر.
ان رؤية "مؤتمر فلسطين المسيحية" الذي سيعقد في الحادي عشر من كانون الأول بمدينة رام الله، تعبر عن ضرورة كتابة التاريخ المسيحي بشكله الصحيح، بعيدا عن التعصب وبشكل علمي ومنهجي، وبما يعبر عن انسجام والتصاق الحضارة المسيحية بالحضارة والثقافة العربية والإسلامية، التي لا يمكن أن تكون تعددية بلا وجود مسيحي.
ان تعزيز ثقافة الانتماء بشكل عام لدى الأجيال القادمة، تجاه وطنهم وتاريخهم وحضارتهم مسؤولية جماعية، فيما تتحمل المؤسسات التربوية والتعليمية المسؤولية الأكبر في نشرها وتعزيزها.
لماذا تتجاهل مناهج التعليم والرواية الرسمية، التاريخ المسيحي خلال القرون الستة الأولى من تاريخ بلادنا، مهد المسيحية وموطن السيد المسيح؟ ولماذا يغيب عن مناهجنا والدراسات الأكاديمية في جامعاتنا إلا ما ندر، تأثير المسيحيين منذ القرن السابع الميلادي، ودورهم ومساهمتهم وتأثيرهم على الحضارة العربية والإسلامية؟ اليس من الانصاف للحقيقة والتاريخ، تعريف أجيالنا بمساهمات اجدادهم، في حضارة المشرق العربية والإسلامية مما يعزز انتماءهم؟
ان تربية الأطفال المسيحيين والمسلمين في المشرق على نماذج مشرّفة، وقامات علمية وسياسية وادبية، وابطال ينتمون لوطنهم ودينهم وحضارتهم، يعزز انتماءهم وفخرهم بالوطن ويشكل طاقة وحافزا لهم لمواجهة المشكلات، كما يجب الحرص على تنمية ثقافة التعددية ونبذ المفاضلة على قاعدة الانتماء، وصولا الى صيغة "المواطنة المشتركة" المتساوية في الحقوق والواجبات.
هذا ليس موضوعا طائفياً، بل قضية وطنية من الدرجة الأولى للمسيحيين والمسلمين، ولمستقبل الوطن الذي نحلم به، ولحق التعددية الدينية والفكرية.
يرى القديس أوغسطين أبو اللاهوت السياسي، بأن المسيحي هو مواطن في مملكتين: مملكة الأرض ومملكة السماء، والمغزى هنا هو أن علينا حقا لكل منهما؛ فكما على المسيحيين حق لمملكة السماء بان يتأصلوا بالمسيحية عبر حياة جماعية مبنية على المحبة والرجاء، وتذكّر موت وقيامة المسيح وتوقع مجيئه، كذلك الوطن الأرضي ومسؤولية الحفاظ عليه وحمايته هو جزء لا يتجزأ من الإيمان المسيحي، هذا الإيمان الذي يجب ان يؤثر على الواقع وكافة مجالات الحياة ونوعيتها، والا أصبح ايمانا نظريا.
وقد كتب جبران خليل جبران قبل ما يزيد عن مئة عام في مهجره بأميركا: "أنا مسيحي ولي فخر بذلك، ولكنني أهوى النبي العربي، وأُكبر اسمه، وأحب مجد الإسلام وأخشى زواله، أنا شرقي ولي فخر بذلك، ومهما أقصتني الأيام، عن بلادي أظل شرقي الأخلاق سوري الميل، لبناني العواطف".
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت