- المتوكل طه
***
تحاول أن تنظر إلى عينيه، فتجد ماءً زجاجياً يبرق فيهما..
لم يقل أبو حميد لنفسه ؛ ما الذي جاء بك إلى هذا الجحيم،أما كان بإمكانك أن تتوارى قليلاً عن عين النار؟ لماذا كنتَ مندفعاً لتكون ساتراً تحمي المدينة؟ هل أنتَ المسيح الذي سيفدي البلد .. وتبكي أُمّهُ على خمسة أبناء غابوا في عباءة الشمس؟! أم أنتَ حارس أحلام الأسوار والأغاني؟
كان بمقدورك أن تتشاغل بعملك وأكل عيشك! وكان سيتمّ ذلك بدعوى أن هاجسك السيدة الخنساء وليس السيف!
وهل خشيت من أن يكون كل هذا الألم الممضّ والدم، عبثيّاً ومجانيّاً .. فلماذا العذاب، إذاً؟
- ماذا تقول يا رجل؟
هل سمعك أحدٌ غيرك؟ اُسكت! فأنتَ الآن رجل حقيقي، وتستطيع أن ترفع رأسك جيداً، وأنتَ تطأ الأرض كالنَمْر الواثق، ولا بأس إنْ ارتفع صوتك في الجلسات، فأنتَ الآن حرٌ ، والسجّان هو السجين!
وسينقلب تاج القيد هذا إلى هالة من الطمأنينة والرسوخ والمجد .
اعتدلْ في جلستك! واسمع ما يقوله الآخرون .. فلقد ذهبتَ بعيداً، وتركتهم حولك، كأنّ طيراً عظيماً قد حملك إلى سماوات النوم الغامض .. لكنك تعود الآن إلى دائرة شعبك الساطعة .. فلا تنطفئ! وابدأ كلامك من نهايته المُشرَعة.
* * *
تستيقظ مرهقاً،في السجن، كأن تعب الزمان كلّه حلّ في بدنك، تقوم متثاقلاً، تغسل وجهك كأنك تصفعه بالماء البارد .. وتجلس بلا مبالاة على الأرض، دون اكتراث، ولا تنظر لشيء .. كأنك وحيدٌ على قمة هرم من الغبار اللامتناهي .. ويمضي الجنود، ويجيء الفطور .. فلا تأكل! ثمة حجر خشن يسدّ بلعومك! تنهض، بعد أن تبلّ جرعةُ شاي جفافَ فمك، وتشعل سيجارة.. وتمضي إلى الغرفة، تعيد فرْش البطانيات، وتسقط على وجهك في نوبة بكاء، تحاول أن تخفيه، بأن تغمر وجهك في البطانيّة الوسادة، حتى يدخل أحد الأصدقاء، ويسمع نهنهة صدرك، واضطراب رأسك المهتزّ .. يقترب منك.. ويمسّد شعرك، فتنهض، محاولاً إخفاء وجهك، وبكُمّ قميصك تمسح دموعك .. فيشعل لك سيجارة ويعطيك إياها .. ويسود صمت كاوٍ ..
تحاول أن تنظر إلى عينيه، فتجد ماءً زجاجياً يبرق فيهما.. وصورة ناصر أبو حميد تتراءى أمامك.
* * *
والتاريخ يعيد نفسه، بشكل مُكْلِف، على مَنْ لا يقرأه ، أما هنا في "المعتقلات"، فالتاريخ ثيّب، جربناه وطلّقناه، وحاول أن يعود بِكْراً، حتى ننزف من جديد، أو نسوق أغنامنا في جبال الضبع، كأننا رعاة عميان! ومهما يكن من اختلاف، فالسجن سجن، الهدف واحد والحوذيّ الساديّ لم يتغيّر، والنهر لم يبدّل ماءه، بل إن السابح لم يخلع ثوبه كالأفاعي، ومع ذلك، لِتَلْهُ الأيام كما شاءت بالدُمى التي تقطّعها في العتمة، بالمقصّ، فتخرج في النهاية ناقصة ذراعاً أو ساقاً .. لا بأس، فنحن لسنا دُمْية، وحتى لو اعتبرونا كذلك، فإن لهذه الدُمْية رأساً، على الأقل، وشفتين حمراوين، كما يقول شارلز سيميك .
* * *
المباح قليل، والمسكوت عنه لا يُحصى! فكيف ستشرح أوجاعك، أيها المتأجج بكيمياء الحرية، ولمسة البركان المهيب؟ وكيف ستجوح والبكاء عيب في كتابنا المهترئ؟ وكيف لك أن تقذف كل الزجاج المشروخ الذي يُدمي رئتيك؟ وهل تستطيع أن تمارس عادات الجنّ المخفيّ، أو الحصان الذي يشمّ ضفيرة الفرس تحت شمس اللوز، في البراري المفتوحة، للصهيل والنحل والفَراش الموعود بالنار؟
يتحلّق المعتقلون حول بعضهم البعض .. فتأخذهم اللغة الجمعيّة إلى منابرها وإيقاعاتها الجاهزة .. ومع الشروق والمغيب، يتحللّون من ربقة الكلام المُعلّب .. وينسلّون، بخفوت وتكتّم، إلى الحكايا الجارحة، والليالي العاصفة بتحطيم القضبان والشهيق البعيد!
فهل يكتفون؟
إن البكاء ،على أخيهم المُعافى بالامتحان القاتل، هو آلية تعويض! مثلما تشرح اللغة الغاضبة حالةَ اللارضى، والاحتجاج السلبي، على ما يدور! .. ودائماً ثمة لغة أخرى، تجدها في الجوع الذي هو السلاح الأخير لاستعادة بعض حقوق البشر البسيطة. وهنا في "المعتقل"، لغة أخرى أيضاً، تهمس بفحيحها وخريرها، في كل الزوايا، ما يشير إلى أن هذه المجاميع هي مجتمع آخر، له مواصفات البلد المتفجّر. وآه يا بلد!
* * *
والسجن أرض خصبة لهذا النبت الشيطاني الذي يشبه الأفعى واسمه السرطان . وكلما تراكمت الهموم، تسللت الأفعى بنعومتها السامة إلى وريد القلب، وكلّما حضرت الأحزان والأسى دخل الفأر قلبك يقضمه بأسنانه المسنّنة!
والكآبة معادلة كيميائية كاملة، لا تؤثر في النَفْس أو الروح فقط ، بل تحس بحِبال أفاعيها، وهي تلتف حول مضغة صدرك، لتهتك أستاره، وتوقف تدفّقه النوري .. البهيج ! بل تخشى أن يحتشد قلبك، فجأة، برغوة الكآبة، فيضيق مجرى التَنفُس، وتصبح على موعد مع الغياب!
ولعل حدوث اللامتوقّع، المخيف، أو ما لا نعرف نهايته هو السبب الرئيس للكآبة! ولسوء الحظ أن كل هذا، وأكثر منه، يحدث كل لحظة، ويقع أمام عيوننا، يومياً، في السجن، ونلمسه على جلودنا وجدران روحنا.. ورغم كل هذا، نُبعد هذه الكآبة بالحياة، بكل مكوناتها، من الكلام .. إلى الغناء، ومن المجابهة إلى التصميم الأمر الذي يعيد صياغتنا، ويجعلنا أكثر قدرة، وخرقاً للعادة، من غيرنا .
* * *
يتمطّى على الفِراش الفقير، ويسند رقبته على جدار مُرتّب، فيظلّ الجسد في مكانه، فيما تذهب الروح إلى أحلام يقظتها ... وتعود لتصطدم بالنتوءات الصعبة، والمشاهد المكفهرة الخشنة .
ماذا حلمت أيها الراكض خلف خيط الضوء الشفيف، هل وصلت إلى البيت وعانقت الزيتونة.. وماذا بعد؟ هل أكملتَ الصورة التي ستظل ناقصةً ما دامت الحياة..؟
تتعب الروح من مشاويرها البعيدة .. فيتسلل الوسن إلى صحنين ذابلين، هما عيناك .. وتنام!وتحلم!ونعبر إلى حلمك الوسيع لنرى البلاد في عُرسها الكامل.. غير المنقوص.
* * *
يا إلهي! ما الذي جاء بي إلى هنا!
لا لم أقلها ! فأنا حرٌ أينما كنتُ.. وسأبقى!وعلى مرمى بصري أرى العسل السماوي يستعد للنوم، تحت لحاف الندى ، وثمة زهرة باذخة مُتَخَيّلَة تذبل عند حمأة الظهيرة ، لتستعيد تفتّحها! وكم تجمّعت حدقاتنا حولها، وحاولنا أن نستقدمها نحونا... لكن دونها القتاد والكلاب والبساطير. وعمّا قليل ستتفتّح صدورنا حدائق لا نهائية من النور والعبق.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت