- د. فايز أبو شمالة
لم تكن انتفاضة الحجارة هي الأولى في تاريخ الشعب الفلسطيني، لقد سبقت انتفاضة الحجارة الثورة الفلسطينية المسلحة، وسبقت الثورة المسلحة معارك المواجهة بين الشعب الفلسطيني والغاصبين طوال السنوات التي سبقت اغتصاب فلسطين 1948، وسبقت كل ذلك ثورة 1936، ولم تكن ثورة البراق 1929 هي أول الرصاص، ولا هي أول الحجار، فقد سبقتها ثورة 1920 في القدس، والتي عرفت بثورة النبي موسى، وهناك الكثير من الثورات والانتفاضات التي أربكت حسابات العدو الإسرائيلي وحلفائه.
ولكن ما يميز انتفاضة الحجارة أنها جاءت على غفلة من العدو، وشكلت مقتلاً لسياسته الأمنية، وشارك في الانتفاضة كل أبناء الشعب الفلسطيني، واشتملت على كل مدن وقرى ومخيمات غزة والضفة الغربية، بل وشكل فلسطينيو 48 ظهراً مسانداً لانتفاضة الحجارة، حيث كانت الشاحنات المحملة بالمواد الغذائية، تعبر الحدود إلى مدن وغزة وقرى الضفة الغربية، في موقف تضامني، يعكس المشاعر الوطنية الموحدة لكل الفلسطينيين.
شخصياً، كنت في سجن نفحة الصحراوي حين سمعت عن مظاهرات انطلقت من مخيم جباليا، وانتقلت في اليوم التالي مباشرة إلى الضفة الغربية، شعرنا بالفرح كأسرى فلسطينيين لهذا الحراك، ورحنا نسأل الله أن يشد من أزر شعبنا في مواجهة جلاديه.
في اليوم التالي تواصلت المظاهرات، وعلى كافة المستويات الشعبية والجغرافية، وهذا زادنا ثقة بأنفسنا، وأعطانا قيمة، وأشعرنا كأسرى بسلامة خطنا المقاوم، الذي أوصلنا إلى السجن، ونحن نسأل الله فيما بيننا أن تستمر هذه المظاهرات يوماً آخر على أقل تقدير.
في اليوم الثالث زاد لهيب المواجهات، وارتفع عدد الشهداء والجرحى، وارتبك الجيش الإسرائيلي، فصار حديثنا خلف الأسوار عن الأحداث التي تشهدها الأرض المحتلة، وعن التوقعات بأن تستمر المظاهرات يوماً أو يومين، حتى ينتزع الخوف من قلوب شبابنا، وتنكسر غطرسة وصلافة المحتل.
في اليوم الرابع من الانتفاضة كانت السجون تكبر وتهلل فرحاً، فهذه أحداث لم نشهد لها مثيلاً من قبل، فقد تعودنا على يوم أو يومين من المظاهرات، ولم نشهد من قبل أربعة أيام متواصلة من الخروج الجماهيري الحاشد ضد الاحتلال، ولم نعرف من قبل مثل هذا القمع الوحشي لطلاب المدارس، بما في ذلك منع التجول على مئات الألوف من الشعب الفلسطيني.
في اليوم الخامس استبشرنا الخير خلف الأسوار، وقد شكل مشهد المتظاهرين وهم يلقون الحجارة على الدوريات الإسرائيلية مدرسة ثورية، وكان أكثر ما شدنا منظر الشباب الفلسطيني؛ الذي يواجه بنادق الاحتلال بالصدور العارية، لقد صرنا نحن الأسرى أكثر فخراً بأنفسنا، وأكثر حباً واحتراماً لبعضنا، لقد وحدتنا الأحداث، وصار السجان ينظر إلينا باحترام وتقدير، فقد أدرك السجان أننا طليعة شعب، وأن من خلفنا أمة تنهض بحثاً عن كرامتها.
في اليوم السادس صار الأسرى يتناقلون أخبار الانتفاضة بكل جرأة وثقة، وقد نقلت زيارات الأهل مشاهد حية من المواجهات، فصار كل أسير يعود من زيارة أهله، ليروي للآخرين تفاصيل ما سمع من أمه وأبيه، وكيف استرد الشعب ثقته بنفسه، وصارت الفعاليات اليومية هي الحديث الممتع للأسرى على شباك الزيارة مع أهلهم.
في اليوم السابع للانتفاضة صار الأسرى يحلمون بالحرية، فقد تأكد لهم أن شعبهم قد هب طلباً للحرية، ولن يعود ثانية إلى حظيرة الصمت، وأن مرحلة التحرر باتت قريبة، وأن الأسوار ستتهشم في كل لحظة، وأن الخروج من الأسر مسألة وقت.
تواصلت الانتفاضة، وواصلنا عد الأيام بفخر وانتشاء، وكلنا ثقة بأن شعبنا قد انتزع الرهبة من قلبه، ولم يعد يخاف بنادق المحتلين، وهذا أول مقوم للنصر، حين يفقد عدوك هيبته أمامك.
أما المقوم الثاني للنصر، فقد تمثل بتصفية العملاء، فالشعوب لا تقهر إلا من داخلها، ولا تطعن إلا من المندسين المحبطين والمثبطين للعزائم، أولئك الذين يمزقون الصف، ويخونون العهد، فإذا جاءت انتفاضة الحجارة، تطهرت النفوس من التبعية، وارتفع شأن المقاومة، وتوحد الناس خلف العمل البطولي، وصار المجتمع نقياً من الشوائب السياسية، ومن تجار الشعارات، ففي زمن البطولات يختفي أنصاف الرجال والمنتفعين والمتسلقين، ولا يستقر في قلوب الجماهير إلا أهل التضحية والفداء، أولئك الذين جلعوا من أجسادهم جسراً للعبور إلى بر الحرية.
في الذكرى 34 لانتفاضة الحجارة، ما أحوجنا إلى ذلك الزمن الفلسطيني المتمرد الشامخ!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت