- جمال قارصلي / نائب ألماني سابق من أصل سوري
عادة تُسمى الحكومات الألمانية حسب ألوان الأحزاب التي تشارك في إئتلاف تلك الحكومات, حيث لكل حزب لونه المحدد, فللحزب المسيحي الديمقراطي (CDU) اللون الأسود, وللحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD) اللون الأحمر, ولحزب الخضر (Die Grünen) اللون الأخضر وكذلك للحزب الليبرالي (FDP) اللون الأصفر. فلهذا يُطلق اسم "حكومة إشارة المرور" على هذه الحكومة التي ستحكم ألمانيا من نهاية عام 2021 إلى نهاية 2025 , أي بناء على الأحزاب المشاركة فيها, وهي الأحمر والأصفر والأخضر.
في إنتخابات عام 2017 خسر الحزب الإشتراكي الديمقراطي خسارة كبيرة وأراد أن يرجع إلى صفوف المعارضة لكي يعمل على ترتيب بيته الداخلي وكسب شعبيته من جديد, فلهذا وبناء على نتائج الإنتخابات لم يبق هنالك أي خيار آخر لتشكيل حكومة تدير البلاد للأربعة سنوات القادمة سوى تشكيل "حكومة جامايكا", أي نسبة إلى ألوان علم جامايكا وهي الأسود والأصفر والأخضر, ولكن لم يتم الإتفاق عليها, لأن الحزب الليبرالي أنسحب بوقت مبكر من مفاوضات تشكيل الإئتلاف مما جعل الحزب الإشتراكي الديمقراطي مضطرا للاشتراك مع الحزب المسيحي الديمقراطي في حكومة (أحمر أسود), إنقاذا لألمانيا من حالة ال"لاحكومة", ولهذا تم تشكيل ما يسمى بحكومة الإئتلاف الكبير, وللمرة الرابعة على التوالي.
ما هو الجديد في "حكومة إشارة المرور":
إن الجديد في "حكومة إشارة المرور" هو نهاية "الحقبة الميركلية" وبداية حقبة جديدة يقودها المستشار أولاف شولتس (Olaf Scholz) وهو من الحزب الإشتراكي الديمقراطي والذي كان نائبا للمستشارة ميركل ووزيرا للمالية في الحكومة السابقة.
الحكومة الألمانية الجديدة تديرها 8 وزيرات و 8 وزراء وعلى رأسها المستشار. وللحزب الإشتراكي الديمقراطي سبعة حقائب وزارية ورئاسة الوزراء (المستشارية), ولحزب الخضر خمسة حقائب وزارية ولليبراليين أربعة. وما يلفت النظر أن ثلاثة وزيرات تسلمن حقائب سيادية وهي: الخارجية والداخلية والدفاع.
بعد مفاوضات دامت 73 يوما بين الأحزاب الثلاثة تم الإتفاق على سياسة جديدة ومشاريع ل"حكومة إشارة المرور" والتي تم كتابتها في عقد الإئتلاف (Koalitionsvertrag) وعلى 173 صفحة وفيه وُضعت الخطوط العريضة والسياسة العامة لألمانيا للسنوات الأربعة القادمة وبرأيي الشخصي كل ما تم الإتفاق عليه هو واقعي وقابل للتطبيق.
وأهم ما اتفقت عليه الأحزاب الثلاثة هو حماية البيئة ودعم الطاقة البديلة, وإنهاء استخدام الفحم الحجري كمصدر للطاقة وذلك للاستغناء عنه بشكل كامل في بداية عام 2030 . إضافة إلى ذلك تم الإتفاق على ما يسمى ب(Digitalisierung) أي رفع مستوى الرقمنه في البلاد, وكذلك رفع أجرة ساعة العمل الواحدة إلى 12 يورو, أي رفع الأجور القليلة والمتوسطة, وتحديد السرعة القصوى لوسائل النقل.
أما على الصعيد الإجتماعي فقد تم الإتفاق على تخفيض سن الناخبين من 18 إلى 16 سنة وتشريع استهلاك الحشيش تحت رقابة السلطات المختصة, وكذلك العمل على تطوير المجتمع الألماني إلى مجتمع أكثر إنفتاحا وتسامحا, وكذلك السماح بالزواج المثلي, إضافة إلى سَنْ قوانين هجرة تجعل من ألمانيا بلد هجرة حديث ومفتوح أمام الخبراء والمختصين ودعم الإندماج في المجتمع وتحسين الحالة الديمغرافية في ألمانيا.
أما بالنسبة للسياسة الخارجية الألمانية فهي في العادة ثابتة ولا تتغير بشكل كبير ولكن الحزب الذي يحصل على الحقيبة الخارجية أو أية حقيبة أخرى, يحاول أن يترك بصمات حزبه بشكل أو بآخر على سياسة الدولة وذلك ضمن صلاحيات وزارته, ولكن دون الالتزام بتصريحاته الشخصية التي أطلقها سابقا عندما كان في صفوف المعارضة.
التي حصلت على الحقيبة الخارجية هي الوزيرة "أنالينا بيربوك Annalena Baerbock" وهي التي كانت رئيسة حزب الخضر وسنها لا يتجاوز الواحد والأربعين عاما وليس لديها تجربة في السياسة الخارجية ولكن حزبها سيراقب نشاطاتها السياسية في تطبيق برنامجه على أرض الواقع وخاصة باتجاه دعم سياسة المساواة بين الرجل والمرأة ودعم حقوق الإنسان والديمقراطيات في العالم. وبناء على ذلك فان السياسة الخارجية الألمانية ستكون منفتحة على العالم العربي وخاصة على الدول التي تقوم بتطورات إيجابية في هذه المجالات, إضافة إلى ذلك يوجد في ألمانيا نوع من الإنبهار باتجاه ما يحصل من تطور في بعض دول الخليج العربي وبذات الوقت هي قلقة من الأزمات المستعصية في عدد من الدول العربية.
دور ألمانيا في الإتحاد الأوربي وخاصة في التنسيق السياسي والأمني والدفاعي بين دوله, سيأخذ حيزا واسعا في السياسة الخارجية الألمانية وكذلك التحديات التي تأتي من الصين وروسيا, حيث تم الكتابة في عقد الإئتلاف استنكارا للسياسة الصينية باتجاه مسلمي تركستان الشرقية الإيغور ودعم استقلالية تايوان وكذلك السياسة التوسعية الروسية في شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا.
هنالك عامل هام وأساسي بالنسبة للسياسة الخارجية الألمانية في الشرق الوسط وهو ما يمكن إعتباره بوصلة لسياستها في هذه المنطقة, ألا وهو موقف هذه الدول من إسرائيل, لأن أمن وسلامة إسرائيل بالنسبة لأغلب الساسة الألمان يأتي في مقام الأولويات وهنالك من يضع أمن وسلامة إسرائيل بموازات أمن وسلامة ألمانيا وهذا نابع من عقدة الذنب التي لازالت متجذرة في نفوس غالبية المجتمع الألماني بسبب الإجرام الذي حصل ضد اليهود خلال الحقبة النازية.
إن "إئتلاف إشارة المرور" هي تجربة جديدة على المستوى الفيدرالي في ألمانيا, حيث حصلت هكذا إئتلافات في عدد من المقاطعات سابقا, ولكن ومن المعروف بأن التوترات في هذه الإئتلافات تزداد طردا مع عدد الأحزاب التي تشارك فيها, لأن مصالح هذه الأحزاب تتضارب في تطبيق برامجها الحزبية على أرض الواقع من أجل التقرب من ناخبيها وكسب شعبية أكبر, وهذا ما يزيد التوتر في داخل الحكومة ويضعها في ظروف حرجة مما يزيد فرص حلها ربما في زمن مبكر, إضافة إلى ذلك هنالك أسباب آخرى لحل هكذا حكومات, وهي على سبيل المثال ما تقوم به هكذا حكومات بحل نفسها قبل عدة أشهر من الإنتخابات الجديدة لكي تبتعد عن الأحزاب المشاركة في تلك الحكومة وتهتم بقواعدها الحزبية تحضيرا للإنتخابات القادمة.
نعم, إشارة مرور تحكم ألمانيا, لأن المجتمع الألماني بأجمعه من ساسته إلى أطفاله إلى فقرائه وأغنيائه يلتزمون بمقتضيات إشارة المرور, ليؤكدوا حرصهم على سيادة القانون.
نعم, يستبدل حكام الإستبداد ألوان إشارة المرور بالبسطار العسكري وآلات التعذيب وقوة السلاح, وهم يتساءلون ما هي أسباب إنتفاضة شعوبنا علينا. أما آن الأوان لهؤلاء أن يتعلموا بأن للحرية والعدالة والديمقراطية ألوان جميلة وهي أجمل من ألوان إشارة المرور؟
جمال قارصلي / نائب ألماني سابق من أصل سوري
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت