تحليق عابر لطيور الذاكرة-نص

بقلم: سامي الكيلاني

سامي الكيلاني.jpg

د. سامي الكيلاني:

تحليق عابر لطيور الذاكرة-نص

منجم الذاكرة ما زال ينتظر عمليات التنقيب والاستخراج، منجم كنوزه متنوعة ولكل منها قصته التي تنتظر أن تروى.

مسودات الكتابة الأدبية التي تحمل الولادة الأولى للفكرة والتركيب والتغييرات التي حصلت عليها لولادة النص في صورته النهائية تأخذك إلى تفاصيل ما أحاط بها وقد تتذكر أخوات لها ضاعت، وتتذكر كيف نشرت باسم صريح أو مستعار، تفاصيل صغيرة قد تفتح عليك تفاعلاً متسلسلاً لا تدري أين سيصل بك وحين تصل محطته الأخيرة قد تنسى من أين بدأت، رحلة ممتعة من التداعي. ورسائل السجن الصادرة والواردة، تحمل الواحدة منها فتسحبك الكلمات إلى بحر لا قاع له من الذكريات والمشاعر، تغوص أكثر وأعمق لتلتقط محارات تفتحها لتنفتح عن لآلئ من الفرح الذي اقتنصته من فم وحوش الوجع. رسائل الأصدقاء المحليين والدوليين المتضامنة معك شخصياً ومع نضال شعبك، من الذي كتب هذه الرسالة وأين هو أي هي الآن؟ الأعمال اليدوية التي صُنِعتْ في السجن من مواد لا تخطر على بال من هم خارج الأسوار، ولكن الإرادة تفعل فعلها مع أختها الحاجة، أم الاختراع كما قيل، فتجعل من نواة ثمرة الأفوكادو ومن الحجر تحفاً فنية. بعض قصاصات الجرائد والمجلات التي احتفظت بها، تعرف لماذا احتفظت ببعضها ويلتبس عليك أمر بعضها الآخر فلا تعود تذكر لماذا أضفتها إلى ملف القصاصات، هذه القصاصة مقال في مجلة، مليئة بأخطاء الطباعة وعليها تصحيحات بقلم الرصاص، هل أعدت نشره؟ وأشياء أخرى مثل راديو الترانزستور الصغير هذا الذي امتلكته في فترة الاعتقال قبل الأخيرة، بعد أن حقق إضراب الأسرى في سجون الاحتلال هذا الحق، وحملته معك حين تم نقلك إلى السجن الصحراوي فلم يسمح لك السجانون بإدخاله ووضعوه في كيس الأمانات مع ملابسك التي أخذوها منك وأعطوك بدلاً منها ملابس المعتقل الكريهة، فتحرر معك يوم الإفراج عنك وعن ملابسك، هل يعتب عليك لأنك لم تتركه لرفاقك في السجن يستفيدون منه، فترد عليه بأنك كنت تأمل أن يعبر إلى السجن الصحراوي حيث الحاجة أكثر. آلتيْ التصوير هاتين، الكبيرة والصغيرة، اللتان أحيلتا إلى التقاعد وصارتا دون فائدة بعد عصر الديجتال، ولكنهما عزيزتان معزة الصور التي حصدتها بهما، ولكل صورة قصة تجر معها قصصاً، وكان من حصادها تلك الصورة التي وصلتك في المعتقل فكتبت من وحيها تلك القصيدة الرومانسية الرقيقة، تلك القصيدة التي ضاعت.

المنجم ما زال ينتظر منك أن تحقق وعدك له بالكتابة عن كنوزه، وينافسه في ذلك منجم الذاكرة العقلية الذي يضج أحياناً من ازدحام محتوياته في تنافسها من أجل الطفو على السطح للوصول إلى خانة الذاكرة الفاعلة معرباً عن خوفه من آفة النسيان. المنجم الأول يدّعي الأولوية في حق الحياة كتابة لأنه الأقوى متسلحاً بقوة التوثيق المادي، بينما يدّعي الثاني حق الأولوية لأنه الصامد الذي قد تخور قوى صموده في الانتظار ولأنه يعتبر مخزونه الأكثر حميمية والأكثر شمولاً من أول ذكريات الطفولة حتى الأمس القريب. يتصارعان على حق الأولوية وأنت خائف من الانحياز إلى أحدهما على حساب الآخر، وبالتالي تلجأ إلى حيلة التأجيل، أو الهروب إلى الأمام، كما يقال، بحجة المشاغل الأخرى، أو قلْ بسبب آفة التسويف التي تنصح الآخرين بالشفاء منها، ولكنك تفشل في حالات مثل هذه في معالجة نفسك منها، وبدلاً من الشفاء منها تحاول خداع النفس بتبرير مفاده أنك تفعل ذلك بدافع الأمل بأن توفيهما الحق كاملاً دون أن يعتب أحدهما على تقديم أخيه عليه فيغضب من التأخير ويتهمك بالإهمال. وهناك جانب آخر في هذه الدوامة المؤلمة تتحاشى الإعلان عنه أمام من يطالبك من الأصدقاء بكتابة "مذكرات"، إذ تقف أحياناً عاجزاً عند التفكير بالكتابة عن بعض مخزونات الذاكرة العقلية ويسقط القلم من يدك وتسأل نفسك: هل ستستطيع البوح؟ هل جاء وقت البوح؟ أو هل تستطيع إعطاء تلك التجربة العميقة في النفس، مثلاً، ما تستحقه من الإبداع دون أن تسقط في سرد ضعيف يبقى على سطحها غير قادر على الغوص في أعماقها الغنية؟

قد يضيع حق المنْجَمَيْن في الحياة إن بقيت في حالة الانتظار هذه. إذاً، لا بدّ من البدء والعمل على ما يطفو في اللحظة المناسبة على سطح الذاكرة العقلية، أو عند تصفح وثيقة أو صورة من مخزون الذاكرة المادية الذي تراجع بعض موجوداته، لأنه الأسهل في استثارة الكتابة، أي أن تلجأ للتداعي الحر بعيداً عن التخطيط المسبق. وللحق، ينبغي القول بأن كثيراً من تلك الكنوز في منجم الذاكرة قد خرجت متخفية بدرجة أو بأخرى من التخفّي، في نصوص قصصية أو شعرية أو نصوص مفتوحة سابقة كتبتها، ولكن مثل تلك النصوص كانت مزيجاً من الواقع والخيال. وهكذا تقرر أن تبدأ بعينة عشوائية، عينة صدفة، صدفة التصفح لوثيقة من الوثائق التي خزنتها إلكترونياً بالمسح الضوئي، أو تذكّر التداعي الذي يبدأ بأي مثير فيفتح نافذة الذكرى على حدث أو تجربة، أو صدفة اللقاء بصديق يبدأ الحديث عن حادثة طمرت تحت ركام الأيام فتبدو للوهلة الأولى غريبة، ثم تسري كهرباء التذكر في الأسلاك وتضيء زاوية في الذاكرة كانت الطاقة قد انقطعت عنها طويلاً فأظلمت.

كائنات الذاكرة المادية المحشورة في المغلفات والصناديق، ومثلها كائنات الذاكرة العضوية، تعيش وتتفاعل كالأطفال، مهما اختلفت تقاسيم الوجوه تبقى جميعاً غاية في الجمال، وتبقى بالنسبة لك كائنات حية غالية تسكن غرفها الخاصة في قصر الحنين، أطفال يتجمعون في احتفال الظهور، في حفلة الغناء، في غرفة الصف، في جلسة استماع للحكواتي، ينصتون لصوت المعلم أو الحكواتي، يسمعون السؤال، ما أن ينتهي طرح السؤال أو طرح المهمة حتى ترتفع أصابعهم وتهتز أياديهم بقوة: أنا أستاذ، أنا استاذ! فيحظى أحدهم بفرصة الإجابة الأولى، فرصة الظهور، فرصة التجلي. هكذا تماماً، ستخرج ورقة أو رسالة أو ذكرى لتقدح شرارة الذاكرة بقوة لتحظى بقصب السبق.

وفي مناسبة أخرى يخرجون من غرفهم في قصر الحنين، يدخلون عليك طيوراً محلقة تعبر فضاء خلوة تختليها، يقترب أحدهم منك، ينقر نافذة الهدوء ليفتحها، ينقر نقرة واحدة فيدخل، وإن استعصت يظل ينقر كنقار الخشب حتى يدخل ويحلق مغرداً، فيمتلئ فضاء الخلوة بتفاصيل الحكاية.

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت