تقليص الصراع" التي صكها ميخا غودمان في كتابه "مصيدة 67"

بقلم: علي ابوحبله

علي ابوحبله
  • اعداد وتقرير المحامي علي ابوحبله

 مفهوم تقليص الصراع" ضمن مناوره إسرائيليه توهم الفلسطيني بوجود تسهيلات كبيرة، هي أقل من مستوى السياسي، ولكنها أعلى بكثير من مستوى التسهيلات الشكلية ، وحول مفهوم "تقليص الصراع"، الذي صاغه الباحث الإسرائيلي ميخا غودمان، تناولت تفاعلات المفهوم لاحقا، والبيئة التي سمحت بتطوره وصولا لتصدره الخطاب السياسي الإسرائيلي بشقه اليميني، حيث تبناه رئيس الحكومة الإسرائيلية، نفتالي بينيت، في حزيران/ يونيو 2021، بعد ظهوره في البرنامج الانتخابي لحزب "تيكفا حدشا" بزعامة غدعون ساعر.
وتقدم الورقة نقدا لنموذج "تقليص الصراع" من خلال مقارنته بنماذج أخرى تبنتها إسرائيل بشكل مباشر أو غير مباشر، مثل "حل الصراع"، و"إدارة الصراع"، و"حسم الصراع"، و"السلام الاقتصادي"؛ وتخلص إلى أن تقليص الصراع بالنسبة لنفتالي بينيت، قد لا يأتي لحل تناقضات إسرائيلية داخلية ما بين اليمين واليسار رغم حاجة ائتلافه الحكومي لذلك، بل لترتيب العلاقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين حيث يرى فيه بينيت مخرجا للتناقض الجوهري ما بين طبيعة إسرائيل الاستيطانية، وما بين عملية السلام التي دخلتها منذ العام 1993، والتي تستند إلى مبدأ حل الدولتين. وتخلص الورقة إلى أن "تقليص الصراع" يأتي من داخل منظومة "إدارة الصراع" لكنه يختلف عن مفهوم السلام الاقتصادي، فهو لا يسعى إلى خلق علاقات اقتصادية وطيدة قد تساهم في وصول الفلسطينيين إلى تنازلات حقيقية أثناء نقاش ملفات الوضع النهائي، بل هو يستند إلى اعتقاد بأن حل الدولتين غير قابل للتطبيق عمليًا.
أما التسهيلات الاقتصادية فهدفها الحد من "تذمر" الفلسطينيين من استمرار الاحتلال، إضافة إلى أنه يخلق ميكانيزمات توفر للفلسطينيين أرضية تقلص من الشعور بأنهم تحت الاحتلال، وفي مواجهة دائمة مع "عدو" يحاصرهم ويتحكم في حركتهم واقتصادهم. إن مفهوم تقليص الصراع وهي كلمه تكاد تكون مستحدثه في الخطاب السياسي الإسرائيلي ترتبط أكاديميًا بالباحث ميخا غودمان، ولكنها طفت إلى السطح بعد ما ارتبطت برئيس حكومة إسرائيل الحالي، نفتالي بينيت، وأطراف أخرى في حكومته.
وبغض النظر عن أن بينيت كان قد أثنى على كتاب ميخا غودمان "مخترع" هذا المفهوم، مع الإشارة إلى أنه يختلف معه قليلا وأن غودمان تحول لاحقا إلى أحد مستشاريه غير الرسميين، هناك الكثير من المؤشرات التي تدل على أن حكومة بينيت تبنت هذا المفهوم وهناك مؤشرات تدلل على ذلك التبني :-
 المستوى الأول هو مستوى الخطاب، حيث تحدث بينيت في خطابه الأول في الكنيست كرئيس حكومة عن "تقليص الصراع" وعن رفضه لإقامة دولة فلسطينية، أي أنه قارن "تقليص الصراع" بعدم إقامة دولة فلسطينية ورفضه للجلوس مع السلطة الفلسطينية. كما أن شريكه في الحكومة، وزير الخارجية ورئيس الحكومة البديل، يائير لبيد، تطرق أيضا إلى "تقليص الصراع" خلال لقائه بوزير الخارجية الأميركي، إضافة إلى أن مفهوم "تقليص الصراع" ورد في البرنامج الانتخابي لحزب "تيكفا حدشا" الذي يقوده الشريك الثالث في الحكومة، غدعون ساعر، وعلى ما يبدو فإن الفكرة تعتمل في النقاشات الداخلية سواء في أطراف الحكومة أو الدوائر السياسية الأوسع.
المستوى الثاني هو المستوى العملي حيث نستطيع أن نلاحظ في عهد حكومة بينيت عدة خطوات مطابقة أو مشابهة للخطوات التي تحدث عنها غودمان في إطار "تقليص الصراع"، مثل زيادة "كوتة" عدد العمال الفلسطينيين في إسرائيل، واستيعاب موظفي "هايتك" فلسطينيين. كذلك إيعاز الوزير في الحكومة الإسرائيلية عيساوي فريج لوزارته بالجلوس مع وزارة المالية الفلسطينية والقيام بخطوات "كبيرة" مقارنة بسنوات سابقة، مثل انتقال النظام الضريبي والمقاصة إلى نظام إلكتروني، والحديث عن إقامة "ميناء" على الخط الأخضر بحيث تأتي البضائع وكأنها خاصة بالفلسطينيين، وكذلك تدخل عليه الضابطة الجمركية الفلسطينية. وفي قطاع غزة، يبدو وكأن هناك تحضيرات لإصلاح اقتصادي وإعادة أعمار وإن كان بشكل بطيء مقابل أمور أخرى، وهذا يختلف عن سياسة نتنياهو المتمثلة بالحصار و"هدوء مقابل هدوء".
وفي المستوى الثالث هناك بعض التغيرات التي من المتوقع أن تتعزز، سيما وأن بينيت يريد أن يتوافق مع الإدارة الأميركية الجديدة، ولكن في الوقت ذاته يرفض لقاء قادة السلطة الفلسطينية، ما يستدعي وجود مسافة رمادية تمكن الإسرائيليين من التعامل مع الفلسطينيين، دون أن يعيدوا تأجيج خلافات دبلوماسية أو حتى صراعات على الأرض. إن مفهوم "تقليص الصراع" يعطي مساحة واسعة لإسرائيل بأن توهم الفلسطيني بوجود تسهيلات كبيرة، هي أقل من مستوى السياسي، ولكنها أعلى بكثير من مستوى التسهيلات الشكلية التي كان يشهدها في السنوات السابقة وجميعها تهدف للتهرب من استحقاقات عملية السلام وتحقيق رؤيا الدولتين بالعودة إلى مفهوم "تقليص الصراع" التي صكها ميخا غودمان في كتابه "مصيدة 67"، ما هي العناصر الأساسية التي تنطوي عليها وبماذا تختلف عن فكرة "إدارة الصراع" و"السلام الاقتصادي" اللتين جرى تداولهما حتى الآن؟
وفي هذا يذكر أن هناك جمعية جرى تسجيلها مؤخرا تحت اسم "تقليص الصراع" ولها موقع على الإنترنت، وهي تقوم بالترويج للفكرة. أما الفكرة ذاتها، فهي تنطلق من أن تقليص الصراع يتم من خلال خطوات صغيرة جدا، لكنها متلاحقة ومتراكمة بحيث نستطيع أن نرى على المدى المتوسط تغييرا كبيرا. هي لا تقوم على طرح خطوة كبيرة وواضحة، بل مجموعة خطوات صغيرة مثل زيادة عدد العمال، تفعيل نظام ضريبي الكتروني، إزالة حاجز هنا وشق طريق هناك، وهذا سيُحدث على مدى أشهر وسنوات "تغيير جذري" في حياة الفلسطينيين.
 وفي التدقيق في الورقة التي أصدرها "مدار" ميزنا بين "حل الصراع" و"إدارة الصراع" و"تقليص الصراع"، وترسم تعامل إسرائيل مع القضية الفلسطينية ؛ فمنذ عام 1991 وحتى 2009 كان يندرج تعامل إسرائيل تحت ما يمكن تسميته بنموذج "حل الصراع"، وهذا النموذج كان يقوم على أن إسرائيل تعترف بأنه يوجد احتلال بالفعل، وأن هذا الصراع يجب حله، وأن الحل يكون بإقامة دولة فلسطينية.
 وبغض النظر عن شكل ومضمون الدولة والتباينات الإسرائيلية الفلسطينية حولها، إضافة إلى المراوغة الإسرائيلية في تنفيذ هذا الحل، لكن أمام المجتمع الدولي وأمام الفلسطينيين كان مفهوما أن إقامة دولة فلسطينية هو شيء قابل للتطبيق ضمن شروط معينة. إلا أن هذا المنطق تبدل في فترة حكم نتنياهو الثانية، أي منذ العام 2009 حيث بدأت الحكومات الإسرائيلية تدعي أن فكرة الدولة الفلسطينية غير قابلة للتنفيذ وهي ليست إمكانية واقعية، وأخذ هذا النموذج يتلاشى ويحل محله نموذج "إدارة الصراع".
 ولكن حتى ضمن منطق "إدارة الصراع" بقي مفهوم الدولة الفلسطينية حاضرا نظريا، بمعنى أن تعامل الإسرائيليين مع الفلسطينيين بقى ضمن مفهوم حل الدولتين مع الإشارة إلى أن الدولة الفلسطينية ليست إمكانية عملية، ولكن الفلسطينيين يستحقون دولة. إدارة الصراع لم تعد تعني تجميد الوضع، بل إن إسرائيل استخدمت كل أدواتها وقامت بخطوات دراماتيكية، من إقامة مستوطنات وتوسع استيطاني لإحداث تغيير وفرض حقائق جديدة على الأرض من شأنها أن تحول الانسحاب الإسرائيلي وإقامة دولة فلسطينية إلى أمر غير قابل للتطبيق. وقد شهدت تلك الفترة تغيرات كبيرة على الأرض وكانت تقوم على مفهوم "سلام اقتصادي" في الجوهر، وهو مفهوم يبتغي إحداث تغييرات في العلاقات الاقتصادية، تغري الفلسطينيين ماديا وتشبك العلاقات الاقتصادية معهم، وتجعلهم غير قادرين على فك الارتباط مع إسرائيل من منطلق الحفاظ على مصالحهم الاقتصادية، وبهذه الطريقة يتم إجهاض الدولة الفلسطينية.
 مفهوم "تقليص الصراع" الذي يفترض أنه ابتدأ منذ عهد بينيت ينطلق من مبدأ أن الدولة الفلسطينية لن تقوم وأنها ليست مشروعا قابلا للتطبيق تاريخيا، وهنا لا بد من التدقيق بين المفهوم النظري لتقليص الصراع الذي صاغه غودمان وبين مفهومه السياسي لدى بينيت وائتلافه الحكومي. ويذكر في هذا الصدد أن غودمان مستوطن يسكن في مستوطنة "أدوميم" الواقعة في وادي القلط بالقرب من شارع ألون الذي يعتبر أهم الشوارع الاستعمارية التي قسمت الضفة الغربية إلى قسمين.
غودمان ينطلق من فرضية يطلب أن لا نجادل فيها واعتبارها مسلمة، تقول إن هناك تصدعا كبيرا داخل إسرائيل بين اليسار واليمين، حيث يدعي اليسار أن البقاء في الأراضي المحتلة يشكل تهديدا لإسرائيل من خلال فقدان الأغلبية اليهودية وتحويلها إلى أبرتهايد وعزلها عالميا، واليمين يقول إن انسحاب إسرائيل من المناطق المحتلة يشكل تهديدا لأمن إسرائيل ويفقدها القدرة على الدفاع عن وجودها بعد أن تتحول الضفة إلى "مزرعة لإيران"، على حد تعبيرهم، وهو يستحضر مثال غزة وصواريخها.
بمعنى أن كل من اليسار واليمين لديه أسبابه للبقاء أو الانسحاب من الضفة وأنه سيترتب على ذلك تبعات ليس لدى أي منهما أجوبة عليها. هنا يقدم غودمان حلا توافقيا هو "تقليص الصراع" الذي يخفف الاحتكاك مع الفلسطينيين إلى الحد الأدنى، ويعطي الفلسطينيين شعورا بأنهم يعيشون لوحدهم بحرية.
 غودمان يقول لماذا يجب أن أضع لهم حواجز وكاميرات وأتحكم بحركتهم واقتصادهم؟ ولماذا لا أرفع كل هذه القيود وأجعل الفلسطيني يسافر من جنين إلى الخليل دون أن يواجه حاجزا إسرائيليا أو يصطدم بجندي أو حتى مستوطن إسرائيلي؟ وهو يعتمد بذلك على مخططات هندسية سبق أن وضعتها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ويتحدث عن فتح "ترمنال" للفلسطينيين في مطار بن غوريون تختصر معاناة السفر إلى الخارج عبر إنشاء قاعة مغادرة في قلقيلية يجري فيها فحص جوازات السفر، ثم تقوم حافلة بنقل المسافرين إلى باب الطائرة في المطار.
 كما يتحدث عن خطوات اقتصادية وإجرائية واسعة من هذا القبيل تهدف إلى "تقليص الصراع"، وإخفاء الاحتلال ومظاهره السافرة ومنح الفلسطينيين الشعور بأنهم يعيشون بحرية في حيزهم الجغرافي، وذلك دون إنهاء السيطرة الأمنية والسياسية والاقتصادية الإسرائيلية على الأراضي المحتلة منذ عام 1967.
 ينطلق غودمان لفكرة تقليص الصراع الذي يدعي أن الصراع هو صراع أبدي لن ينتهي ويجب صياغة كيفية التعامل معه، من منطلقين؛ الأول يتمثل بنظرة استشراقية تتعامل مع الفلسطينيين بدونية لا تشكل مفاهيم الحرية وتقرير المصير بالنسبة لهم قيما عليا على غرار الغرب الأوروبي. المنطلق الثاني هو انتمائه للصهيونية الدينية وللتيار اليميني الديني الاستيطاني، وهو لا يقدم حلا توافقيا كما يدعي بل حلا يسعى إلى تأبيد السيطرة على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 من خلال تسهيل تعايش الفلسطينيين مع الاحتلال وتجميل واقع الأبرتهايد.
ان التوسع وضم الأراضي، تمثل حالة دينية في الرواية والخيال الصهيوني لليمين خاصة، وذلك لا يستقيم مع حل الدولتين، ولذلك فإن "تقليص الصراع" يحل هذا المأزق بنظرهم.
بينيت أيضا أكثر صراحة من نتنياهو؛ فهو يقول لن تقوم دولة فلسطينية ولن نفاوض السلطة الفلسطينية. وبهذا المعنى، فإن مفهوم تقليص الصراع يوفر له دوام الالتزام بمواقفه تلك، من حيث لا يستدعي انسحاب ومفاوضات، بل جملة خطوات إجرائية صغيرة، لا تغير من جوهر السيطرة والسيادة الإسرائيلية على الأراضي المحتلة منذ عام 1967 وحتى مواصلة الاستيطان وتوسيعه، مقابل منح الفلسطينيين مجرد شعور بأنهم يعيشون في فضاء جغرافي مستقل وخاص بهم.
 الحديث حتى لا يجري عن فك ارتباط على غرار قطاع غزة، بل عن انتقال التحكم والهيمنة الإسرائيلية من مستوى مباشر ومكشوف إلى مستوى مبطن وغير مباشر، ولكنه أكثر تحكما، وهو نمط لا يثير العالم وينسجم مع الإدارة الأميركية ويحفظ سلامة الائتلاف الحكومي الإسرائيلي.

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت