عيد المرأة: مريم معالي...كيف حمت وتواصلت مع العياش بجبال سلفيت

بقلم: خالد معالي

من سلفيت الشهيدة مريم معالي.jpg

بسلاسة ورتابه، وبحذر شديد تتابع خطواتها وهي حافية القدمين تخطو وتمشي وسط الحرص  الشديد على أن لا تصدر أي صوت وان لا ينتبه لها احد؛ فخطوة واحدة خاطئه قد تكلفها حياة  ابنها ومعه المهندس يحييى عيااش .

  تفاصيل الحكاية تعود لعام 1996  فالشهيدة مريم عمران معالي (55عاما)  من مدينة سلفيت؛ هي محور قصتنا لنفك غموض ادق واصعب خلية على الاحتلال منذ العام 67 وحتى الان ، وفي  معرفة الظروف الصعبة التي كان يعيشها المطاردون ومن يساعدهم ويكونوا عيون لهم في رصد تحركات جنود الجيش وقواته الخاصة والمتعاونين.

البدايات

ففي تاريخ 3\3\1996  نبدأ الحكاية، فمريم امرأة فلسطينية عاشت فصول حياتها المتتالية؛ البالغة في القسوة والألم؛ تقاوم آخر احتلال عرفه العالم ، رحلت شهيدة مجهولة وقلة من يعرف أسرارها؛ تاركة خلفها الدروس والعبر  الغزيرة؛ كحال نساء فلسطين في عيد المرأة ، وما قبل العيد وبعده.

 تقول عائلة معالي انها عملت في صمت مطبق رحلت للعلا في صمت مشابه، في قلة نادرة تعلم خفايا وأسرار تلك المجاهدة التي قدمت ما عجز عنه الكثير من الرجال لتقديمه في ظروف بالغة التعقيد والقسوة والألم، كيف لا والحديث هنا عن خلية مستنفر جيش الاحتلال ومخابراته للقبض عليها دون جدوى.

بداية حكاية شهيدتنا كانت مع الانتفاضة الأولى "انتفاضة الحجارة"، حيث كانت تحذر شبان الحجارة من تحركات جنود الاحتلال الذي يلاحقهم ويطاردهم، وما ميزها أنها كانت تحرض نساء الحي على المشاركة بمساعدة الشبان، وتحفزهن لمقارعة الجنود وتخليص الشباب من مختلف الفصائل من بين أيدي الجنود دون تفرقة ففلسطين للجميع وكل أبناء الوطن هم أبناؤها، وكانت لا تفرق بين لون وآخر فالدم واحد والهدف واحد والمصير يجمع الجميع في بوتقة طرد المحتل؛ وهي بذاتها حررت عدة شبان من بين أيدي الجنود الصهاينة، وكانت توفر مخابئ وملاذ للشبان والفتيان عند محاصرتهم من الجنود  داخل أزقة البلدة القديمة بسلفيت.

ومع تصاعد انتفاضة الحجارة؛ يبدأ فصل جديد من المقاومة الغير مألوف؛ فيتم سجن عشرات آلاف من الشبان في  انتفاضة الحجارة ويكون من نصيبها أولادها الأربعة إلى أن يفرج عن أبناءها، وينضم أحدهم إلى صفوف أحد  الأجنحة العسكرية التابعة لأحد الفصائل الفلسطينية، ويبدأ العمل في أول خلية عسكرية في الضفة الغربية مع مؤسس الكتائب في الضفة زاهر جبارين والمهندس الشه يد يحي ى عيااش.

افتخ باب

قبل 19\11\1992 لم يكن احد يعلم بخلية العياش؛ إلا أن دق جرس البيت الساعة الثانية بعد منتصف الليل؛ حيث البرد القارص والأمطار الغزيرة ،ويسمع صراخ الجنود التابعين للاحتلال خلف الأبواب ...افتخ باب ..جيش "الدفاع".

 لم تكن هذه المرة الأولى التي يأتي فيها جيش الاحتلال؛ ولكن هذه المرة تبدو مختلفة عن سابقاتها؛ يفتح الباب وإذا بعشرات الجنود يقتحمون المنزل ويفتشونه، ويسال ضابط المخابرات: أين عبد .... ويكون الجواب: ليس هنا... يعاد السؤال: بخكي وين عبد ،ويعاد الجواب: لا نعرف،  ويعاود القول: طيب اسمعوا إن ابنكم إرهابي خطير ويعمل مشاكل ،وإذا لم يسلم نفسه لجيش "الدفاع" خلال أسبوع سيتم قتله بعد ذلك؛ فكروا في الموضوع معاكم أسبوع ليسلم  نفسه.

 ويسلم الجيش والد المطارد ورقة بوجوب تسليم نجله خلال أسبوع وإلا يهدر دمه، ويصادر الجيش مع المخابرات كل الصور التي فيها صورته. ويتضح في الصباح أن ابنها كان قد افلت من حصار الجيش له في تل الربيع، والذي غير الاحتلال اسمها وحوله إلى (تل أبيب )وفي منطقة يطلق عليها الاحتلال (رمات افعال) حيث كان يحاول تفجير سيارة مفخخة  وتتكشف وتتضح الصورة أكثر فأكثر، وإذا بمعد السيارة ومفخخها هو اشهيد القائد المهندس يحيى عياش ومؤسس الخلية زاهر جبارين.

بعد ذلك يبدأ الجيش بمداهمة المنزل بشكل يومي وأكثر من مرة في اليوم الواحد، ويهدد ضابط الإدارة المدنية في حينها؛ بأنه سيتم إحضار ابنهم في كيس إن لم يسلم نفسه إلى قوات الجيش ، وترد الشهيدة عليه: الله اعلم من سيجمع في الكيس، ويشن حربا نفسية عليهم بقوله: ما هو الأفضل لكم أن تزوروه على المقبرة أم تزوره في السجن في حرب نفسية فاشلة مكررة بحكم التجربة الواسعة مع الاحتلال؛ ولا  تخفى على أي فرد في  فلسطين المحتلة.

مراقبة شديدة

 وتبدأ الشهيدة معالي بمساعدة ابنها وخليته زاهر ويحيى في مقاومة الاحتلال ،وكانت عينا لهم في سلفيت؛ وتزودهم بالطعام وكانت تراقب لهم الجواسيس، وتمدهم بأخبار وتحركات جنود الاحتلال وتنقل لهم النقود وحاجياتهم عند انقطاعها بسبب المراقبة الصارمة من قوات الاحتلال، وكانت أحيانا تذهب مسافة عشرة كيلو مترات وعدة تلال وجبال لتلتقي ابنها والخلية، وتزودهم بالطعام والأخبار وتنقل الرسائل لهم من المقاومين الآخرين، وقد شوهدت مرة وهي تسير حافية القدمين  وبحذر بين البيوت لئلا يسمع احد صوت قدميها وهي ذاهبة إلى الخلية التي يكون مرتب مسبقا ذهابها إليهم.

وتتعدد فصول الحكاية؛ فهنا يبدأ فصل جديد في المعاناة والعمل الدقيق والسري ، فتتم أول عملية استشهادية للبطل ساهر تمام من نابلس في مطعم في غور الأردن عند منطقة محولا، حيث تشاهد الطائرات المروحية وهي تنقل عشرات القتلى والجرحى من الصهاينة، ويقتحم الجيش منزلها، وعندها يجن الاحتلال ويزيد من الضغط على العائلة فالوضع لا يحتمل المزيد من العمليات المميتة والقاتلة، ويبث جواسيسه لمراقبة المنزل، والساحة المقابلة للمنزل؛ فالخلية خطيره، وتبث الرعب داخل دولتهم المزعومة وقد تنفذ في كل لحظة عملية يقتل فيها العشرات  من الصهاينة.

 وتستمر معالي بمساعدة المطاردين من القساام، وتشاهد أكثر فأكثر في الجبال تارة بحجة جمع الحطب وتارة بحجة قطف الزيتون للتمويه على الجواسيس، وأحيانا كانت تقوم بنقل السلاح،  وكم أسعدها عملية بروقين التي قتل فيها جنديان، وتألمت حين استشهد عدنان مرعي من قراوة بني حسان على حاجز (رافات دير بلوط ) وجندل اثنين من جنود العدو قبل استشهاده، ويتم اقتحام المنزل وتخريبه رأسا على عقب.

 وصار عمل روتيني عقب كل عملية ان تأتي قوات الجيش وتقتحم المنزل وتدمر ما تجده أمامها، وأحيانا كانوا يضربون من في البيت جميعا ، ويأتي خبر اعتقال القائد زاهر جبارين كالصاعقة ، حيث اعتقل في مدينة نابلس هو وسلامة مرعي من قرية قراوة بني حسان ،اعتقلا في منزل قرب جامعة النجاح،  ويفرج عنهما لاحقا في صفقة وفاء الأحرار" صفقة شاليط".

 وفي منتصف احد ليالي الشتاء القارص والمقاومة الفلسطينية في  أوجها وقوتها  والجو ماطر والبرد شديد ،يقتحم جيش الاحتلال البيت بطريقة مرعبة، بالصراخ وإطلاق الصوتيات وخلع الأبواب لاعتقال محمد بلاسمه،( يستشهد في الانتفاضة الثانية بتاريخ 6\8\ 2004 عبر كمين اشتركت فيه طائرتان والمئات من الجنود المشاة الصهاينة ) ويعتبره الاحتلال التلميذ السادس ليحييى عيااش، وتمنع الجيش من إرهاب وتخويف الأطفال، وتدفع الجندي خارجا وتقول له:( حرام عليكم اللي بتعملوه)، فما كان من الجندي إلا أن ضربها بعقب البندقية بعنف شديد على صدرها، وتشعر أن الدنيا تدور بها، والنفس مقفل،ولا تشعر بمن حولها، وتشعر بغثيان شديد ،إلى أن يتبين أن الضربة قد أثرت على الرئتين وتتسبب في وجود ماء بالرئة يتراكم مع الزمن ومرور الوقت ،بدأ يتجمع ببطء شديد وبمراحل، وبدأت تمر بحالات إغماء لا ينفع معها العلاج، ولا العمليات الجراحية التي أجريت لها في مستشفى المقاصد في القدس.

كعب البندقيه

ولكن الألم يزيد؛ والدنيا تطبق على صدرها بسبب تداعيات اليوم المشئوم الذي جاء فيه الجيش لاعتقال الشهيد محمد، فصارت الحياة قاسية ،وأيام المبيت بالمستشفى أكثر من المبيت بالبيت ،وكادت في إحدى المرات ان تفقد حياتها عندما أطلق الجنود المسيل داخل المنزل لولا لطف الله ، وخروجها من البيت بصعوبة بالغة .

  ويأتي خبر استشهاد يحييى عيااش بتاريخ 5\1\1996 كالزلزال ، والذي فاقم آلامها إلى حد  لا يوصف، وتدعو له بالفوز بالجنة واللحاق به شهيدة؛ وكان لها ما أرادت ، حيث ظلت تبكي لرحيله ساعات طوال،وتصر على رؤية جنازته وعرس شهادته الرمزية من إحدى شرفات المستشفى الوطني المشرف على دوار ووسط مدينة نابلس، وهي لا تقدر على الحراك ،كيف لا وهو الذي كانت تنقل له الطعام، عندما كان يبيت في الجبال ،التي حولها إلى مخبأ له، وهي التي كانت تزوده بأخبار تحركات جنود الاحتلال، وتحركات الجواسيس، وهي التي كانت تنقل له السلاح عندما كانوا لا يجدون وسيلة أخرى ، فهو كابنها في كل شيء ولا فرق بينهما، وهو الذي كان يعتبرها كأمه ويناديها بأمه.

وظلت تبكي لرحيل الشهيد القائد عيااش كثيرا، أياما؛ بعد رحيل القائد الذي أرعب الاحتلال ، وهز أسطورة الجيش الذي لا يقهر.

 وبعد كل هذا يأتي دور الموت في سبيل الله وتحرير فلسطين اسما أمنية، لترحل روحها الطاهرة بهدوء، وصمت، وسكون؛ بعد صراع مع مضاعفات الضربة التي كانت من الاحتلال والتي في المحصلة أدت إلى استشهادها ولكن ...

 في نفس اليوم الذي تم فيه الثأر للشهيد يحيى عياش بتاريخ 3\3\ 1996 يوم الأحد الدامي على الاحتلال، حيث كان يوم الثأر المقدس والرد العظيم يقتل فيه أكثر  من 46 صهيوني في  عمليتين استشههاديتين بقيادة الأسير حسن سلامه.

وترحل روحها الطاهرة إلى عليين ولتشيع بعد ذلك كالشهداء، ولتدفن بين الشهداء؛ ولتبكيها الجبال، والوديان، التي كانت تمر عليها، وليدعو لها كل مجاهد ومرابط ومسلم، فهي عملت بصمت ،وحرص ،وتوكل ، وسرية، ونالت الشهادة بصمت وهدوء؛ لتطوى صفحة امرأة فلسطينية مجاهدة مرابطة رحلت شهيدة مجهولة لتفسح الطريق لمن بعدها؛ ولتأتي بعدها انتفاضة الأقصى التي برزت فيها المرأة الفلسطينية بصورة  خلدها التاريخ.

 

المصدر: وكالة قدس نت للأنباء - سلفيت