- نهاد أبو غوش
حادثة "فصايل" المُرَوّعة التي أدمت قلوب الفلسطينيين جميعا، وأدّت إلى استشهاد ثمانية فتية في عمر الزهور وهم جميعا من قرية عقربا جنوب نابلس، لا ينبغي لها أن تمر مرور الكرام، وكأنها مجرد فاجعة جديدة تضاف إلى مسلسل مآسينا ومصائبنا التي باتت أشبه باليوميات في حياتنا تحت الاحتلال، وبالتالي نكتفي بمواجهتها من خلال التسليم بقضاء الله وقدره – من دون البحث والتدقيق في أسباب الكارثة- ولا بمجرد إعلان الحداد وإظهار مشاعر الحزن والتضامن مع ذوي الضحايا، ولا حتى بدفع مبالغ رمزية لذوي الضحايا من صندوق الزكاة، الذي قدّم مشكورا ألف دينار لكل أسرة شهيد وهو مبلغ لا يكاد يكفي لمصاريف الدفن والعزاء. أبسط ما ينبغي علينا فعله هو التمييز بين واجبات الحكومة والمؤسسات الرسمية والأهلية المعنية، ومسؤولياتها تجاه هذه الحادثة الأليمة من جهة، وبين رد الفعل العاطفي والعفوي للمواطنين الذين عبّر عشرات الآلاف منهم عن حزنهم وتأثّرهم الصادق.
فأبسط ما على الحكومة أن تفعله هو أن تشكل لجنة تحقيق رسمية ومتخصصة في الحادثة لدراسة أسبابها الموضوعية والمباشرة، وما إذا كانت تنطوي على عناصر جرمية، وما هي الإجراءات التي علينا كمجتمع القيام بها لمنع تكرار مثل هذه الحادثة، ولا نظن أن مسؤولية الحكومة تقتصر مشاطرة المواطنين أحزانهم، والتسليم بالعجز عن فعل شيء والقول "لا حول ولا قوة إلا بالله، وما باليد حيلة".
من الاطّلاع على التفاصيل الأولية للحادثة يمكن الاستدلال على عدة قضايا تستوجب التوقف والتحقيق، أولى هذه القضايا هي عمالة الأطفال التي يحرمها القانون الفلسطيني أو يضع لها قيودا صارمة لمن هم فوق السادسة عشرة، فجميع الضحايا هم فتية بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة من أعمارهم، وتشغيل مثل هؤلاء الأطفال والأحداث في أي منشأة سواء كانت وطنية أو تابعة للاحتلال ومستوطناته يستوجب توفُّر ضمانات وتدابير خاصة تتعلق بظروف العمل وشروط السلامة والأمان وطبيعة العمل المسند للأطفال، وتمنع استغلال هؤلاء الأطفال.
القضية الثانية وهي المتصلة بحوادث السير وحمولة المركبة التي أقلّت الأطفال وطريقة السياقة وأهلية السائق وطبيعة الطريق والتقاطع الذي وقع عنده الحادث ومن الذي يتحمل مسؤولية هذا الحادث الدامي، وهي مسائل يمكن التعرف عليها واكتشافها بسهولة على الرغم من عدم سيطرة السلطة الفلسطينية وأجهزتها على هذا الطريق.
أما القضية الثالثة ولعلها الأخطر والأهم فهي تتصل باضطرار هؤلاء الفتية الشهداء للعمل في المستوطنات، وما هي الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تّلجئهم إلى هذا الخيار المرّ بدل ان يعيشوا كما يعيش أترابهم، وما هي الإجراءات التي يمكن للسلطة الفلسطينية القيام بها للحد من هذه الظاهرة الخطيرة والمنتشرة. نتوقع من جميع الجهات الرسمية والأهلية التي يتصل عملها بشكل أو بآخر بهذه الكارثة أن تقدّم ما لديها، وما الذي عليها وعلينا فعله لتجنب تكرار مثل هذه الحوادث أو الحدّ منها.
وأبرز الجهات المقصودة هي رئاسة الوزراء، ووزارة العمل، ووزارة التنمية الاجتماعية، ووزارة النقل والمواصلات، ووزارة التربية والتعليم والشرطة وتحديدا إدارة السير والبلديات المعنية والاتحاد العام لنقابات العمال والبلديات، صحيح أن الحادثة وقعت في منطقة لا تسيطر سلطتنا عليها، لكن جميع الضحايا فلسطينيون والمركبة تخضع لترخيص فلسطيني وقد انطلقت من بلدة يمكن للسلطة أن تمارس فيها صلاحياتها الإدارية.
في التقرير المهم الذي نشرته جريدة القدس يوم أمس السبت 9/1/2021 وأعدّه الزميل غسان الكتوت، يضع صلاح الدين خليل رئيس بلدية عقربا المنكوبة يده على الجرح، إذ يرى أن سياسات الاحتلال في التضييق على الفلسطينيين، ومصادرة اراضيهم الزراعية، ومياههم ومواردهم، هي التي حوّلت الفلسطينيين بمن فيهم الأطفال إلى عمال في المستوطنات القائمة بصورة غير شرعية على الأراضي الفلسطينية المصادرة، ويوضح أن الاحتلال حال بين الفلسطينيين وبين استثمار أراضيهم الواسعة، مشيرا إلى أن مساحة أراضي عقربا مع خربة يانون تصل إلى نحو مئة وثمانين ألف دونم.
واستخدم الاحتلال حججا شتى لمنع الأهالي من الانتفاع بأراضيهم من بينها تخصيص جزء كبير من هذه الأراضي للتدريبات العسكرية وزرعها بالألغام، وإطلاق أيدي المستوطنين في السطو على الأراضي ومنع أصحابها الفلسطينيين من وصولها. قبل ذلك، سبق لوكالة الأنباء الفلسطينية (وفا) أن نشرت تقريرا في غاية الأهمية، أعدته الصحفية بدوية السامري في نيسان 2010، يتحدث التقرير عن تسرب 64 طفلا من أطفال بلدة عقربا بالتحديد للعمل في المستوطنات، ويشرح التقرير الظروف القاسية جدا لعمل هؤلاء الأطفال في المستوطنات وما يتعرضون له من تعنيف وقسوة، لكنهم يضطرون لتحملها بسبب ظروف ذويهم الاقتصادية والاجتماعية.
ويورد التقرير آراء عدد من المسؤولين والخبراء الذين حذروا من انتشار ظاهرة عمالة الأطفال وتأثيراتها السلبية على نموّهم البدني والعقلي، وتحدث هؤلاء المسؤولين عن الإجراءات التي يتوجب اتخاذها للحد من هذه الظاهرة، والتي لا نملك في هذا المقام سوى التأكيد أنها لا تقتصر على عقربا وقرى جنوب نابلس، بل هي منتشرة في عموم الأراضي الفلسطينية، ويمكن لأي منا أن يعاينها بنفسه بمجرد توجهه إلى مركز المدينة التي يعيش فيها أو بالقرب منها.
من ضمن التعازي التي وردتنا برقية من رئيس دولة الاحتلال، والتي ينطبق عليها مثلنا الشعبي "يقتل القتيل ويمشي في جنازته" لأن الاحتلال هو المسؤول الأول عن إفقار الفلاحين والمزارعين وحرمانهم من استغلال أراضيهم، وهو الذي سرق مياهنا وحوّلها للمستوطنات، وعن كل الإجراءات والسياسات التي فاقمت من معدلات الفقر والبطالة، وألجأت هؤلاء الأطفال إلى تجرّع المرّ والعمل في المستوطنات، كما قام الاتحاد الأوروبي بتعزية شعبنا وأهالي الضحايا، ومن واجبنا في هذا المقام أن نذكّر هذا المحفل الدولي المهم بأن مسؤولياته السياسية والأخلاقية ومكانة الدول التي يمثلها تتطلب منه مغادرة موقف الصمت على جرائم الاحتلال وممارساته، واتخاذ مواقف عملية تساعد شعبنا في الخلاص من الاحتلال ولا تكتفي بمداواة جروحنا الناجمة عن الاحتلال أو تخفيف قيوده وتحسين شروطه.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت